في الجزائر تجري الآن اجتماعات متواصلة منذ أيام ومستمرة لنهاية الشهر، بين الفصائل الفلسطينية الست الكبرى، وعلى رأسها حركتي “فتح” و”حماس”. ذلك تحت عنوان رسمي: “استعداد للانخراط في حوار يفضي إلى إنهاء الاقتسام”. ولكن بعيدًا عن الرسمي، فإن الفعلي، وتحت هذا العنوان لا يمكن تحقيقه. إذ أن شروطه غير متوافرة، ولا توجد أرضية مشتركة بين طرفي الانقسام يمكن البناء عليها.
وبناءً عليه، فإن الأسباب الداعية للحوار هي أسباب جزائرية إقليمية في المقام الأول. وتسعى فيها الأخيرة لإعادة بعض الزخم إلى دبلوماسيتها التي تعمل على إنعاشها مؤخرًا لأسباب داخلية وأخرى خارجية.
داخلية، تحاول فيها اكتساب مزيد من الشرعية شعبيا، وخارجية لمواجهة التقارب المغربي الإسرائيلي. دون نسيان إرثها الداعم للقضية الفلسطينية تاريخيا، وحاجتها إلى استدعائه الآن أكثر من أي وقت مضى.
ووفقًا لريكاردو فابياني، مدير مشروع شمال أفريقيا بمجموعة الأزمات الدولية، فمن وجهة نظر الجزائر، روابط المغرب الوثيقة بإسرائيل تشكل خطرًا على أمنها القومي. “تعتقد السلطات الجزائرية أن المغرب أصبح يشكل موطئ قدم لإسرائيل في شمال أفريقيا، وأن هذا التحالف، سيؤدي على المدى الطويل، إلى قلب ميزان القوى بين البلدين لصالح الرباط”.
وفي هذا السياق، سعت الجزائر إلى تعزيز علاقاتها مع الفصائل الفلسطينية “لموازنة الوجود الإسرائيلي في المنطقة. وأيضًا لتذكير الإسرائيليين بأنها تستطيع أيضًا أن تكون شوكة في خاصرتهم”.
القمة العربية “المؤجلة” في الصورة
أما سياق التوقيت، فقد كانت استضافة الجزائر لقمة جامعة الدول العربية التي قُرر إقامتها في مارس/آذار قبل أن يتم تأجيلها. وهي أيضًا كان عنوانها الرسمي ملف القضية الفلسطينية، والفعلي محاولة إعادة دمج سوريا تحت مظلة الجامعة العربية. وهو موقف تتبناه الجزائر رفقة مصر والإمارات. بينما تتحفظ عليه كلا من السعودية وقطر لأسبابهما المختلفة.
ويشير عدم التوافق إلى سبب تأجيل القمة، التي ترغب الجزائر في إظهارها بصورة ناجحة وضمان مستوى تمثيل عال من جميع رؤساء الدول العربية. وهو ما بدا أنه لن يتحقق فتم التأجيل. وقد حرصت الخارجية الجزائرية على ألا تظهر وكأنها أخفقت. وقال وزيرها رمطان لعمامرة إن “تاريخ التئام القمة العربية لم يحدّد أصلاً ولم يتّخذ أي قرار بشأنه بعد، خلافًا للمغالطات التي يتم تداولها هنا وهناك تحت عنوان تأجيل موعد القمة”.
وكشف بيان الخارجية الجزائرية أن الوزير لعمامرة أبلغ سفراء الدول العربية المعتمدين بالجزائر، خلال لقاء عقد يوم السبت، 22 يناير/كانون الثاني، بأن رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون اقترح موعدًا لعقد القمة المقبلة. “يجمع بين الرمزية الوطنية التاريخية والبعد القومي العربي، ويكرس قيم النضال المشترك والتضامن العربي”. ما يُرجّح إمكانية إقامتها في يوليو/تموز المقبل. ذلك تزامنًا مع احتفال الجزائر بستينية استقلالها في الخامس من ذاك الشهر.
وعلى هذه العوامل مجتمعةً يُنظر إلى اجتماع الفصائل الفلسطينية كمحاولة لـ”تعزيز مكانتها في المشهد الإقليمي العربي من البوابة الفلسطينية” بتعبير المحلل الفلسطيني محمد المشارقة. وفيها يكون الأقرب توصيف تلك الاجتماعات بأنها “استطلاعية”، مع الإشارة إلى أن اجتماعات الجهات السيادية الجزائرية حاليا تتم مع كل فصيل على حدة، وليس مجتمعين.
