الرقم ذاته يعتبر مفاجأة حزينة، 11 عامًا مرت، وأصبحت أكثر الذكريات العظيمة مغلفة بالضباب أو مشوشة مثلما الأفلام السنيمائية القديمة، وأصبح هذا الوقت من كل عام هو وقت اجترار الماضي والرثاء للنفس وتذكر اللحظات التي كنا فيها على وشك أن نطول السماء ونمسك النجوم بأيدينا.
صراحة لم يتبق الكثير، لكن ما تبقى ليس بالقليل أيضا..
المشهد أراه هكذا: نسبة كبيرة ممن شاركوا في الأحداث الرئيسية منذ 2011 أو ما قبلها أو ما بعدها أصبحوا في حالة عزوف تام عن أي نوع من المشاركة السياسية أو حتى الاهتمام بالشأن العام، ونسبة ضئيلة أو كبيرة انتقلت إلى الجهة الأخرى من التأييد للسلطة، وهناك أيضا من يحاول شق الطريق الأصعب، وهو طريق إصلاحي وسطي لكنه منبوذ من جميع الأطراف.
ومع ذلك تظل الذكرى كل عام مثار للحنين والرثاء، نتذكرها ونتذكر معها حلم الديمقراطية والحريّة والكرامة، ذلك الحلم القصير والجميل والمشروع.
بَعضُنَا يعتبر أن الاحتفاليات والرثاء والذكريات على مواقع التواصل الاجتماعي كل عام تشبه الكربلائيات واللطميات، أو أن ثورة ٢٥ يناير أصبحت صنما للعبادة..
ولكن.. ولم لا؟ إنها تستحق أكثر من ذلك الرثاء وأكثر من ذلك التقديس، فالحلم لم يكن هينا، فقد كان يمثل تطلعات الملايين منذ سنوات طويلة بحياة أفضل نسمع أو نقرأ عنها في الإنترنت والصحف، حيث هناك دول يكون بها ديمقراطية وحكم رشيد ومشاركة شعبية في اتخاذ القرار، وهي أمور لا نعلم عنها الكثير ولم نرها في بلادنا العربية منذ تأسيسها، أحلام بسيطة هي حقوق طبيعية في بلاد أخرى، وكثير منها منصوص عليه في الدساتير المتلاحقة ولكن بدون تطبيق حقيقي، مثل أن يكون المواطنون سواسية أمام القانون بدون محسوبية، وأن يكون هناك فرص متساوية للجميع، وأن يعيش الجميع في ظروف معيشية تحفظ كرامتهم، ويكون هناك تعليم جيد ورعاية صحية معقولة وشوارع نظيفة.
فمن حقنا أن نشعر بالفخر وأن نحكي لأولادنا عما حدث في مواجهة مجهود جبار يتم بذله من أجل تشويه التجربة، وتزييف الحقائق، وتخويف وتنفير الناس منها، ومن حقنا أيضا أن نحزن لإخفاقنا ونحاول تذكر ودراسة كيف أضعناها وكيف تم التلاعب بالجميع.
بعد 11 عاما هل تعلمنا شيئا؟
كان ميدان التحرير واعتصام الـ١٨ يوما نموذجا لكل ما هو مثالي، طابع تعاوني ملائكي نادر الحدوث، كان الجميع في الميدان على قلب رجل واحد، ولم يكن هناك فارق بين إسلامي وعلماني، أو ليبرالي واشتراكي، أو ذكر وأنثى ولا مسلم ومسيحي، لكن سرعان ما بدأت الخلافات في الظهور بعد ذلك، حتى حول الشعارات الثابتة والمتفق عليها، والشيطان يكمن في التفاصيل، وفي تفاصيل التفاصيل.
تفاصيل خلافية كانت بمثابة ضربة كبيرة للثورة والأمثال كثيرة:
فهل كنا نطالب بالحرية للجميع أم للجماعة أو الحزب أو التيار الذي ينتمي إليه كل فرد منا؟ وهل هي حرية وديمقراطية مجردة كما تنص المعاهدات الدولية وكما هو متعارف عليه، أم هناك قيود موضوعة كالتي وضعها السادات ثم مبارك أو تلك القيود التي تطالب بها تنظيمات الإسلام السياسي؟
مفهوم العدالة الاجتماعية أيضا كان مفهوما عاما بدون تفاصيل، فأثناء التطبيقات ظهرت أصوات تطالب بعودة التأميم واشتراكية جمال عبدالناصر، وأخرى تتحدث عن اشتراكية تشبة الحقبة السوفيتية، فهل كنا نعني ذلك أم كنا نقصد فقط إجراءات لتخفيف حدة الرأسمالية، وزيادة دور الدولة في الخدمات الرئيسية وضبط الأسواق، أتذكر آداء وزراء محسوبين على الثورة عند توليهم الوزارة بعد 2011، وشكواهم الدائمة من تعقيد الأوضاع الداخلية وغياب الموارد وضرورة الصبر حتى يكون هناك تغيير في يوم من الأيام، لم أر اختلافا كبيرا في تبريراتهم عن تبريرات وزراء عهد مبارك، وإن كنت أعلم أن الأوضاع أكثر تعقيدا بكثير من شعاراتنا، وأن هناك أزمة كبيرة لدينا عند محاولة الإجابة على سؤال”كيف؟”.
