كل ذكرى لثورة 25 يناير يصاحبها ويصاحبنا استرجاع تلك الذكريات التي هي أحلى وأغلى أيام مرت بنا، إحساس بالمرارة مع إدراكنا لواقعنا الحزين..

فالمقارنة بين كل ما كنا نحلم به و كل ما هتفنا من أجله وفقدنا  بسببه خيرة شبابنا في سعينا إليه، وبما وصلنا إليه بعد كل هذه التضحيات، أمر كفيل بأن يصيبنا جميعاً بالإحباط، بل والاستسلام لوضع الهزيمة الذي نعاني منه حتى الآن..

هذا الإحباط وصل بنا للدرجة التي دفعت البعض لإعلان الندم على إزاحة نظام مبارك، وهو الذي كان أهون علينا – حسب وجهة نظرهم- مما نعيشه الآن!!

والحقيقة أنه بدلاً من أن نترك أنفسنا فريسة للإحباط، يجب علينا محاولة فهم الأسباب التي أدت بنا إلى هذا الواقع الأليم، و ما إذا واقعنا اليوم هو نهاية المطاف أم أن الأمل لا يزال موجوداً، وأن يناير ما زالت حية وقوية وملهمة!

لا توجد إجابة شافية لمثل هذا السؤال، لكنها مجرد اجتهادات ومحاولات لقراءة موضوعية لما حاولت أن تفعله ثورات الربيع العربي في منطقة موبوءة بأنظمة استبدادية منذ سنوات طويلة..

لقد كانت تلك الثورات محاولة من جيل جديد من الشباب العربي لتفكيك أنظمة راسخة في الاستبداد، و استبدالها بأخرى ديمقراطية، لتضع المنطقة على المسار الصحيح بعد طول تعثر، لكن المشكلة أن هذا الشباب لم يستطع أن يقدر الحجم الحقيقي لخصوم تلك التغييرات، أو مدى قوتهم وفاعليتهم و جاهزيتهم للإنقضاض على أحلامه تلك..

هذا الشباب المخلص وجد نفسه بين قوتين منظمتين لا قبل له بهما، شبكات مصالح عميقة داخل أجهزة الدول من ناحية، و من ناحية أخرى تنظيمات إسلاموية متجذرة -بفعل الاستبداد و انعدام الوعي- في داخل كل طبقات المجتمع و خاصة في الطبقات الدنيا منه..

وللأسف لم يكن لدى الشباب الثائر تصور عن كيفية مواجهة تلك القوى و داعميها الإقليميين و الدوليين لكي تنتصر الثورة..

فبينما كان خيار القوى الإسلاموية هو بذل كل الجهد للاستئثار بالحكم، تراجعت قوى أجهزة الدولة “تكتيكياً” لاستغلال طمع القوى الإسلاموية ثم الانقضاض مرة أخرى على السلطة..

هنا باتت المواجهة الصفرية حتمية بين كل الأطراف و بعضها البعض..

و قد تخللت هذه المواجهة بعض اللحظات الاستثنائية من التوافق، لكنها كانت مجرد توافقات تكتيكية أيضاً، تخدم أهداف كل منهم على المدى القصير، و لم تكن هناك على الإطلاق توافقات استراتيجية عن شكل الدولة التي خرج من أجلها الشباب الثائر في 25 يناير..

حتى التوافق المؤقت الذي حدث في تونس تم الانقضاض عليه لأنه هو الآخر كان توافقاً تكتيكياً لم ينجح في تحقيق آمال وطموحات الشعب التونسي وثورته..

والمؤكد أن غياب مثل تلك التوافقات السياسية و المجتمعية أدى لأن تتصدر المشهد مرة أخرى شبكات المصالح الداعمة للاستبداد، وذلك استناداً إلى قدرتهم على فرض الأمر الواقع بالقوة بمساندة الأنظمة الإقليمية التي تخشى امتداد طموحات التحرر لشعوبها..

و استتبع ذلك بالطبع التخلص من الخصم الأبرز الذي واجههم و هو الحركات الإسلاموية التي لم يكن منهجهم الاستبدادي ليختلف عنهم كثيراً إذا استمروا في الحكم، لكنهم شكلوا الخطر الأكبر على أنظمة الحكم التقليدية..

و من بعدهم جاء دور الانتقام من الشباب الذين تجرأوا بأن يحلم بمستقبل أفضل والذين كان لهم الدور الأكبر والأهم في إشعال الثورة منذ اللحظة الأولى..

إذاً فإن الأطراف الأقوى اختارت الصدام ضد بعضها البعض، و ضد طموحات الشباب، فدفعت الشعوب ثمن هذا الاختيار المر..

و مع ذلك، لم تيأس شعوب المنطقة في مواصلة سعيها في الحلم بمستقبل أفضل، فكانت موجة أخرى من موجات الربيع العربي، لكنها لا تزال تتعثر بنفس الطريقة التي تعثرت به الموجة الأولى التي بدأت عام 2011..

و مرة أخرى يظل التوافق غائبا عن المعادلة و الصدام هو سيد الموقف..

و مع ذلك يعلمنا التاريخ أن انتصار أي طرف على آخر هو مجرد تمهيد لمواجهة جديدة قادمة بين الشعوب المتعطشة للحرية و جلاديها، لنظل ندور في نفس الحلقة المفرغة: استبداد ثم ثورة ثم استقطاب ثم صدام ثم استبداد وهكذا!

والحقيقة النؤك أن هذه الحلقة المفرغة لن تنتهي، و لن يأمن أي نظام في حكمه طالما لم يحل التوافق محل الاستقطاب، و أي استقرار مفروض بالقمع ما هو إلا استقرار شكلي وهش، فالشعوب الحية لن تتخلى عن حلمها في الحرية و الديمقراطية، و إقامة نظام الحكم العادل و الرشيد مهما واجهت من قمع و مهما كانت العثرات في الطريق..

و بذلك يصبح التوافق مصلحة لكل الأطراف، وليس لطرف على حساب آخر..

هذه المعادلة كفيلة بأن تعطينا الأمل بأن نهاية كل استبداد قادمة لا محالة، و لكن الأهم هو الخروج من الدائرة المفرغة و أن نستفيد من إخفاقاتنا التي عانينا منها جميعا، وأن نفهم أن لا القمع ولا الاستبداد وسائل آمنة للحفاظ على الحكم أو الحفاظ على كيان الدولة، و لا فرض رؤية أحادية عن الدين و دوره في حياة الأفراد سيساعد على التخلص من شبكات مصالح الأنظمة المستبدة، و أن الثورات و الانتفاضات الشعبية نجاحها لا يقاس بسحق خصومها، بل بقدرتها على التوافق  على شكل الدولة الذي تتحقق معه آمال الوصول لمجتمع ينعم بالعيش الكريم و الحرية و العدالة الاجتماعية و الكرامة الإنسانية..

حينما نستوعب تلك الدروس و نطبقها، سنتمكن من تحقيق شعارات ثورة يناير العظيمة، و ستترسخ في ذاكرة الأمة كواحدة من أعظم الأحداث التي مرت في تاريخها و غيرت مسارها للأفضل..

عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية.. كرامة إنسانية..