تكمن مشكلة الإخوان في أنهم حركة جماهيرية حقيقية ليست نخبوية ولا كرتونية ولا شكلية. ثم تكمن مشكلة الإخوان في أنهم استجابة خاطئة لتحديات تاريخية كبرى، ثم تتلخص مشكلة الإخوان في توظيف ما يملكونه من جماهير في الخاطئ من المسارات. ومن هذا المثلث ينتصب أمام الإخوان -كل دورة من الزمن- حوائط مسدودة يرونها رأي العين لكنهم ينكرونها بالعقل والقلب، ولا يفيدهم إنكار الحقيقة حتى تصطدم بها رؤوسهم، ويرتطم بها تنظيمهم، وتصطدم بها منظومة أفكارهم، وتتحطم عليها مشاريعهم، ورغم ذلك كله، يظل الإخوان على ماهم عليه، يوقنون -اليقين كله- أنهم على صواب، وأن الخطأ ليس من عندهم وأنه من عند خصومهم الذين يتآمرون عليهم، وبدل أن يراجعوا أنفسهم فإنهم يضللون جماهيرهم بالمقولة الغائمة “هذه سنة الله في الدعوات”، وهكذا يفوتون على أنفسهم فرصة التعلم من تجاربهم، ومن ثم يكررون أخطاءهم، ومن ثم يدفعون في كل مرة ثمنا فادحا ينفردون به دون سواهم في المائة عام الأخيرة من تاريخ السياسة المصرية.

*****************

قبل خمسة وعشرين عاما، وبالتحديد في يوم الأحد 25 فبراير 1996م، نشرت لي صحيفة الحياة اللندنية مقالا مطولا، ناقشت فيه -لأول مرة- ما أسميته “الإخوان وقانون الحائط المسدود”، أوضحت فيه أن حظ الإخوان من التاريخ أن يدوروا في فراغ عدمي عبثي، يبدؤون فيه من حيث انتهوا، ثم ينتهون إلى حيث كانوا قد بدأوا، فهم من فراغ خلفهم يتحركون إلى فراغ أمامهم، سراب خادع يسلمهم إلى سراب خادع، لا يحصدون من هذا وذاك إلا الخسائر في أنفسهم وأموالهم وأمانهم الفردي والجمعي، وهم في ذلك كله يدفعون الثمن لكن لا يتحملون المسؤولية عما يحيق بهم، وينسبون المسؤولية إلى: ابتلاء من الله يمتحن به قوة إيمانهم ثم مؤامرات خصومهم وأعدائهم.

في المقال الأول، في فبراير 1996م، ناقشت ثلاث تأزمات معقدة في البنيان الفكري والسياسي والقيادي للإخوان: تأزم التطور التاريخي، تأزم الأداء السياسي، أزمة الفراغ القيادي. في ذلك الوقت كان الإخوان ينعمون بالصعود والازدهار الذي بلغ ذروته غير المسبوقة في الثلاثين عاما من حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك الذي كان عهده قدم سعد على الإخوان.

في مقال اليوم، استكمل ما بدأته قبل ربع قرن من الزمان بالتمام والكمال، وقد مضى أحد عشر عاما على عهد مبارك ومضت معه أزهى أيام الإخوان، وقد مضت ثمانية أعوام والإخوان يتعرضون لخطة مُحكمة من الاستئصال الكامل منذ سقطت دولتهم بعد عام واحد فقط من قيامها، لكن رغم زوال نعمة مبارك عنهم، ورغم حلول نقمة ما بعد 30 يونيو 2013م عليهم، رغم هذا وذاك فهم باقون في المشهد وحاضرون فيه بقوة.

*****************

السؤال الذي يطرحه هذا المقال: هل للإخوان موضع قدم في القرن الحادي والعشرين؟

وللجواب، نقف بالشرح والتفصيل عند النقاط الثلاث التي وردت في صدر المقال وهي: الجماهيرية ثم الاستجابة الخاطئة للتحديات ثم تبديد الرصيد الجماهيري في مسارات خاطئة .

رقم واحد: الإخوان والجماهيرية.

قبل الإخوان تحققت الجماهيرية لزعماء وطنيين مثل مصطفى كامل ومن بعده سعد زغلول، لكن الجماهيرية كقوة شعبية سياسية منظمة فقد كانت لحزب الوفد، واستمرت لحزب الوفد، ثم أخذت تتآكل بالتدريج بعد اتفاقية 1936م التي لم ينجز الوفد من خلالها مطالب جماهيره بضرورة جلاء الإنجليز، بل على العكس أقرت ببقاء القوات الإنجليزية في منطقة القناة، ثم بعد الانشقاقات المتتالية في صفوف الوفد، ثم بعد قبول الوفد العودة إلى الحكم بقرار من الإنجليز 1942م، ثم بصعود رموز من كبار الملاك لقيادته، ثم بعجزه عن استيعاب التطورات التي استجدت بعد الحرب العالمية الثانية مثل مطلب العدالة الاجتماعية في الداخل والقضية الفلسطينية على الحدود.