هل أخطأنا عندما كنا نصر على الفوز بمعركة صفرية وكان الصوت الأعلى هو المعيار للحكم على الأمور؟ هل لازال بعضنا يعتبر أن السياسة خيانة للثورة، ويضع مصطلح السياسة مضادا لفكرة الثورة؟ هل البحث عن حلول وسط وتجنب إراقة الدماء يعتبر جريمة كما قال بعضنا في 2011؟
من المؤسف أنه حتى اليوم لم يتم حسم الكثير من تلك النقاط الخلافية، ولم تظهر مجهودات نظرية متكاملة حول كيف يكون شكل الدولة تحديدا وماهيتها وهويتها ونظامها المطلوب، ربما كانت تلك المشكلة قائمة منذ البداية، ربما لم تأخذ الحركة الاحتجاجية مجهودا وتمهيدا نظريا كافيا، توافق الجميع على رفض مبارك ونظامه، ولكن اختلفوا على كيف يكون النظام الجديد، فأزيح مبارك وبقى نظامه ليحكم، بذلنا مجهودًا كبيرا في تحليل وتفسير ومواجهة الماضي، ولكن لم يكن هناك تصور واضح (توافقي) حول المستقبل، فانتصر الماضي.
أيضا لا يمكن إغفال النقاط الأكثر حساسية والتي كانت المدخل الرئيسي والجوهري لتفجير الثورة من الداخل أو الانقضاض عليها، ليس في مصر فقط ولكن في كل الدول العربية كافة، وهي نقطة علاقة الدين بالدولة ونظام الحكم، فمنذ انطلاق الثورات العربية في 2011 وتنافست تنظيمات الإسلام السياسي على من يلتهم الثورة أولا، إنه يشبه (الجشع بعد سنوات طويلة من الجوع والحرمان)، فتحت شعار الدين والتدين تم رفع شعار تطبيق شرع الله أمام الجميع، ولأن تنظيمات الإسلام السياسي لديها مشروع يدغدغ المشاعر عنوانه تطبيق شرع الله وفقط، يتحدثون عن الماضي الملائكي الذي لم يعايشه أحد فعليا، وعن إجراءات طبقت في مجتمعاتها منذ أكثر من 1400 عاما، إجراءات لا نستطيع أن نجزم تحديدا كيف كانت.
ولأنهم كانوا الأكثر تنظيما والأكثر قدرة على العمل تحت الأرض وفوق الأرض فقد استطاعوا التواصل مع الجماهير بشكل أسرع وأكثر احترافية من الآخرين، واستطاعوا استخدام آلية الصندوق ليتم فرض وجهة نظرهم على الآخرين، مستغلين الضعف التنظيمي وغياب القدرات، وكذلك التشرذم والخواء الفكري الذي كان يميز معظم المجموعات والتيارات المشاركة في الثورة.
أصبح الإسلاميون فزاعة، ولم يلتفتوا لذلك رغم كل النصائح، ورغم كل الفرص التي سنحت لهم لإثبات العكس، إلا انهم عن طريق الممارسة والتجربة أكدوا وأثبتوا صحة كل التخوفات والاتهامات ضدهم، وكان الاستحواذ التام هو الهدف، والرعونة والعناد هم الوسيلة، حتى كان ما كان!!
ولكن بشكل عام، الموضوع قد يكون أكثر تعقيدا من انتهازية أو رعونة أو أخطاء الإخوان، ففكريا لم يتم حل معضلة العلاقة بين الدولة والدين في المجتمعات العربية، وحتى لو كان فكر الإسلام السياسي لا يقدم حلولا حقيقية للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية الحديثة إلا أنه يبقى هو الأكثر جاذبية وشعبوية، والأكثر دغدغة للمشاعر من العناوين واللافتات السياسية الأخرى، وقد استمر الإسلام السياسي بدون بديل سياسي حقيقي في مواجهته منذ الخمسينيات والستينيات سوى السلطوية، فظللنا ندور في دوائر تبادلية بين الأصولية الدينية والأصولية السلطوية بدون بديل ثالث حقيقي.
لكن رغم تلك القتامة التي يبدو عليها المشهد، توجد هناك أشياء مضيئة وإيجابية، فلا زال هناك الرابط بين أهل يناير حتى الآن باختلاف توجهاتهم وانتمائهم، وهو شيء عظيم، وأهل يناير كثيرون، حتى إن تفرقت بهم السبل، فلا يزال هناك منهم من هو راديكالي لا يزال الحلم بداخله مشتعلا، وهناك من يحاول أن يكون أكثر هدوءا أو أكثر ميلا للوسائل الإصلاحية، وهناك من عزف وابتعد قليلا أو كثيرا، وهناك أيضا من أهل يناير من اقترب أكثر من السلطة أملا في غنيمة ما أو ربما اقتناعا أن هذا هو الطريق الأفضل بدلا من الشعارات، ولكن جميعهم يجمعهم رابط يناير وحب واحترام وتبجيل تلك المحاولة العظيمة.
وفي نهاية الأمر لا يمكن طمس وإخفاء أنه كانت هناك انتفاضة شعبية قوية ومزلزلة غيرت الكثير من الأوضاع في المنطقة، وكشفت العديد من الثغرات والمشكلات العميقة في مجتمعاتنا، وكشفت في نفس الوقت هشاشة الأنظمة المستبدة، وقد كانت الثورات العربية فرصة لبناء نظام عربي جديد يقوم على المصالح الحقيقية للشعوب العربية والتعاون والتكامل، بعيدا عن المصالح الضيقة للحكام..
تحية لكل من شارك في ذلك الحلم وحاول التغيير، وتحية لشهداء الثورة المصرية والثورات العربية وكل الأبطال، وتحية لأخواننا ورفاقنا خلف الأسوار الذين لا يزالون يدفعون الثمن بسبب إيمانهم بمبادئ الثورة من حرية وعدالة وكرامة..
وستظل ثورة يناير هي النقطة البيضاء في تاريخنا الحديث، وهي الحلم الجميل وسط واقعنا المخيف.