مقدمة افتتاحية:
هذا هو المقال الثاني من بين مجموعة من المقالات التي يتناول فيها الكاتب الظروف الخاصة (بالسجناء الجنائيين) داخل مراكز الاصلاح والتأهيل- السجون سابقا- بهدف البحث عن أفضل طرق إعادة تأهيلهم ودمجهم بعد الإفراج عنهم، وتقليل معدلات الإجرام، والحد من جرائم العود.
كما يظهر الغرض من كتابة هذه المقالات في تقديم الآراء الباحثة في الإجراءات الناجحة لإصلاحات السجون عبر الدول المختلفة، وصياغة أفضلها وأقربها إلى الواقعية ووضعها بين يدي المسئولين عن تطبيق العدالة الجنائية في مصر، وذلك بغية دعم أحد الفئات الأكثر تهميشا داخل المجتمع المصري وهم (السجناء/ السجينات _ المجرمين/ات)
يأتي ذلك في سياق وصف موقف حقيقي مر به الكاتب داخل السجن منذ سنوات عديدة، ثم إسقاط هذا الموقف على إحدي الإشكاليات التي يواجهها السجناء الجنائيون سواء داخل مراكز الإصلاح والتأهيل أو خارجها بعد الإفراج عنهم.
الخمول
المشهد الأول: شتاء عام 2014- الليلة الأولى داخل زنزانة جرائم النفس (جرائم الاعتداء مثل القتل والاغتصاب)
استقيظت بعد أن استغرقت في النوم ثلاث ساعات تقريبا، كانت هذه هي المرة الأولى التى أنام فيها داخل السجن، نهضت ثم خطوت نحو (دورة المياه) حتى أقضي حاجتي، ليمنعني أحد السجناء ويقول لى (بالدور) ابتسمت له ثم اعتذرت، ذلك أحد قوانين العالم داخل السجون (لكى تقضي حاجتك عليك أن تحجز في الدور).
استدعانى عم (مسعد) أحد السجناء المتهمين بالقتل، كان في العقد الرابع من عمره، عرفني بنفسه ثم بدء في إلقاء التعليمات الخاصة بالحياة داخل السجن، وقال (الكلمة هنا بحساب، والحركة بحساب، انسى الحياة بره السجن، أنت قاعد مع الناس دي 24 ساعة، التريض لمدة تلت ساعة، وآخره نص ساعة والباب بيتقفل) أنا بقولك الكلام ده عشان أنت شكلك نضيف…
استمعت إلى (عم مسعد) في إنصات تام، وكالعادة أطلقت العنان إلى نظري كى يتجول في الزنزانة حتى أدرك وأتعرف على هذه الحياة الجديدة، وكان المشهد أن السجناء داخل الزنزانة قد قسموا أنفسهم مجموعات لكل مجموعة معيشتها الخاصة.
يقضون وقتهم ما بين الآتى حصرا: (الخروج إلى التريض، الخروج إلى الزيارة، الخروج إلى العيادة إذا لزم الأمر، النوم، تجهيز وتناول الطعام، مشاهدة التلفاز الأرضى أو الاستماع إلى الراديو إذا توفروا، لعب الكوتشينة والطاولة المصنوعتان من كرتون عبوات السجائر، رسم الوشم، الاشتغال في المشغولات اليدوية الاكسسوارات، بعض المناكفات والمشاجرات) وذلك حتى يمر الوقت واليوم يعدي..
في صباح اليوم التالى، عندما فُتح باب الزنزانة لكي نخرج إلى قضاء فترة التريض، خرجت لكي أستكمل مشاهدتي عن هذا العالم الجديد، ممسكا في يدي كوبا يحتوي على مشروبا ساخنا، ووقفت أمام آخر شباك في الدور الثالث موقع الزنزانة.
حيث إنه يطل على مبنى الإدارة، أشاهد في صمت عملية تنظيم دخول أسر السجناء للزيارة، أتابع في تيهة وشرد شديدين، حتى أتى أحد السجناء وقالى لى: أنت سرحان كده ليه؟ فقلت له إنني أبحث عن أسرتي، فرد بأكثر جملة قد كرهتها أثناء قضاء فترة عقوبتي (أنت بقالك أد إيه محبوس) فقلت له لسه ماكملتش أسبوع، ليرد بأن مازال الطعام الملكي في جوفي، وأكمل حديثه بأن أترك النظر إلى أسر السجناء، فلن يُسمح بزيارة أسرتي إلا بعد مرور 15 يوما على إيداعي السجن.
المشهد الثانى: شتاء 2022.
أجلس داخل مكتبى مستغرقا في قراءة كتاب للمؤلف تيري كوبرز بعنوان (الجنون في غياهب السجون) الذي يتناول أوضاع السجون في الولايات المتحدة الأمريكية.. حتى استوقتني جملة في غاية الخطورة:
“الحبس في زنزانة دون تفاعل اجتماعي حقيقي أو نشاط هادف يؤدي عادةً إلى تفاقم الاضطرابات العقلية بصورها كافة”.
ذلك تحديدا ما تحقق وما رأيته أثناء فترة سجني في عام 2014 فإن حياة السجناء لم تخرج عن ما تم وصفه في المشهد الأول..
