رسمت قمة المناخ “كوب 26” معالم التوجه العالمي نحو أحدث عضو في أسرة الطاقة المتجددة، عندما استخدم مسؤولو مدينة غلاسكو الاسكتلندية حافلات تعمل بالهيدروجين الأخضر لنقل الزعماء والمشاركين في الحدث المناخي العالمي.
كانت هذه إشارة لوضع الهيدروجين على ساحة الاقتصاد الأخضر العالمي. ومن ثم التحول نحو اقتصاد منخفض الكربون، وفق خطة تمتد إلى العام 2050، اكتسبت زخمًا أوروبيًا لتقليل الاعتماد على الطاقات الأحفورية. وقد رافقتها مبادرات غربية وشرقية عمومًا للتحول نحو الاعتماد المتزايد على الهيدروجين الأخضر، بهدف الوصول إلى “صفر كربون”.
هذا التوجه يحمل بعدين مهمين، الأول هو تحقيق الاستراتيجية المناخية لتقليل انبعاثات الكربون، من خلال الاعتماد على مصدر نظيف. والثاني يتمثل في تأثيره الإيجابي للحد من صراعات دول شرق المتوسط حول الغاز، بفعل تراجع الطلب على الغاز. وهو ما يفسر في الوقت نفسه اهتمام دول شرق المتوسط بإنتاج الهيدروجين الأخضر، بغرض تلبية الطلب الأوربي والعالمي.
ورغم أن التوجه نحو هذا المصدر النظيف من الطاقة يمكن أن يمثل حلاً لصراعات الغاز. لكن ثمة عوامل بإمكانها أن تجعل الذهاب بعيدًا في هذه الاستراتيجية بطيئة. ومن بينها الطبيعة الإنتاجية للهيدروجين الأخضر والتكلفة وتحديات نقله الآمنة، بالإضافة إلى الخلافات السياسية بين الدول.
لماذا الهيدروجين الأخضر؟
عملية إنتاج الهيدروجين الأخضر تتم عن طريق استخدام الكهرباء لتقسيم الماء إلى هيدروجين وأكسجين. فعندما يجرى تمرير تيار كهربائي خلال المياه تنفصل الأخيرة إلى هيدروجين وأكسجين.
لذلك؛ فإن الهيدروجين يعتبر فرصة ذهبية للتحول نحو الاعتماد على الطاقات النظيفة وبدون خسائر. ذلك بالنظر إلى أنه يحتوي على ما يقرب من ثلاثة أضعاف الطاقة التي يحتويها الوقود الأحفوري. ومن هنا يكون أكثر كفاءة، وحماية للبيئة.
العامل الآخر المشجِّع على التحول نحو الهيدروجين الأخضر، هو اعتماده على الكهرباء المتجددة. وقد باتت متوفرة بكميات كبيرة. ومن هنا يكون استخدام الفائض الكهربائي في إنتاج الهيدروجين الأخضر بديلاً عن اللجوء للتخزين. وهو ما يحقق هدفين؛ الأول تحقيق أمان استراتيجي من المخزون، والثاني تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري.
ثمة مشجِّع آخر للتحول نحو إنتاج الهيدروجين الأخضر، وهو انخفاض تكاليف الكهرباء المتجددة. لا سيما من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، والتي بدروها تزيد اهتمام الدول بإنتاج الهيدروجين الناتج عن استخدام التحليل الكهربائي للمياه.
التحول نحو اقتصاد منخفض الكربون
لذلك، تخطط أوروبا لتسريع الانتقال نحو الطاقات لنظيفة، وتقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بنسبة 55% على الأقل خلال العقد المقبل. وهو ما دفعها لإطلاق مبادرات بشأن تزايد الاعتماد على الهيدروجين الأخضر كأحد المصادر النظيفة.