نقطة البدء في التراجع الطويل لجماهيرية الوفد كانت عام 1936م حيث بدا للبعض وكأن الاستعمار نجح -جزئيا- في ترويض صلابة الحزب العنيد.

وهي ذاتها نقطة البداية لصعود جماهيرية الإخوان بعدما كانوا مجرد جمعية دينية محدودة تدعو لفضائل الدين ومكارم الأخلاق والسلوك القويم.

وهي النقطة ذاتها التي تزامنت مع صعود الملك فاروق عرش مصر بعد وفاة والده الملك فؤاد 1937م.

وقد تجمعت النقاط الثلاثة والتقت في معادلة جديدة: الإخوان يتوددون للملك، والملك يسمح للإخوان بالانتشار، وكل انتشار للإخوان هو خصم من رصيد الوفد، والملك له مصلحة في إضعاف الوفد، واستمرت هذه المعادلة عشرين عاما أو ما يزيد، وكانت النتيجة ما كتبه مؤرخ الإخوان الأستاذ محمود عبدالحليم في ص 385 من المجلد الأول من موسوعته “الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ”  ففي الفصل الأول من الباب الرابع الذي يؤرخ للإخوان بعد نهاية الحرب العالمية الثانية يقول: “لم يعد في مصر من يستطيع أن يجمع حوله كتل هذا الشعب شبابه وشيبه، رجاله ونسائه وأطفاله غير حسن البنا.. لم يعد أي حزب من الأحزاب أو هيئة من الهيئات حتى الوفد يستطيع أن يحظى في مؤتمر مهما جهز له شهورا بعدد من الناس يعادل عدد من يحضرون حديث الثلاثاء بغير تحضير وبغير دعوة؟… حتى الحفلات التي كان يقيمها الملك في ليالي شهر رمضان ويدعو إليها الشعب ليسمعوا مشاهير القراء وليجلسوا على الأرائك الوثيرة وتقدم لهم أطيب المرطبات.. حتى هذه الحفلات لا تحظى بمثل العدد الذي يحضر حديث الثلاثاء بغير دعوة وبدون مقاعد”. انتهى الاقتباس من كلام مؤرخ الإخوان، والمعروف أن حديث الثلاثاء كان خواطر دينية يلقيها مرشد الإخوان بصفة أسبوعية.

ثم يعود مؤرخ الإخوان ليقول: “إن حديث الثلاثاء كان وحده كافيا أن يكون مقياسا صادقا، اعترف بصدقه الجميع حكومةً وقصرا وهيئات وأحزابا يدل على قوة الإخوان وعلى أنهم أصبحوا من القوة بحيث لا يُستطاع مواجهتهم ولا حتى منافستهم”. انتهى الاقتباس من مؤرخ الإخوان.

نتوقف عند مقولة مؤرخ الإخوان: “أصبح الإخوان من القوة بحيث لا يُستطاع مواجهتهم ولا منافستهم”. وهي -من بعض الوجوه- صحيحة، لكنها من بعض الوجوه كذلك مصنوعة ومؤقتة، صحيحة من زاوية أن خطاب الإخوان يجد قبولا حقيقيا عند قطاعات اجتماعية واسعة من المصريين، ومصنوعة من زاوية أن كل الفترات التي ازدهر فيها الإخوان كانت هناك قوى محلية وإقليمية ودولية لها في انتشارهم مصلحة، ومن ثم كانت تفسح لهم الطريق وتجود عليهم بالدعم والعون في السر والعلن. وعندما كان الإخوان في ذروتهم الأولى بعد الحرب العالمية الثانية كان ذلك -من بعض الوجوه- حصاد الدعم الملكي المتواصل الذي قدمته حكومات الأقلية للإخوان من باب النكاية في خصمها وخصم الملك وهو حزب الوفد.

وقد بلغت هذه الجماهيرية ذروتها الثانية والأخيرة في سنوات الرئيس الأسبق مبارك 1981م – 2011م، وكان ذلك- من بعض الوجوه- حصاد سياسة مبارك التى اعترفت بالإخوان واقعيا وحجبت عنهم الشرعية القانونية وسمحت لهم بهوامش حركة واسعة بين كافة طبقات المجتمع.