ويعني الأمر أن الجزائر لم تختر الإشراف على الحوار، وتشجيع الفصائل الفلسطينية على الحوار داخل أرضها، بل اعتمدت منهجية الوساطة لتقريب وجهة النظر، بحيث ستتكلف بإقناع كل طرف على حدة، باتفاق الحد الأدنى الذي عليه ستتأسس المصالحة التي سيتم الإعلان عنها.. أو هكذا رؤيتها.
انعكس ذلك في التمثيل الذي كان على مستوى أعضاء المكتب السياسي في “حماس” واللجنة المركزية في”فتح”. إذ حضر عن حماس عضوي المكتب السياسي خليل الدحية وحسام بدران، بعدما تلقى إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي دعوة رسمية شكل على إثرها وفدا ضم العضوين. وحضر عن فتح أعضاء اللجنة المركزية عزام الأحمد ودلال سلامة ومحمد المدني. وكذلك حضر ممثلون عن الفصائل الفلسطينية الأربع الأخرى: الجهاد الإسلامي، الجبهة الديمقراطية، الجبهة الشعبية، الجبهة الشعبية – القيادة العامة.
اقرأ أيضًا – حوار| عضو المكتب السياسي لـ”حماس”: مصر معنا “يوميا”.. وشعبنا لن يوافق على قيادة لم ينتخبها
وفي هذا السياق، تدرك كلا من فتح وحماس أن الحاجة للحوار هي حاجة الداعي قبل المدعو. وأن القبول بخطواته؛ إرضاءً للطرف الجزائري الداعم لكليهما. وهو ما يُفسر عدم حضور القيادات الرئيسية وغياب رئيس مكتب حماس في الخارج، خالد مشعل، عن الحضور. بينما ترى صحيفة “المصري اليوم” تفسير آخر وهو أن عدم حضوره “إشارة إلى موقفه من السلطة السورية، حيث كان له موقفا معارضا، في حين أن الجزائر تسعى لعودة سوريا لمقعدها في جامعة الدول العربية”.
“سجال” ما قبل الحوار
بحسب صحيفة “إندبندنت عربية” فإن اتهامات متبادلة وأجواء متوترة بين حركتي فتح وحماس كانت قد جرت قبل اجتماع الجزائر. فقد قال مسؤول العلاقات الدولية في حركة “حماس” موسى أبو مرزوق إنهم يرغبون في شراكة بين الفصائل الفلسطينية “وفق خط سياسي سليم، من دون التنازل عن الثوابت الوطنية بأي حال، وعلى رأس ذلك المقاومة المسلحة، لكن نحن أمام انسداد في الأفق والخيارات لدى حركة فتح، التي تعرقل هذا المسار، ولا تريد أن تذهب لأي من هذه الخيارات”.
اتهام “حماس” هذا، أثار غضب “فتح” التي تعتبر أنها لا تعرقل مسار المصالحة إطلاقًا، وقال أمين سر اللجنة المركزية للحركة جبريل الرجوب إنهم لم يقطعوا الاتصالات مع حماس، “على الرغم من عدم امتلاكهم موقفًا واضحًا حول الشراكة الوطنية، ودائمًا يرفضون كلّ ما يطرحه الرئيس محمود عباس”.
وأضاف الرجوب “الإخوة في حماس لا يوجد لديهم نضج كامل، ولا وحدة موقف في مفهومهم لبناء الشراكة السياسية، كما أنه منذ كان خالد مشعل زعيم حماس السابق، ورئيسها الحالي، لم تصدر عنه كلمة واحدة على الأقل، تدعو للحوار الوطني أو تدعمه، لذلك أدعوهم لعقد حكومة وطنية ذات برنامج سياسي يتوافق مع الشرعية الدولية”.
واعتبرت “حماس” أن انتقاد الرجوب لها يأتي لتوتير الأجواء قبل الذهاب لجلسات حوار شأنها رأب الصدع والانقسام المستمر منذ عام 2007. ولفت متحدث الحركة، حازم قاسم، إلى أن الرجوب وكل قيادات فتح “تعلم الحقيقة، ومن يعطل المصالحة الفلسطينية، هو نفسه الذي عطل مسار الانتخابات الشاملة”.
هل هناك فرص للنجاح؟
الجواب على هذا السؤال: لا كبيرة، طبقا لما يراه هاني المصري، مدير عام “المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية – مسارات”. والسبب بسيط جدًا وهو أن “الأسباب والعراقيل التي حالت دون نجاح الحوارات والاتفاقات السابقة لا تزال قائمة، بل ازدادت تجذرًا كما يلاحظ أي مراقب، ولو من بعيد”.
ويقول: “إذا لم يقدم طرفا الانقسام ما يكفي لإنجاحه، وهذا أكثر من واضح، فيجب الاقتصار على جولة الاستكشاف الحالية، وتنظيم حوار غير رسمي بمشاركة ممثلين عن الفصائل لإنضاج شروط النجاح، وإذا نضجت تتم الدعوة للحوار الرسمي”.