وفي هذا السياق، نشر المعهد الألماني للسياسة الدولية والأمن “SWP” تقريرًا بعنوان “شرق البحر الأبيض المتوسط في بؤرة التحول الأوروبي للطاقة… حول الخصومات العميقة والفرص الجديدة للتعاون بين اليونان وتركيا وقبرص”. وهو التقرير الذي عالج آثار اتفاقية المناخ. بالإضافة إلى نتائج قمة “كوب 26” في غلاسكو وعلاقته باكتشافات الطاقة في شرق المتوسط.
واتفقت الدول الأعضاء على الالتزام بمبادئ اتفاق باريس للمناخ التي تضمنت ضرورة الحد من استخدام الوقود الأحفوري بهدف تخفيض درجة الحرارة 1.5 درجة، وذلك استجابة للتغيرات المناخية، بما يمكن الوصول إلى صفر انبعاثات كربونية بحلول 2050، وهو ما يلقي بظلاله على وضع الطاقة في شرق المتوسط التي تمثل مسرح عمليات بين مختلف الدول بفعل استخراجات الطاقة. إذ تستهدف مصر توليد 42% من الكهرباء من الطاقات المتجددة بحلول عام 2035، بينما تخطط اليونان الوصول إلى نسبة 60%.
هل تتراجع أهمية غاز المتوسط؟
يبدو من هذه التوجهات تراجع أهمية غاز المتوسط؛ بسبب المناخ واتجاه أوروبا للطاقة النظيفة، حيث وضع الاتحاد الأوروبي مبادئ الصفقة الخضراء في 2019، والتي تهدف إلى تقليل انبعاثات الكربون بنسبة 55%، وصولاً إلى صفر انبعاثات بحلول عام 2050. وزيادة الضريبة على ثاني أكسيد الكربون، وتضييق الخناق على الصناعات الكربونية، خاصة في قطاع الغاز.
كما تشجع أوروبا للتوسع في استثمارات الطاقة المتجددة، ورفع الهدف الحالي بنسبة 32% من الطاقة المتجددة في مزيج الطاقة إلى 40% بحلول عام 2030. بالإضافة إلى التوجه إلى استيراد الكهرباء الخضراء من البلدان الغنية بالطاقة الشمسية وطاقة الرياح.
كل هذه التوجهات تضع الاعتماد على الطاقات المتجددة في الصدارة، وهو ما يقابله تراجع حتمي لعناصر الصراع على الغاز الطبيعي، لاسيما في منطقة شرق المتوسط. ذلك يمكن أن يعيد رسم خرائط اقتصاد الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط ويفتح آفاقا اقتصادية جديدة للعمل أمام الدول المشاطئة من الجانبين، لما تتمتع به المنطقة من إمكانيات هائلة.
الهيدروجين الأخضر كمدخل تعاوني في شرق المتوسط
اتساقًا مع ما سبق، فإن استراتيجيات الطاقة أظهرت اتجاهًا عامًا نحو إبطاء ديناميكيات الاستكشاف. ومن المتوقع أن يؤدي التوسع في الطاقات المتجددة إلى فتح فرص جديدة للتعاون عبر الحدود. وبالتالي احتمالية الحد من النزاعات، حيث تخضع اليونان وتركيا وقبرص لضغوط اقتصادية وبيئية هائلة، وفقا لتقرير الحالة السادس الذي نشرته اللجنة الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) في أغسطس 2021، الذي يشير إلى أن الدول المشاطئة للبحر المتوسط الأكثر تأثرًا بارتفاع الحرارة والجفاف وحرائق الغابات والأمطار الغزيرة.
ومن هذا التحدي المشترك يمكن أن يتجه الخصوم نحو التعاون بشأن نقل الكهرباء وإنشاء شبكات كهربائية إقليمية، وتزايد الاعتماد على الطاقات المتجددة، وبالتالي خلق اعتمادات متبادلة في صناعة الطاقة بالمستقبل.
