منذ بدايات القرن أصبح ملازمًا لأحاديث المخيال الثقافي العربي حوارات التمدن ثم العولمة والحداثة وما ينبغي السعي إليه للحاق بركب الحداثة الواسع الأنيق مصدر الفخر للعالم الحديث شرقه وغربه. راكمت هذه الأحاديث تصورات الكتاب العرب في كل دولة على حدة. الثابت الوحيد الذي كان يجمعها هو وضع ثمة تصور يمكن للعرب انتهاجه للوجود في هذا المركب.

آنذاك، وفي خضم تلك الأحاديث كتب الصحفي والشاعر السوري يوسف الخال، ليس يوسف الخال الممثل الشهير الحالي، هو جده الأكبر لو شئنا الدقة. ثمة تصور نقدي يصلح تمديده من المجتمع السوري الذي طرحه من خلاله إلى المجتمع العربي الأكبر. في مقابل العالم الأوسع الذي يعيشون فيه على المستوى الثقافوي تحديدًا، كان الأدبي وقتها لكنه الآن يمكن تمديده ليشمل السينمائي أيضًا.

يقول “أما أن يصبح العالم الحديث عالمنا، أي ألّا يقوم بيننا وبينه حاجز، فلا يعني ذلك أننا أصبحنا تمامًا فيه. أي أننا تبنينا جميع معطياته ومفاهيمه الصالح منها والطالح في حياتنا، فلو كان الأمر كذلك، لما كانت القضية المصيرية التي تجابه العرب اليوم. على اختلاف بيئاتهم، هي كيف ننشيء مجتمع حديث في عالم حديث. هذا التناقض بين كوننا شكلًا في العالم الحديث وكوننا جوهرًا في خارجه يضطرنا إلى معاناة قضايا عالم حديث في مجتمع قديم، ومعاناة قضايا مجتمع قديم في عالم حديث، ففي التعبير عن معاناتنا تلك نعرّض أنفسنا لإنتاج أدب يجده القاريء الحديث بعيدًا عن قضاياه ومشكلاته، وفي التعبير عن معاناتنا الأخرى نعرّض أنفسنا لإنتاج أدب يجده القاريء العربي مستورد غربي”.

أعتقد أنه تصور شديد النباهة والتفرد، ليس لأنه يرجع خطوات للوراء، ليجعلنا نتساءل عن ماهية الحداثة من الأساس فقط. لكن لأنه يؤطّر المعرفة بمن يقولها ذاته، أي أنه يضع موقفنا ووعينا كعرب، كمتلقي عربي في القلب من تفسير معادلة الحداثة. ما يمكن أن نفهمه منها ونستخدمه من خلاله ولا ننهال عليها كشيء يفخر كل من بداخله أيًا كان ما يحتويه.

تظهر أصالة هذا التصور مع كل عمل فني أدبي أو سينمائي، مائع، يتسبب الجهل العام، المحض والمركب، في جعله حديث الجميع. عمل فني يتم مسرحته، فيصرخ الجميع بما في صدروهم المكلومة من قبل العمل. يصبح هذا العمل دون الحكم على مدى جودته الفنية شرارة سمحت بالصراخ من الكبت والحرية الزائدة على القدر ذاته.

هذا ما حدث منذ شهور قليلة أثناء الضجة التي تابعها أغلب المصريون أثناء عرض فيلم ريش في مهرجان الجونة الدورة السابقة. وهو ما يحدث الآن مع عرض فيلم “أصحاب ولا أعز. تتغير الشخصيات التي تتصدر مشهد المعارضة كما تتغير الشخصيات التي تتصدر مشهد الدفاع دون الوقوف قليلًا أمام العمل الذي تسبب في كل هذا الضجيج.

فيلم أصحاب ولا أعز الذي بدأ عرضه منذ أيام قليله أول فيلم عربي تنتجه منصة نتفلكس، الفيلم قام بتعريبه المخرج اللبناني وسام سميرة. وهو النسخة الـ19 من الفيلم الإيطالي الشهير  perfect stangersالذي عرض لأول مرة في 2016. ودخل موسوعة “جينيس” للأرقام القياسية في 2019 كأكثر فيلم قُدم بنسخ عديدة حول العالم. وهو الشيء الثاني الذي عليه أن يعلمه سيادة النائب، أنه تم تعربيه لدول غير عربية أيضًا، وأن ذلك الأمر صحي جدًا فنيًا في الأساس.