ويشير إلى أن فريق رئيس السلطة وحركة فتح، محمود عباس، يطرح وجهة نظر تعكس التنكر لما توصلت إليه الحوارات الاتفاقات السابقة، والدليل أنه يطالب بالموافقة على تشكيل حكومة وحدة وطنية تلتزم بالشرعية الدولية، وبما يتضمن شروط اللجنة الرباعية، و”هذا ما مستحيل قبوله”.
في المقابل وبعد أن طرحت “حماس” مقاربة تتجاوز الاتفاقات السابقة والبدء من منظمة التحرير وتحقيق الشراكة فيها، عبر تشكيل قيادة مؤقتة، وتعيين مجلس وطني بالتوافق والمحاصصة لمدة سنتين، فقد انتهت -والحديث لا يزال للمصري- بطرح وجهة نظر متناقضة تتبنى من جهة مقاربة إجراء الانتخابات الشاملة، ورفضت على هذا الأساس السماح بإجراء الانتخابات المحلية في القطاع، مع أنها سمحت لأعضائها بالمشاركة في الانتخابات المحلية في الضفة.
تدرك الجزائر صعوبة مهمتها، في ضوء عمق الخلافات بين الفصائل وفشل التجارب العديدة السابقة للحوار، وهو ما انعكس برأي المحلل الفلسطيني المشارقة في “خفض الحكومة الجزائرية لسقف توقعاتها” وقرارها عقد لقاءات مع الفصائل كل على حدة، قد تفضي في حال نجاحها إلى مؤتمر للمصالحة.
“القضية الفلسطينية قضية لها عمق كبير في الوعي الجزائري والجزائر تمتلك فهما عميقا لها، وهي التي طالما فتحت أبوابها لكل الفصائل الفلسطينية، لكنها تدرك حدود هذه المبادرة”، يقول المشارقة.
أما داليا غانم من مركز كارنيجي فتبدو أكثر تفاؤلا. فعلى الرغم من أنها صرحت لـ “بي بي سي” بأنها لا تستطيع أن تتوقع نجاح المبادرة الجزائرية من عدمه، لكنها أضافت أن الجزائر لها سجل جيد في الوساطة -على سبيل المثال ما بذلته من جهد كبير مع الفرقاء السياسيين في مالي من قبل. وتضيف “الجزائر دولة تريد أن تعود إلى الساحة الدولية والإقليمية، وسوف تلعب بأفضل ما لديها من أوراق في سبيل تحقيق ذلك”.
مبادرة “الجبهة الديمقراطية”
الأحد الماضي، أعلنت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين (أحد فصائل منظمة التحرير)، عن مبادرة تدعو إلى بدء حوار وطني شامل، في ظل التحديات التي تواجهها القضية الفلسطينية، بهدف “إيجاد حد لحالة الدمار والتشرذم الداخلي”. وأشارت إلى أن المبادرة تحث على “وقف التراشق الإعلامي، ووقف متبادل لممارسات القمع والاعتقال السياسي، تمهيدا لحوار شامل يهدف إلى التوصل لخطة متكاملة، مجدولة زمنيا”.
وتقترح الجبهة، في مبادرتها العمل على مسارين متداخلين هما: “مسار الشراكة والتمثيل الشامل في مؤسسات منظمة التحرير، ومسار إعادة توحيد مؤسسات السلطة الفلسطينية، وصولا إلى انتخابات عامة”. كما تتضمن مقترحات تتعلق بالشراكة مع مؤسسات منظمة التحرير، واختتام عام 2022 بإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في مواعيد متفق عليها مسبقا في إطار الحوار الوطني.
وهي المبادرة التي استقبلتها حماس بتصريحات إيجابية على لسان عضو مكتبها ورئيس لجنة العلاقات الوطنية، حسام بدران، الذي قال إنها تعكس “حرص الجبهة الديمقراطية على التوافق والنهوض بالمشروع الوطني وإصلاح المؤسسات الفلسطينية، وصولا إلى استراتيجية وطنية شاملة متوافق عليها بعيدا عن التفرد”. وأن حركته “تعكف على دراسة المبادرة بإيجابية”.
وإلى جانب ذلك، فقد انتقدت الفصائل الفلسطينية –بحسب صحيفة “الغد” الأردنية- ما اعتبرته “استمرار السلطة الفلسطينية في نهج الاعتقالات السياسية. وأدانت قيام السلطة الفلسطينية باعتقال عدد من الفلسطينيين الغاضبين لعدوان الاحتلال في “(قرية) بيتا والمدافعين عن جبل صبيح والأرض الفلسطينية. ذلك في محاولة لإجهاض جذوة المقاومة الشعبية في قرى ومدن الضفة الغربية”.
