كنا نتباهى نحن الذين وعينا على الدنيا في خمسينيات القرن الماضي بأننا الأجيال التي ولدت، وكبرت تحت حكم أول رئيس مصري لمصر منذ سقوط آخر أسرة فرعونية، أو هكذا قيل لنا، وبصرف النظر عن عدم الدقة العلمية لهذه المقولة، بما أن تاريخ البشرية كلها حفل بكيانات سياسية لشعوب وحضارات تكونت ونهضت تحت حكم أفراد أو أسرات أجنبية بالدم، ولكنها انتمت -كلية- بالسياسة والثقافة والتقادم واختلاط الدماء إلى موطنها الجديد، وبما أن الفكرة القومية أو الوطنية هي فكرة حديثة العهد نسبيا، فقد كان لهذه المقولة نصيب من الوجاهة في حالة مصر بالذات، بسبب الانفصال شبه التام بين الحكام وبين المحكومين، طبقيا ووظيفيا، وفي كثير من الأحيان ثقافيا أيضا، بحيث كان هناك دائما جماعة أصولها أجنبية دورها الوحيد في حياة المصريين هو الحكم فقط، بالسيف في الخارج، وبالسوط والسيف أحيانا، واحتكار أصل وفائض الثروة والقيمة في الداخل، خاصة وأن الأرض الزراعية بوصفها المورد الاقتصادي الرئيسي كانت دائما ملكا للحاكم وجماعته، وذلك دون أدنى درجة من درجات المشاركة في شئون الحكم من المصريين .

كانت دولة المماليك هي التجسيد المتكامل لهذا النمط من الحكم والسياسة في مصر، ثم جاء الحكم العثماني ليشكل استمرارا وليس انقطاعا للنمط، إلى أن جاءت حملة نابليون لتقطع هذه الاستمرارية، حيث شارك المصريون في الشأن العام، ثم المقاومة والثورات، ثم في جهود إخراج الفرنسيين، وأخيرا في تولية محمد علي حكم البلاد مبتدئا -كما نعرف جميعا- ما نسميه بالدولة الحديثة في مصر .

هذا السرد والتحليل التاريخيين ليسا سوى مدخل إلى جوهر المقال، وهو -كما يفهم من العنوان- تقويم تجربة الحكام المصريين (الخلّص) لمصر، من زاوية محددة، هي مدى اختلاف رؤيتهم للمحكومين أي للشعب المصري عن رؤية الحكام ذوي الأصول الأجنبية للشعب الذي يحكمونه، والتي يمكن إجمالها في الرد الشهير المنسوب للخديوي توفيق على أحمد عرابي: “ما أنتم إلا عبيد إحساناتنا”، أو في وصف لورد كرومر أشهر وأطول عميد للاحتلال البريطاني للمصريين بأنهم عنصر تابع بطبيعته لا يصلح لحكم نفسه بنفسه، ثم النظر فيما يستنتج من تجربة الحكم الوطني في ضوء تلك المقارنة من الزاوية التي حددناها توا، والمقصود بمصطلح الحكام المصريين هنا هو أبناء الفلاحين وأولاد البلد، الذين تأهلوا بالتعليم والتملك للمشاركة في السلطة والشأن العام في دولة محمد علي وأسرته، حتي استولوا، أو استولى فرع منهم على السلطة كاملة بعد يوليو عام 1952.

نعرف من التاريخ أن أول رئيس للنظار من أصل مصري صرف كان هو بطرس باشا غالي، وكان طبعا من اختيار لورد كرومر، كما أنه منحدر من أسرة التحقت بخدمة أسرة محمد علي منذ بداية تأسيسها، فضلا عن أنه كان مكروها من عموم المصريين لرئاسته محكمة دنشواي، ولهذه الأسباب فإن تجربته لا يعتد بها في موضوعنا، أما أول رئيس مصري للحكومة من أبناء الفلاحين فكان سعد زغلول بفضل ثورة 1919، التي كان هو مفجرها وزعيمها، وباستثناء تعاقب ثلاثة رؤساء حكومة بعده من أصل تركي لفترات قصيرة (أحمد زيوار وعدلي يكن وعبد الخالق ثروت) فقد كان جميع رؤساء الحكومات الذين تعاقبوا على المنصب حتى استيلاء الضباط على السلطة مصريين (خلص)، وكذلك الأغلبية الكاسحة من الوزراء .

خلاصة هذه الحقبة، ومن زاوية النظرة إلى الشعب المصري، وحقوق المحكومين أن الصراع كان حادا بين الشعب كله تقريبا تحت قيادة حزب الوفد المنبثق عن ثورة 1919 الشعبية وبين القصر الملكي وأحزاب الأقلية حول جدارة الشعب المصري، أو بتعبير آخر الأمة المصرية بأن تكون مصدرا للسلطات، وبصلاحية المصريين لاختيار حكامهم، وقد تفجر هذا الصراع منذ بواكير الثورة، عندما ركزت دعاية خصومها على وصف سعد زغلول بأنه زعيم الرعاع، أو أصحاب الجلاليب الزرقاء، أي الفلاحين المعدمين الأجراء .

