إذا كانت ثورة الـ25 من يناير التي مر عليها اليوم 11 عامًا قد لوحقت بالكثير من الاتهامات بالمؤامرات والفشل السياسي. إلا إن الحراك الثوري ذائع الصيت قد ترك أثره على الكثير من مؤسسات السلطة في المجتمع المصري. وأعنى بمؤسسات السلطة هنا هي تلك التي يرسمها الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في نظريته الشهيرة المعرفة والقوة أو المعرفة والسلطة -في ترجمات أخرى. إذ تتنوع مؤسسات فوكو ما بين الديني كمؤسسة الكنيسة أو المؤسسة الأزهرية. وأيضًا ما بين الاجتماعي كمؤسسة الأسرة وما بين السياسي كمؤسسات صناعة السلطة، وحمايتها مثل الأجهزة الأمنية.
المعرفة والسلطة في نظرية فوكو
نظرية فوكو التي حلل فيها مستويات عدة من مفهوم القوة يمكن قراءتها بالنظر إلى أوضاع الكنيسة المصرية كمؤسسة سلطة/قوة ذات طابع ديني. فهي من ناحية مؤسسة ارتبطت بعلاقات متشعبة مع نظام مبارك الذي لوحق بالثورة، ومن ناحية أخرى، فإنها مؤسسة تفرض سلطة دينية وكهنوتية على المسيحيين المصريين وتتمتع بأدوات متعددة لممارسة تلك السلطة. أدوات تتنوع ما بين القانون (الأحوال الشخصية مثلاً) أو الدين متمثلاً في سلطة الكهنوت. وهي كلها آليات تمكن الكنيسة كمؤسسة من تغيير الواقع الاجتماعي ليس للمسيحيين فقط. بل للمصريين جميعًا باعتبار المسيحيين هنا جزءا من معادلة أوسع تؤثر وتتأثر بتلك التفاعلات.
يقترح فوكو نموذجًا استراتيجيًا للسلطة؛ فلا يرى السلطة كأمر ثابت أو مستقر، إنما تأتي من تحت إلى فوق؛ أي إنها لا تفرض من فوق. لكنها تشكل نظامًا متسلسلاً بين الحاكمين والمحكومين. كما تتشعب من الدولة إلى مؤسسات أصغر حتى تصل إلى الأسرة.
كل مجموعة من هؤلاء تساهم في بناء علاقات السلطة تلك. بمعنى آخر، الأسرة الصغيرة تتشكل بناءً على علاقات السلطة تلك بها (حاكم ومحكوم)، وهكذا في نظام متسلسل دون أن يكون لتلك القوة مركزًا محددًا. فهي متجذرة في كل تلك العلاقات. لكنها غير مستقرة؛ إذ تعيش حربًا لا هوادة فيها من أجل فرض المزيد من تلك السلطة أو حتى العمل على استقرارها. ووفقًا لتلك المعادلة، يمكننا فهم علاقة الكنيسة بالأقباط. ثم علاقتها بالدولة ككيان أوسع يحمل تلك السلطة.
ففي حين تعتبر الكنيسة مؤسسة سلطة لجموع الأقباط تفرض عليهم هيمنتها من تحت إلى فوق، فهؤلاء الرعايا يرضخون لسلطة الكنيسة الدينية بكامل إرادتهم، ما يمنحها المزيد من أدوات السلطة. إلا إنها في الوقت نفسه كمؤسسة تتصل بعلاقة سلطة أخرى مع الدولة المصرية التي تتواجد في نطاق سلطتها السياسية.
ثورة يناير التي خلخلت الكنيسة كمؤسسة
وبالتالي، فإن ثورة يناير إن كانت قد عملت على خلخلة مؤسسات الدولة السياسية، فإنها عملت في الوقت نفسه على خلخلة الكنيسة كمؤسسة، إذا ما طبقنا مفهوم فوكو للقوة على تلك المعادلة وكأنها أواني مستطرقة إذا اهتزت أحداها تؤثر مباشرة على جارتها وهكذا.
يقول فوكو: في الماضي كان الكاهن المسيحي هو الذى يمنح المشروعية للسلطة السياسية. أما في مجتمعات الحداثة التي تشكلت بعد الثورة الفرنسية فقد أصبحت العلوم الإنسانية هي التي تمنح المشروعية لمؤسسات السلطة السياسية. وبالتالي، فهناك تواطؤ بين مختلف أجهزة المجتمع ومؤسساته”.
وهو ما يمكن فهمه مباشرة من موقف الكنيسة القبطية من ثورة الخامس والعشرين من يناير فور انطلاقها. ففي البداية رفضت الكنيسة على لسان البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية آنذاك المشاركة في الثورة، حين أعلن الصلاة من أجل مصر. وقد دعا الشباب إلى ضرورة الابتعاد عن دعوات التخريب. ثم قال في مداخلة تلفزيونية شهيرة مع الإعلامي عمرو أديب: “نحن بطبيعتنا نود أن نعيش في هدوء ولا نحب أن نشترك في مظاهرات أو في أعمال من هذا النوع، طبيعتنا كده”.
هذا الموقف يراه فوكو كما كان يرى الكاهن المسيحي الذي يمنح المشروعية للسلطة السياسية في خضم حديثه عن علاقة الكنيسة بالسلطة في عصور ما قبل الحداثة الأوروبية.