في النصف الأول من القرن العشرين لم يسبقهم في الجماهيرية غير زعامة سعد زغلول وقد مات قبل ظهورهم ثم حزب الوفد وقد تآكلت شعبيته لصالحهم.

في النصف الثاني من القرن العشرين سبقتهم في الجماهيرية زعامة جمال عبدالناصر بصفته قائد ذي كارزما وقبول شعبي واسع لكنه لم يترك مؤسسة من بعده.

خطورة جماهيرية الإخوان أنها لا ترتبط بالأشخاص لكنها تدور حول الفكرة والفكرة تهيمن على التنظيم والتنظيم يؤدي وظيفتين متناقضتين: الإبقاء على الإخوان في أصعب الظروف، إفناء الإخوان والتضحية بهم وتعريضهم لأعلى درجات الخطر في أحسن الظروف، يعني عندما يكون الإخوان في محنة فإن التنظيم يصمد في تجاوزها مهما تكن الخسائر، ثم عندما الإخوان في نعمة يتغابى التنظيم ويتحامق ويذهب بملء إرادته ومحض رغبته إلى التهلكة.

*****************

رقم اثنين: الإخوان كاستجابة خاطئة لتحديات التاريخ.

حدث تغريب واسع النطاق لمصر في القرن التاسع عشر، ثم في مطلع القرن العشرين سقطت الخلافة العثمانية.

من زاوية الرد على التغريب فإن دعوة الإخوان وغيرها مثل الجمعية الشرعية وأنصار السنة المحمدية يمكن فهمها واستيعابها بدون أي مشاكل،  وهنا يكون دورها مطلوبا سواء في مواجهة مخاطر التغريب أو في صنع حالة من التوازن بين الثقافة الوافدة والثقافة الموروثة، ووجهة نظري أن الإخوان وأمثالهم من الجمعيات الدينية التي ظهرت في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين كانت ردا على تغريب القرن التاسع عشر.

لكن من زاوية سقوط الخلافة العثمانية فإن همة الإخوان ومجهوداتهم ذهبت في الاتجاه الخطأ من التاريخ، ومازالت تذهب في الاتجاه الخطأ من التاريخ، فسقوط الخلافة العثمانية لم يكن غير تحصيل حاصل لانحدار طويل في التاريخ استغرق قريبا من قرنين، وغدت الخلافة بمرور الأيام هزأة فقدت الاحترام والتبجيل، ولم يبق عليها إلا توازنات القوى بين الدول الأوروبية المتنافسة فيما بينها والمتصارعة اقتسام ميراث الخليفة العثماني، ثم أنه لم تكن الخلافة العثمانية وحدها التي سقطت فقد تزامن مع سقوطها سقوط إمبراطورية ال هابسبورغ في النمسا والمجر مثلما سقطت إمبراطورية آل رومانوف في روسيا، واستيقظت القوميات تحل محلها في كل مكان، ولم يمر أكثر من عقدين حتى تفككت كافة الإمبراطوريات ومعها تفكك الاستعمار وتشكل عالم جديد قوامه الدولة الوطنية أو الدولة القومية.

كان المنطق أن يبدأ الإخوان من حيث انتهى التاريخ وأن تقلع مراكبهم إلى حيث تتحرك رياح المستقبل، لكنهم قرروا غير ذلك، قرروا استعادة التاريخ بكامل هيئته وزينته، قرروا استعادة الخلافة ولم يكلفوا أنفسهم مشقة الدراسة والتفكير والسؤال: لماذا سقطت الخلافة وتكرر سقوطها مرة واثنين وثلاثة، لماذا سقطت وهي راشدة؟ ولماذا سقطت وهي أموية؟ ولماذا سقطت وهي عباسية؟ ولماذا سقطت وهي عثمانية؟ ثم على الجانب الآخر: لماذا تتساقط الإمبراطوريات الأوروبية التي خرجت من مطلع القرن السادس عشر حتى القرن العشرين تستعمر قارات الكون المعمور كله؟ ولماذا تنهض على أنقاض الإمبراطوريات دول وطنية ناشئة؟

ولاسترداد حلم الخلافة كان لابد من تعبيد الطريق إليه بسلسلة من الأحلام غير الواقعية والمتصادمة مع أبسط مبادئ الواقع، ذهب الإخوان ومازالوا يناضلون لبناء الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم، والحكومة المسلمة، والدولة الإسلامية، ثم الخلافة الإسلامية، ثم أستاذية العالم، متجاهلين حقيقة أنهم يخاطبون فردا وأسرا ومجتمعات وحكومات ودولا مسلمة بالفعل، ومتجاهلين حقيقة أن ما يحتاجه المسلمون ليس سلطة تحمي إيمانهم إنما المسلمون مثل غير المسلمين في هذا العالم الحديث كل ما يحتاجونه هو التمتع بحرية الاعتقاد وحرية العبادة وحرية الشعائر وحرية الدعوة دون تدخل من سلطة الدولة. فلم يعد للدولة -في العالم الحديث – سلطان على ضمائر مواطنيها، وكل المطلوب منها هو الالتزام بالدساتير والقوانين التي تمنح جميع المواطنين حقوقا دينية واحدة مهما اختلفت دياناتهم وتعددت عقائدهم وتنوعت مللهم ومذاهبهم ونحلهم.