وباعتبارها حلقة نقل واتصال بين شبكات الطاقة الأوروبية والأفريقية والشرق أوسطية، تمثل منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط فرصة واعدة لنقل الهيدروجين الأخضر، الذي يتم إنتاجه في المنطقة العربية، مع تنامي الطلب على الكهرباء الخضراء في أوروبا.
كما أن إحلال الهيدروجين كبديل لمصادر الطاقة التقليدية، يزيد الحاجة للاستفادة من المنطقة من خلال المخزون المتوقع في بحر إيجة. لذلك تعتزم اليونان وتركيا إرساء إطار قانوني لإنشاء توربينات الرياح البحرية.
وفي مارس 2021، وقع وزراء الطاقة من اليونان وإسرائيل وقبرص مذكرة تفاهم بشأن بناء خط الربط الكهربائي الأوروبي الآسيوي. والذي من المقرر أن يدخل حيز التشغيل في عام 2025 لربط مناطق الطاقة في أوروبا والشرق الأوسط، كما وقع وزراء الطاقة في اليونان وقبرص ومصر على إعلان نوايا لبناء مشروع ربط EuroAfrica، بين شبكات الكهرباء الأفريقية والأوروبية بكابل بحري يمتد من مصر إلى كريت.
ومع التوجهات العالمية المستحدثة تجاه الطاقة المتجددة، تراجع مستوى الخلاف حول المناطق الاقتصادية البحرية المنحصرة في شرق البحر الأبيض المتوسط بين قبرص واليونان وتركيا.
أين مصر من خطط الهيدروجين الأخضر؟
أمس الإثنين، تحدث الناطق باسم وزارة الكهرباء الدكتور أيمن حمزة، عن سعي الوزارة لزيادة مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة، من خلال التعاون مع القطاع الخاص، معتبرًا أن الهيدروجين الأخضر هو وقود المستقبل، لذلك وقعت مصر عددًا من مذكرات تفاهم مع عدد من الدول في مجال إنتاج الهيدروجين الأخضر.
المسؤول المصري قال أيضًا إن مستهدف الوزارة الوصول بحجم القدرات المنتجة من الطاقة المتجددة إلى 10 آلاف ميجاوات بحلول 2023، بزيادة 40% من الطاقة المنتجة حاليًا.
اتساقًا مع ذلك، وجه الرئيس عبد الفتاح السيسي في يوليو 2021 بإعداد استراتيجية وطنية متكاملة لإنتاج الهيدروجين الأخضر، وتستهدف الحكومة إطلاق حزمة مشروعات في هذا المجال بقيمة استثمارية تصل إلى 4 مليارات دولار، وفقا لتصريحات سابقة لوزارة الكهرباء.
وفي نوفمبر الماضي، خطت مصر أولى خطواتها نحو مشروعات الهيدروجين الأخضر، بهدف استغلال موقعها الجغرافي للتصدير إلى الأسواق الأوروبية. وقتها أعلنت شركة أوراسكوم الانضمام إلى تحالف الهيدروجين الأخضر مع فيرتيغلوب وشركة سكاتك النرويجية، لتطوير أول مصنع لإنتاج الهيدروجين الأخضر، بقدرة 100 ميغاواط.
تحديات بنيوية وسياسية
ورغم الحماسة الأوروبية بشأن التحول نحو الطاقة النظيفة، فإنّ ثمة ملاحظات رئيسية يمكن أن تجعل فرص الاعتماد المتزايد على الهيدروجين الأخضر بطيئة أو ذات تأثير محدود منها:
التكاليف المالية
تبقى تكاليف إنتاج الهيدروجين الأخضر مكلفة جدًا حتى الآن، حيث قدرت وكالة الطاقة الدولية تكلفة الهيدروجين الأخضر تصل لحوالي 125 دولاراً/ميجاوات في الساعة. مقابل 40 دولاراً/ميجاوات في الساعة للنفط، و60 دولاراً/ميجاوات في الساعة للغاز الطبيعي.