علاقة الكنيسة بالسلطة
وفي مستو آخر، يمكن من خلاله فهم الكنيسة كمؤسسة سلطة عند فوكو حين يربط بين المعرفة والقوة. يقول: “المعرفة لا توجد في جهة والسلطة في جهة أخرى. إنما المعرفة هي بحد ذاتها سلطة، والسلطة تكون قادرة على جلب المعرفة إلى جانبها. وهكذا الإنسان عندما يمتلك المعرفة يتحول إلى مصدر سلطة في مجتمعه. والإنسان الذي يمتلك السلطة يستطيع أن يجذب إليه كبار العلماء، وإن يستغل معرفتهم في ترسيخ سلطته إذا أراد”.
وبناءً على تلك الفرضية، يمكننا فهم علاقة الكنيسة بالدولة؛ فالأولى مؤسسة معرفة تمتلك المعرفة الدينية التي تمكنها إلى جانب سلطة الكهنوت من السيطرة الروحية وأحيانًا القانونية على جموع رعاياها الأقباط.
هنا، ثنائية المعرفة والقوة التي لا يمكن أن تترك بمفردها فنجدها تنضم إلى سلطة أخرى. وهي سلطة الدولة التي ترسخ قوتها بالمزيد من القرب من الكنيسة كمؤسسة سلطة ومعرفة في آن واحد. وهو ما يمكن رؤيته في علاقة الكنيسة بالدولة في نهايات عصر مبارك. إذ تمتعت الدولة بدعم الكنيسة. خاصة في المواسم الانتخابية التي جرى فيها تبادل مصالح سياسية بين مؤسسات السلطة تلك.
فمن ناحية رغبت الدولة في الحصول على أصوات الأقباط في الانتخابات البرلمانية والرئاسية. وفي المقابل قدمت الدولة للكنيسة بعض الهبات، مثل تعيين نواب أقباط بقرارات رئاسية في البرلمان أو الموافقة على ترميم أو بناء بعض الكنائس.
كيف تأثرت الكنيسة داخليًا بثورة يناير؟
حين احتدت أصوات الجماهير تنادي “الشعب يريد إسقاط النظام” طوال 18 يوم في يناير وفبراير 2011، لم تحدد الجماهير الغاضبة ما تعنيه بالنظام: هل هو النظام السياسي أم نظام مبارك؟ أم أن الفكرة تتسع لتضم النظام السياسي وما خلفه من نظم دينية واجتماعية؟
بعيدًا عن المغزى من هتافات تلك الجماهير الثائرة، فإن المؤسسات الدينية لم تكن بعيدة عن خلخلة القوة تلك. فقد أيدت الكنيسة الثورة التي رفضتها في بدايتها. وقالت في بيان لها صدر بعد تنحي مبارك عن “اللجنة المصغرة” للمجمع المقدس والمكونة من 9 أساقفة من الكنيسة القبطية: “إن الكنيسة تحيي شباب (25 يناير) الذي قاد مصر لثورة قوية بيضاء، وبذل فى سبيل ذلك دماء غالية لشهداء الوطن الذين مجدتهم مصر قيادةً وجيشًا. بل مجدهم الشعب كله ونحن نعزى أهلهم وأفراد أسرهم”.
لم يكن هذا التغيير الوحيد الذى حظت به الكنيسة بعد ثورة يناير. فقد أصاب اختلال علاقات القوى السياسية الكنيسة داخليًا. وهو الأمر الذى أسهم بشكل كبير في تشكل جماعات مسيحية تمارس العمل الحقوقي لا تتفق مع الكنيسة بشكل آلي، كما كان في السابق، ومن بينها اتحاد شباب ماسبيرو. بل إن السنوات التي تلت ثورة يناير شهدت الكثير من مظاهرات المتضررين في قضايا الأحوال الشخصية، أي الراغبين في الحصول على الطلاق، يحاصرون أبواب الكاتدرائية. وهو تغير جديد في جدلية العلاقة بين الكنيسة ورعاياها. إذ يكشف عن اهتزاز في السلطة المطلقة التي تمتعت بها الكنيسة كمؤسسة في السنوات السابقة للثورة.
جرأة ما بعد يناير
ويشكو الكثير من القساوسة ورعاة الكنائس مما يصفونه بجرأة الشباب بعد الثورة. وهو أمر يمكن تفسيره مرة أخرى، في ظل موت النظرية الأبوية. فالثورة التي جاءت لتحرك النظام البطريركي السياسي عملت على هز البطريركية الكنسية عبر عدة مستويات: الأولى على مستوى الباباوية نفسها. وهو ما نراه في الكثير من الانتقادات التي توجه للبابا تواضروس حاليًا. ثم انتقل هذا الحراك إلى مستويات أقل مثل الغضب ضد الأساقفة وصولاً إلى رعاة الكنائس الذين عبروا كثيرًا عن شعورهم بالفرق بين مرحلتين ما قبل وما بعد الثورة في العلاقة مع رعاياهم، لا سيما الشباب. وكأن الثورة جاءت لتعيد رسم علاقة القوة بين الحاكمين والمحكومين، كما يراها ميشيل فوكو.
أما الآن، فإن الكنيسة تعيش مرحلة جديدة تعيد فيها رسم علاقاتها وتفاعلاتها داخليًا وخارجيًا بين البابا ورعاياه من ناحية، وبين الكنيسة والدولة من ناحية ثانية، وبين الأقباط ودولتهم من ناحية ثالثة. إلا أن تلك المرحلة الجديدة لا يمكن أن يتم النظر إليها أو دراستها بمعزل عن معطيات وتغيرات فرضتها الثورة.