وأكدت أن استخدام السلطة الفلسطينية، وأجهزتها الأمنية، سياسة الباب الدوار وسياسة القمع والاعتقال السياسي، وملاحقة القادة والنشطاء الذين يقودون مواجهات التصدي لقضم الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية هو محاولة بائسة لمنع استمرار حالة الاشتباك مع المحتل.
هل تزاحم الجزائر مصر؟
يشير بعض المحللون إلى إمكانية ذلم، ولكن الإجابة: غير مرجح. وقد بدا ذلك في الحرص الجزائري على تأكيد “عدم مزاحمتها” في زيارة وزير الخارجية لعمامرة إلى القاهرة. وذلك ضمن جولة شملت السعودية وقطر والإمارات كذلك- الأحد الماضي، 16 يناير/كانون الثاني.
وسلّم لعمامرة الرئيس عبد الفتاح السيسي رسالة مكتوبة من نظيره عبد المجيد تبون تضمنت “اعتزاز الجزائر بما يربطها بمصر من علاقات وثيقة ومتميزة على المستويين الرسمي والشعبي، والاهتمام بتعزيز مجالات التعاون الثنائي مع مصر في كافة المجالات”. و تطلعه “لمزيد من التنسيق والتشاور مع السيد الرئيس خلال الفترة المقبلة لمواجهة التحديات المتعددة الاشكال التي تواجها المنطقة والأمة العربية ودعم العمل العربي المشترك”.
وقد قالت صحيفة الشروق الجزائرية، إن زيارة لعمامرة، إلى مصر، ولقائه السيسي، كان من بين أهدافها تأكيد الجزائر أن احتضانها لمؤتمر الفصائل الفلسطينية، لا يستهدف التأثير على الموقف المصري من هذه القضية الحساسة بالنسبة للقاهرة، وإنما تماشيا والموقف التاريخي للجزائر الداعم من دون شروط للقضية الفلسطينية.
وأوضحت الصحيفة الجزائرية، أن تركيز الجزائر على الرياض والقاهرة مردّه ثقل المملكة ومصر في التأثير على النظام العربي والقضية الفلسطينية. حيث تسعى الجزائر جاهدة لتكون القمة القادمة والتي ستستضيفها، جامعة للصف العربي.
وقد كان لافتا أنه في اليوم التالي لمقابلة لعمامرة مع نظيره المصري سامح شكري، تلقي الأخير مكالمة من نظيره المغربي ناصر بوريطة في إطار “التنسيق والتشاور المستمر بين البلدين”. وتحاول القاهرة موازنة مواقفها وعدم التورط في التوتر المغاربي القائم.
على الصعيد الفلسطيني، يظن ريكاردو فابياني، مدير مشروع شمال أفريقيا بمجموعة الأزمات الدولية، أن السؤال الرئيسي يدور حول قدرة الجزائر على “إيجاد دور لها في هذه المساحة المزدحمة (والضيقة)”، وهو الأمر الذي ستحتاج لتحقيقه إلى “التعهد بتكريس موارد ضخمة لقضية هي في نهاية المطاف على هامش مصالحها الرئيسية”.
ويستبعد مدير مركز التقدم للدراسات في لندن محمد المشارقة أن تكون مصر قلقة من الدور الجزائري. إذ يرى أن “العاصمة الوحيدة التي تعرف تفاصيل الملف الفلسطيني كافة هي القاهرة”. وبالتالي، هي تدرك تماما أن كل هذه الجهود لا تؤثر على دورها في الملف الفلسطيني. ويضيف المحلل الفلسطيني أن مصر تعي أنه في حال توفرت عوامل الاتفاق، فإن الفصائل الفلسطينية “تعلم أن العنوان الحقيقي لعقد هذا الاتفاق هو القاهرة”.
الوساطة المصرية بين الفصائل الفلسطينية كانت قد أسفرت عن توقيع “اتفاقية الوفاق الفلسطيني” عام 2011. فضلاً عن توقيع حركتي حماس وفتح اتفاقا للمصالحة عام 2017 في القاهرة. ولكن الاتفاقين لم يسفرا عن رأب الصدع في البيت الفلسطيني.
يعتبر “معهد القدس للشؤون العامة” الإسرائيلي أن كثيرون يعتقدون “أنه حيثما فشلت مصر، لا توجد فرصة لنجاح الجزائر”. ولكن يظل هذا الملف ضمن ملفات أخرى تتقارب فيها رؤى الجزائر ومصر ومنها الموقف من النظام السوري، ودعم الرئيس التونسي قيس سعيد، والتسوية السياسية في ليبيا.