هذا فضلاً عن تكاليف المحلل الكهربائي، هو ما لفت انتباه العديد من الدول لمضاعفة مشاريع المحلل الكهربائي ثلاث مرات خلال السنوات القليلة الماضية. كما يقع تحدي آخر يتمثل في زيادة الأحمال على شبكة الكهرباء وهو ما يتطلب زيادة الاستثمارات في هذا القطاع بالتوازي مع إنتاج الهيدروجين الأخضر.
خلافات شرق المتوسط
تمثل الخلافات السياسية بين دول شرق المتوسط تحديًا كبيرًا أمام إمكانية التعاون في مجال الطاقات المتجددة. وذلك بالنظر إلى التصرفات السابقة. فعلى سبيل المثال، احتجت تركيا على مذكرة التفاهم بين اليونان وإسرائيل وقبرص الموقعة في 8 مارس 2021 بشأن بناء الرابط الكهربائي الأوروبي الآسيوي، نظرا لاستبعادها من الخطط. بالإضافة إلى ذلك، تهدد بعرقلة مشروع الربط الكهربائي بين أوروبا وأفريقيا.
اقتصاديات الغاز
لا شك أن التوجه الأوروبي نحو الهيدروجين الأخضر يهدف بالأساس لتقليل انبعاثات الكربون. لكنه في الوقت نفسه يحقق للقارة العجوز أهدافًا ضمن استراتيجية أمنها القومي. ذلك من خلال تقليل الاعتماد على روسيا صاحبة ثاني أكبر إنتاج للغاز الطبيعي في العالم، بواقع 61.6 مليار قدم مكعب يوميا. وهذا بالتحديد يرشح أن يكون لموسكو دور محتمل في إحباط أية محاولة لتقليل الاعتماد الأوروبي على الغاز، باعتباره يمثل مصدر أساسي للإيرادات الروسية.
كما أن التحول نحو الطاقات الصديقة للبيئة عمومًا لا يعني انتهاء الاعتماد على الطاقات الأحفورية، والغاز الطبيعي. إذ يعني إزالة الكربون عن الاقتصادات الوطنية تراجع الطلب الأوروبي على الغاز وليس وقف الإمدادات. وبالتالي ستبقى ثمة صراعات وإن كانت بشكل أقل في حدتها.
إذن، ما المطلوب لدعم استراتيجية الهيدروجين الأخضر؟
تتطلب دبلوماسية الطاقة تنسيقًا إقليميًا وأوروبيًا، بهدف ضمان وتأمين الأشكال الأكثر استدامة من موارد الطاقة، من بينها:
– الضغط باستمرار على دول شرق البحر المتوسط وشركات الطاقة من أجل وقف وتعليق التنقيب عن الغاز قبالة قبرص وفي بحر إيجة.
– تعزيز الاتجاه نحو إنتاج الهيدروجين المحايد مناخيًا، وطاقة الرياح البحرية من خلال الأدوات الاقتصادية المحفزة.
– خلق ظروف بيئة عمل مواتية سياسيًا لبناء خط الربط الكهربائي بين أوروبا وآسيا وأوروبا وأفريقيا، من خلال تحييد الخلاف حول تعريف المناطق الاقتصادية الخالصة.
– تقليل تكلفة إنتاج الهيدروجين الأخضر من خلال زيادة الاستثمارات في مشاريع المحلل الكهربائي.
– دراسة إمكانية الاستفادة منتدى غاز شرق المتوسط، من خلال توسيع دوره وأطرافه الفاعلة للتحول نحو الهيدروجين الأخضر.
اقرأ أيضًا:
– غاز شرق المتوسط.. ضربة البداية المصرية نحو «صفر كربون»
– تقرير الجواسيس عن تغير المناخ: وسيلة لكسب الحرب التجارية؟ أم نذير لحرب قادمة؟