لم تذهب بصيرة الإخوان إلى الجانب المشرق من سقوط الخلافة العثمانية، باعتباره لحظة يتحرر فيها الدين من هذه المؤسسة السياسية التي باتت عبئا ثقيلا عليه، في صدر الإسلام كانت الخلافة مؤسسة يتطور ويتقدم وينتشر في وجودها الإسلام، لكنها انتهت أكثر من مرة إلى قيد على الإسلام وعبء عليه وعنوان فاسد وسيء فوق جبينه.

الإسلام أفضل بدون الخلافة، والتدين أفضل بدون الدولة، هاتان الحقيقتان أتاحهما القرن العشرون، ولو بدأ منهما الإخوان لكانوا وضعوا أنفسهم على الجانب الصواب من التاريخ: الدولة القومية وليس الخلافة وليس الأممية الإسلامية، ثم حريات الإيمان والاعتقاد والتعبد والشعائر لكل المواطنين على قدم المساواة مهما تكن دياناتهم وليس خلق مجتمع ديني مغلق على نفسه ليس في وجه غير المسلمين فقط لكن كذلك في وجه المسلمين من غير أعضاء التنظيم.

*****************

رقم ثلاثة: توظيف الإمكانات الجماهيرية الضخمة في مسارات خاطئة

مؤرخ الإخوان الأستاذ محمود عبدالحليم كان وفديا، وقد شارك في مظاهرة طلابية للدفاع عن دستور 1923م، ثم تعرض هو ومن معه من الطلاب لرصاص الحكومة، وفي هذه اللحظات وهو يواجه الموت سأل نفسه هذا السؤال: لو مت الآن ماذا أقول لربي يوم القيامة؟ هل أقول له أني كنت أدافع عن الدستور؟! وهل دستور 1923م هو الدستور الذي أنزله الله ليحكم هذا العالم ؟! وهل هو الدستور الذي قال الله في شأنه: “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون” (الآية 144 من سورة المائدة)؟!

ويقول: “هنا، وتحت كوبري عباس، وتحت وابل الرصاص، وشبح الموت يطاردنا في كل مكان، في تلك اللحظة قررت إن كُتبت لي الحياة لأصححن اتجاهي، ولتكونن حياتي كلها لله وحده، ولأختطن لنفسي الخط الذي أراد الله للناس أن يسلكوه إليه، وأن تكون جهودي جميعا في سبيل إقامة الدولة الإسلامية التي لا يرضى الله بغيرها بديلا. (ص 47 من المجلد الأول).

هذا التاريخ منشور لأول مرة عام 1978م، وبعدها بعام قامت الدولة الإسلامية في إيران 1979م، وبعدها بعشرة أعوام قامت الدولة الإسلامية في السودان 1989م، وأصبح حلم الدولة الإسلامية ملهما للكثير من الجماعات الدينية في جهات شتى من العالم الإسلامي، هذا الحلم مثل غيره من أحلام الإخوان المجافية للمنطق والمخاصمة للواقع والسارحة مع الخيال هو جوهر المشروع السياسي للإخوان، هو نقطة الإلهام عندهم، وهو الحافز العقائدي الذي يحركهم، وهو في الوقت ذاته الفخ الذي في داخله تتبلور كل التناقضات التي تعيق حركتهم وتجهض مساعيهم في نهاية المآل.

حلم الدولة الإسلامية -بوصفه حلم يقظة من صناعة الخيال- هو ما يشكل رؤية الإخوان لأنفسهم، ثم رؤيتهم للواقع، ثم رؤيتهم لرسالتهم وواجبهم، وكلها في انفصال كامل عن واقع الزمان والمكان.

في رؤية الإخوان لأنفسهم لا أجد تعبيرا أفضل مما كتبه مؤرخ الإخوان عن المؤسس والمرشد الأول الأستاذ حسن البنا. يقول: “لم أقدر النبوة حق قدرها، إلا لما رأيت هذا الرجل، وجلست إليه ولازمته وعاشرته.. وحينئذ بدأت أحس بقدر النبي ومكانته، فرجل كحسن البنا هو دون الأنبياء، ومع ذلك فإن الدعوة شغلته بل صهرته حتى أخرجت منه صورة مجسمة لها (يقصد النبوة). انتهى الاقتباس من ص 59 من المجلد الأول.