إذا ما هو الوضع عندما نضع الشعور السلبي الناتج عن الحرمان من الحرية، بجانب الشعور السلبي الناتج عن الخمول؟
يجيب المؤلف في قولته واصفا وضع السجون الأمريكية في السابق:
“السجون التي يكون فيها التعداد أعلى بكثير من القدرة الاستيعابية المُقدرة للسجن، ينتشر فيها الخمول. ومما يزيد من تفاقم تأثر الازدحام وقف البرامج التعليمية والتأهيلية أو تقليصها، وهو ما حدث أثناء السنوات ذاتها التي حدثت فيها زيادة هائلة في أعداد السجناء.
فانخفض عدد الوظائف ذات القيمة في السجون، وأدى تزايد العنف لتحويل صالات الألعاب الرياضية إلى مهاجع، وقلت من ثم المرافق الترفيهية، وأدى تزايد العنف إلى العديد من الحبس المشدد وإطالة مدته، مع خرق عدد كبير من السجناء للقواعد وإرسالهم إلى الحبس الانفرادي؛ ما يعني فقدانهم لوظائفهم وإمكانية الوصول إلى الفصول الدراسية والمكتبية والساحة الرئيسية للسجن.
تزيل بعض الولايات أيضا ألعاب الأثقال من ساحات السجون. وبالطبع مع انخفاض أعداد الوظائف ذات القيمة في السجون وبرامج إعادة التأهيل، يقل النشاط التدريبي والإنتاجي للسجناء، ويزداد الخمول، بالإضافة إلى تراجع الأمل في تمكنهم من النجاح في حياتهم بعد الخروج من السجن”.
وهنا عزيزي القارئ لابد أن أتساءل عن البرامج المطبقة داخل السجون، فإذا كانت مؤسسات الدولة المعنية قد اتخذت سبيلها في تطوير البنية التحتية للسجون، فهل اتخذت سبيلها أيضا في تغيير البنية الخاصة بالبرامج المنفذة داخل السجون؟ ومن الذى وضع هذه البرامج؟ أشخاص أخصائيون في علم النفس السلوكي الإدراكي وعلم الاجتماع أم هم مسئولون من هيئة الشرطة؟
بمعنى آخر، هل هذه البرامج يغلب عليها الجانب الإنساني أم الجانب الأمنى؟ هل هذه البرامج تعزز الشعور بالذات وتشجع السجناء على المشاركة؟ أم هي برامج تقليدية منفصلة عن الواقع؟
يتسائل فوكو:
لماذا فشلت مؤسسة السجن؟
وفوكو هو الذى ميز منذ البداية بين تطور القانون الجنائي والمؤسسة العقابية. ورأى أن القانون صار يهدف في نظره إلى المجرم كما لو كان منحرفا أو مريضا أو خاطئا، وأنه بدلا من عقابه يجب إصلاحه أو إشفاؤه أو إعادة تأهيله، في حين بقي السجن على حاله كما كان قبل قرن ونصف حسب تقدير فوكو نفسه. إذ ظل السجن أداة إنتاج للجريمة والانحراف كمؤسسة عملية، فالمنحرف العابر يتخرج من السجن خبيرا بارتكاب الجرائم الموصوفة قانونا.
في رأيي المتواضع أنه لابد من استراتيجية متكاملها من البرامج التى تعزز قيمة السجناء لدى أنفسهم وتدفعهم إلى المشاركة بهدف تغيير سلوكهم وترك الفكر الإجرامى، كما أنه لا بد أن تكون هذه الاستراتيجية موضوعة من قبل أخصائيين مدنيين لا يغلب عليهم الجانب الأمنى، وهو ليس تقليلا من المسئولين الأمنيين، بل هذا ما تسير عليه أنظمة العدالة الجنائية الحديثة.
حيث تقرر إحدى الدراسات المنشورة بمجلة العلوم القانونية والاقتصادية بجامعة عين شمس أنه “تكشفت للباحثين قيمة العمل في السجون وأثره المؤكد في تحقيق فكرة العلاج والاندماج الاجتماعى هذه، لأنه فضلا عن أن العمل هو الوسيلة لإعداد المسجون لمهنة أو حرفة يكسب منها عيشه عن طريق شريف بعد خروجه إلى المجتمع فلا يبقى عالة عليه، فإنه متى انطبع في نفس المجرم السجين حب العمل واحترامه شعر بمنزلته الآدمية وارتدت إليه الثقة في نفسه فانعكس ذلك على خلقه وسلوكه فاستقام حاله وأصبح مهيئا للاندماج ثانية في المجتمع الذى كان خارجا عليه.. وعن طريق هذا التفكير ظهرت نظرية اتخاذ العمل في السجن وسيلة للتقويم والتهذيب وإعداد المسجون للاندماج في المجتمع”.
حيث يجب أن تكون هذه الاستراتيجة هادفة إلى تمكين السجناء من فرصة عمل حقيقية بعد الإفراج عنهم، يحققوا من خلالها مفهوم الكسب والقدرة على تحمل المسئولية، فمن غير المنطقى أن تكون المهن المتاحة داخل مراكز الإصلاح والتأهيل السجون سابقا هى مهن حرفية تقليدية، فالواقع خارج السجون قد تغير كثيرا عن تلك الأنواع من العمل.
وانتهت إحدى الدراسات إلى:
“أن العمل يحافظ على صحة المسجون البدنية والنفسية، إذ إنه يقلل من احتمالات تعرضه للاضطرابات النفسية والعقلية التى كثيرا ما تنتاب المسجون لدى إيداعه السجن، ومن أهمها، الخوف، والقلق، والحزن، والشعور باليأس والضياع، والذهول، والاستسلام، واللامبالاة، والندم، والمرض”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ممدوح جمال الدين محامي ومدير مكتب ثيميس لدعم وتمكين الجناة