وبعد أن أسفرت أول انتخابات نيابية في ظل الدستور الجديد عن فوز كاسح لحزب سعد زغلول، وسقوط مدو لبعض أبرز خصومه، لم يتورع رجل بحجم وقيمة الفقيه القانوني الكبير عبد العزيز فهمي عن التنكر للدستور الذي شارك هو نفسه في وضعه، فيصفه بأنه ثوب فضفاض للأمة، بمعنى أنه منح الشعب أكثر مما يستحق من الحقوق، ويتردد في دائرة شبين الكوم بالمنوفية (التي ينتمي إليها كاتب هذه السطور) أن الرجل ألقي بطربوشه على الأرض، غضبا من خسارته الانتخابات أمام مرشح الوفد، واصفا الشعب المصري بأوصاف قاسية، علما بأنه هو شخصيا من صميم صميم الشعب المصري، أي من أبناء الفلاحين الذين تملكوا مساحات متوسطة الحجم من الأراضي الزراعية، وأنه بدأ حياته الوظيفية معاونا إداريا بنظارة الأشغال، لملاحظة متانة جسور وشطآن رياحات النيل والترع والمساقي .

في تلك اللحظة تكشفت، وتأسست أسوأ تقاليد حكم المصريين لأنفسهم بأنفسهم، وهي رفض الهزيمة الانتخابية، التي يترتب عليها رفض مبدأ الأمة مصدر السلطات، وكان هذا التقليد هو مسوغ كل زعماء الأقليات الحزبية في الانقلابات الدستورية العديدة في عهد الملك فؤاد، وفِي الاحتيالات الدستورية في عهد خليفته الملك فاروق، وهي جميعها كانت بقيادة مصريين خلص، فقد كان محمد محمود زعيم أول انقلاب دستوري حفيدا للصراف عبد العال سليمان من ساحل سليم بأسيوط (بغض النظر عن أبيه محمود باشا سليمان أصبح من كبار الملاك، كما كان والحق يقال من حكماء المصريين )، وكان الانقلاب الدستوري الثاني الأكثر شراسة بقيادة إسماعيل صدقي، وهو أيضا مصري قح ينحدر من عائلة لقبها الأصلي هو (دعبس)، وقد اشتهر عن الاثنين سوء رأيهما في المصريين، فلم يتورع محمد محمود عن أن يتهم الوفديين بتحدي إرادة (صاحب البلاد) قاصدا الملك فؤاد في إحياء مقيت لمقولة الخديوي توفيق لعرابي، وذلك عندما قاوموا انقلابه الدستوري، أما صدقي فهو صاحب مقولة إن المصريين زمارة تلمهم وعصاة تفرقهم .

انتقل تقليد رفض الهزيمة الانتخابية بوصفه رفضا لمبدأ الأمة مصدر السلطات ونفيا لجدارة المصريين باختيار حكامهم إلى طور أو تطبيق آخر مع ضباط يوليو، وهو البقاء في السلطة حتى آخر نفس، ولكي يتسنى ذلك، استحدث رجال يوليو مجموعة من الحيل والتقاليد، تبدأ بانكار الأخطاء إذا وقعت، فإذا كانت هذه الأخطاء أوضح من أن تنكر تختلق أسباب تنفي عنهم المسئولية، فيروّج لنظرية المؤامرة الاستعمارية الأزلية الأبدية، أو لتألب أعداء الشعب والرجعية في الداخل، كما كان الحال طوال حكم جمال عبد الناصر، أو يتهم الشعب نفسه بالجهل ونكران الفضل، كما وصف أنور السادات انتفاضة 18 و19 يناير 1977 ضد رفع أسعار الطعام بانتفاضة الحرامية، بعد أن كان قد استعمل تعبير الرعاع في أول خطابين له تعليقا على الانتفاضة، بل يمكنني القول إنني سمعت بأذني مباشرة في لقاء صحفي مع السادات بمنزله بميت أبو الكوم رأيا غير إيجابي في “شعبنا” ولم يتطرق إلى ذهني أدنى شك في أن هذا الرأي كان مشتركا بينه وبين كبار ضباط يوليو، بمن فيهم جمال عبد الناصر، بما أنهم يعتقدون أن الشعب وسياسييه عجزوا عن التخلص من الملك والاحتلال، وأنهم الذين (جابوا الديب من ديله).

بالطبع تتذكرون كما أتذكر تبكيت حسني مبارك للمصريين، وعبارات من نوع (أجيب لكم منين، وغيرها، والمصريون غير جاهزين للديمقراطية بلسان أحمد نظيف وعمر سليمان) لكن يبقى مشروع التوريث هو ذروة الاستهتار بالشعب، وبالطبع أيضا يمكننا القول بأنه لا جديد تحت شمس مصر في أيامنا هذه، وملخصها القول للآخرين إن إنسانيتنا غير إنسانيتكم.

تحفظ مهم للغاية أختتم به وهو أن مشكلة الحكم الوطني في مصر منذ بدء مشاركة المصريين في العهد الملكي هي التفرقة بين الوطن وبين المواطن، فكلهم بلا جدال كانوا ولازالوا وطنيين، ويحبون مصر، لكن المطلوب أيضا أن يحبوا المواطن، فما الوطن إلا مواطنيه.