في رؤيتهم للواقع ينفردون بسردية تاريخية مخصوصة بهم ولهم، فهو يقول: “ظهر حسن البنا في وقت خيم فيه الظلام الحالك، فلا يستطيع أبعد الناس بصيرة أن يرى أبعد من أنفه، كانت مصر لا أقول تئن تحت كلاكل الاحتلال لكن كانت مستكينة لهذا الاحتلال وادعة مسترخية، كان الحكام يسبحون بحمد الاحتلال، وكان الشعب يسبح بحمد الحكام، وكانت مهمة الأحزاب التطاحن على المناصب، وسواد الشعب الفقير يتهافتون على ما تلقيه معسكرات الاحتلال من بقايا الطعام، والأزهر كان أداة طيعة في يد المستعمر عن طريق الحكام، ويمكن إجمال وصف الوقت الذي ظهر فيه حسن البنا بأنه ظهر والأمة ميتة تماما لا حراك بها”. انتهى الاقتباس من ص 60 وما بعدها.

لست هنا في مجال تفنيد ما يقوله مؤرخ الإخوان، لكني فقط أكتفي بإثباته، فالغرض هو الكشف عن جوهر المشروع وعن منشأ تناقضاته مع الواقع.

– فعندما تكون القيادة في مقام يجسد النبوة الشريفة.

– وعندما يكون المشروع هو دولة إسلامية.

– وعندما تجرد الواقع من كل فضيلة لتنسب لنفسك رسالة إنقاذ وإحياء.

عندما يحدث ذلك كله، فنحن -في الحقيقة- أمام من وضع نفسه بنفسه خارج سياق الحركة الوطنية المصرية التي تبلورت عبر نضال متواصل على ثلاثة مسارات: مقاومة الاحتلال الأجنبي بمطلب الاستقلال، مقاومة الاستبداد المحلي بمطلب الدستور والحكم النيابي والفصل بين السلطات وتأكيد مبدأ الأمة مصدر السلطات، مقاومة التفاوت الطبقي بمطلب العدالة الاجتماعية.

لقد اختار الإخوان أن يذهبوا -منفردين- في سياق مختلف تماما عن السياق الوطني، فجماهيرهم لهم هم، وتنظيمهم لهم هم، وإمكاناتهم لهم هم، وهذا وضع الحواجز بينهم وبين الفضاء الوطني العام، بما مكن الحكام من التحالف معهم ثم الانقلاب عليهم والتنكيل بهم دون كثير مبالاة من باقي أطراف المعادلة الوطنية، إلا أن يكون تعاطفا من باب الغضب لانتهاك حقوق الإنسان أو يكون تعاطفا إنسانيا من باب القرابة والزمالة والصداقة والعشرة إلى آخره.

*****************

لولا جماهيرية الإخوان ما كانت لهم القيمة ولا الوزن السياسي الذي لهم، هذه الجماهيرية جعلتهم مطلبا للملك وأحزاب الأقلية ضد الوفد، ثم جعلتهم مطلبا للضباط الأحرار ضد الملك والوفد وطبقة الرأسماليين وكبار الملاك، ثم جعلتهم مطلبا للسادات يواجه بهم الناصريين واليسار، ثم مطلبا لمبارك يواجه بهم جماعات التطرف، ثم مطلبا للمجلس الأعلى للقوات المسلحة لتصفية ثورة 25 يناير.

وكذلك لولا جماهيرية الإخوان وما تمثله من خطر على الحكام ما كان قد انقلب عليهم الملك وحكوماته، وما كان انقلب عليهم عبدالناصر، وما كان انقلب عليهم السادات، وما كان انقلب عليهم المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد 30 يونيو 2013م.

لقد تحالف الإخوان مع الجميع وانقلبوا وانقلب عليهم الجميع، باستثناء مبارك الذي أعطاهم كل شئ وانقلبوا عليه وتحالفوا ضده في لمح البصر.

جماهيرية الإخوان هي مصدر قوتهم وهي مصدر الخطر عليهم، لم يحافظوا عليها ولم تحافظ عليهم.

*****************

السؤال الآن: هل يستطيع الإخوان العودة كقوة جماهيرية؟

أم أن القرن الحادي والعشرين سوف يكون بلا إخوان؟

الجواب في مقال الأربعاء المقبل بإذن الله.