تدور فكرة الفيلم حول مجموعة من سبعة أصدقاء يجتمعون على العشاء، ويقررون أن يلعبوا لعبة حيث يضع الجميع هواتفهم المحمولة على الطاولة. بشرط أن تكون كافة الرسائل أو المكالمات الجديدة على مرأى ومسمع من الجميع. وسرعان ما تتحول اللعبة التي كانت في البداية ممتعة وشيقة إلى وابل من الفضائح والأسرار التي لم يكن يعرف عنها أحد بما فيهم أقرب الأصدقاء.

ويجمع الفيلم على قائمة أبطاله نخبة من الفنانين العرب، هم: الفنانة والمخرجة اللبنانية نادين لبكي، الفنانة المصرية منى زكي. الفنان الأردني إياد نصار، والفنانين اللبنانيين جورج خبّاز، عادل كرم، فؤاد يمين، وديامان أبو عبود.

“مثلما فعلت روسيا، لا بد أن نمنع نتفلكس أن تكون موجودة في مصر، هؤلاء تجار لديهم أجندة سياسية، لو منعت لبعض الوقت سيراجعوا أنفسهم.. الفيلم يستهدف ضرب منظومة القيم الأخلاقية والقيمية في مجتمعنا، علينا أن نصنع فن يجتمع عليه المجتمع مثلما صنعنا مسلسل الاختيار على سبيل المثال”. هكذا عبر النائب مصطفى بكري عن رأيه مع عمرو أديب في برنامج الحكاية بعد أن طلب حماية الأسرة المصرية بمنع الفيلم ثم منع المنصة بعد عرض فيلم “أصحاب ولا أعز”.

منعًا للكثير من السخرية من منع منصة عالمية رأسمالها يتجاوز ما يمكن أن تحققه عدة دول عربية، خرجت الرقابة على المصنفات الفنية تنفي اعتبار الفيلم مصري أساسًا. لن نتحذلق قليلًا بالرغم من احتياجي لذلك وأقول أن تلك ليست القضية. لكنها على الأقل ستصبح العائق أمام عضو مجلس النواب مصطفى بكري، الفيلم يمكن اعتباره لبناني المكان، شراكة إنتاجية بين عدة دول، ترجع في النهاية لنتفلكس العالمية.

في جمعية النقاد المصريين الشهر السابق طرحت تلك القضية أثناء التحضير لأفضل أفلام هذا العام التي عرضت على المنصات. وكان الجدال أن وجود أكثر من منتج يصعّب من اعتبار الفيلم مصري أو غير مصري لأنه لا يوجد معيار واحد. هل هو بلد التصوير أو جنسية المخرج أم بلد الإنتاج، أشياء كثيرة يمكن وضعها في الحسبان، بالنسبة للنائب مصطفى بكرة مثلًا مجرد ذكر الملوخية المصرية في الفيلم جعله فيلم مصري، وهكذا.

لا أغضب من سيادة النائب، بل أحترم تصرفه الذي ربما يعبر عن تصوراته عن العالم وما يؤمن به، أو من يريد أن يصل صوتهم من خلاله. كل ذلك لا يهم قليلًا في سياق الحديث الآني، بالطبع ندينه على مصادرة حق الناس في عرض قضاياهم. أغضب أكثر على المدافعون عن الفيلم أمام اتهامات سيادة النائب، الواقفون دائمًا في حجرة المتهم.

الجاهزون بردود مثل “الفيلم مكتوب في قلبه أنه يحذر مشاهدته لمن هم دون الـ16. الفيلم معروض على منصة عرض مدفوعة يختار المشاهد بنفسه ذلك” ولا أعلم إلى الآن لماذا علينا تبرير الأمر في كل مرة. في موقف المتهم المُدان الذي عليه أن يبرر ذاته للآخر والعالم.

يمكن أن نحاول وضع حوار بنّاء مع سيادة النائب للتفرقة بين الحديث عن قضية ما أيًا كانت. وبين خلق عمل فني غير متحيز لأي شيء، في حوار غير مجازي واضح تمامًا نسرد فيه الكثير من البديهيات ليست البديهية السابقة فقط.

قيم الأسرة المصرية التي “يخدش الفيلم حياءها”، وربما لكي نضع مقدمة المقال في سياقنا الحالي. ولكي نتقدم خطوة على الرد الذي قيل لبكري أنه فيلم لبناني ليس مصري. ربما يخدش الفيلم قيم الأسرة العربية كلها، لكن على ما يبدو ليست للأسباب ذاتها التي أزعجت سيادة النائب ومؤيديه من وجود ألفاظ نابية وشاب مثلي الجنس، بل أبعد كثيرًا من أن تُرى.

مثلية الجنس يشاهدها المجتمع العربي كل يوم على المنصة ذاتها التي عرضت الفيلم، هل تعلم لماذا يا سيادة النائب؟ لأن المنتجون العرب أصبح الوصول إليهم أصعب من الحصول على الزئبق. مع كل عشرة فنانين عرب يجد أحدهم منتج يمنحه فرصة الحصول على تمويل عمله.

الألفاظ النابية التي أزعجت النائب خلقت لذاتها مكان كصديق عزيز بين الرجل والنساء ربما لأسباب تتجاوز نتفلكس أيضًا. ما يمكن أن يجعل طرح مصطفى بكري منطقي هو خروجه من رجل غير مختص أو معني بالفن في النهاية. فقط ثمة رجل غاضب من أشياء تزعجه لا يدرك كفاية فقط كيفية التعبير عن غضبه ذلك، لكن بالرغم من كل شيء أؤيد تصوره نقديًا فيما عدا مصادرة العمل أو التضييق على صناعه.

ما يبعث على الغثيان هو طرح هذا الفيلم، وتعريبه، دون وجود ثمة تفصيلة واحدة أصيلة تثمّن من هذا التعريب عن طرحه سابقًا كفيلم غربي أو أمريكي. يدور الفيلم على مدار قرب الساعتان في لبنان البلد الذي يعج بأزمات سياسية طاحنة في منزل برجوازي هاديء. تُزعج العين أنواره البراقة بعيدًا تمامًا عن مجرد إشارات ولو كوميدية لبلد تنطفيء أنواره كل عدة ساعات بالأيام. منذ سنوات بعيدة، ليس ثمة إشارة إلى أي أزمات بالعمل أو المجتمع أو المواصلات.

دون وضع أي بُعد درامي حقيقي حول أي شخصية من الأبطال، نجلس مع الأبطال على الطاولة نشاهد اللعبة القديمة ذاتها التي شاهدناها في الفيلم الأصلي. لتتحطم الأسرار واحدة بعد الأخرى، أسرار في قلبها قضايا جميعنا يعلم أنها تهم نتفلكس بالطبع. لكن ليس لتحطيم الأسرة المصرية، تهم نتفلكس لأنها تؤمن بها، ببساطة، ما يؤخذ على القصة هو وضع تلك الأهمية في سياق فارغ. غير معني بأي شيء دونها كطفل صغير أناني متمسك بلعبته.

فيلم أصحاب ولا أعز، سيء، ركيك، محدود الرؤية، سطحي مسطح، يحدث فرقعة دون أثر، دون مؤامرات أو الإيمان بمؤامرات ليس صدفة أن يكون أول إنتاج عربي لنتفلكس يطرح قضية المثلية الجنسية. المهمة بالطبع دون مزايدة لكن صناعة فيلم عربي في الظرفية التاريخية. دون مزايدة كانت ستجد ثمة أشياء أكثر احتياجًا للحديث حولها، فيلم لا يملك نقطة قوة واحدة باسثناء أداء منى زكي. معرّب بشكل مخجل، لكن ليست تمامًا للأسباب ذاتها التي قالها مصطفى بكري.

بالرغم من كل شيء ضد النائب مصطفى بكري الذي يصادر على عرضه أساسًا وحق الناس في الحكم بنفسها. وضد الساذجون الذين يخرجوا في كل مرة ليقفوا في قفص الإتهام دون سياق، في لحظة استثناءية لا نتورط في تأييد مصطفى بكري وأصدقاءه. ولا نتورط في الدفاع عن فيلم رديء، اللحاق بركب الحداثة كما فككها الشاعر والصحفي يوسف الخال لن يحدث بضجة وصراخ ووضعنا في سياق قضية تم إقحامها في فيلم مهتريء، غير مبشر، يهدف لإثارة الجدل، لن يحدث بغربنة قضايانا كنوع من “الروشنة الفنية” بل بفهم أوضح لأولويات قضايانا والوعي بسياق طرحها بشكل أصيل دون “روشنة”.