بقامته الفارعة وملامحه الأوروبية، عرف المصريين “بيير سيوفي” باعتباره “مستر حسان” فاحش الثراء والنفوذ، الذي يسعى الكبار نحو إشارة إصبعه. يخشون من أن يُصيبه الملل فينظر إلى ساعته، بينما يقف عامل التحويلة البسيط “المنسي” أمام جبروته. كان ذلك في رائعة وحيد حامد وشريف عرفة مع عادل إمام عام 1993.

بعد ذلك بثمانية عشر عامًا كان الرجل نفسه من أوائل من وقفوا في ميدان التحرير، وأول من دعا شباب المتظاهرين للاحتماء من قنابل الغاز التي انهالت كالأمطار. مع عنف تجاه من يتم القبض عليه. سواء من المتظاهرين أو مراسلي وسائل الإعلام.

عندها فوجئ أغلبهم بأن الرجل يقطن بأحد أروع إطلالات ميدان التحرير. بل هو مالك العمارة نفسها، التي تحمل عنوان 1 شارع طلعت حرب. والتي كان سطحها طوال الـ18 يوما التالية بمثابة شعلة ثورية ومنفذ آمن للصحفيين والمراسلين. لتبدأ أسطورة شعبية ترددت على مدار السنوات العشر السابقة تحمل اسم “بيير” الذي نعاه قبل أربعة أعوام كل من شارك في تلك الأيام.

ذاكرة حية لوسط البلد

كان بيير سيوفي، الذي رحل عن عالمنا عام 2018. أول من علّق على عمارته اللافتة التي تحمل مطالب الثوار السبعة في أول أيام الثورة. والتي صوّرتها كل وكالات الأنباء. لم يخش غضب مبارك أو أي من حاشيته رغم أن الأمور لم تكن قد اتضحت. لذا رثاه الكاتب الصحفي هاني شكر الله، بقوله “إذا كان ثمة مقر لثورة يناير فقد كان شقة بيير سيوفي في ميدان التحرير. وداعًا يا أرقّ وأجدع الناس”.

وفق ما كتب أصدقاء طفولته، كان بيير شخصية ذات أبعاد متنوعة متناقضة وقارئ نهم. له مواهب عديدة حاول الجمع بينها دون أن يختار. فقد كان رسامًا ومصورًا وممثلًا. بل وكان واحد من أشهر خبراء منطقة القاهرة الخديوية، بحكم معيشته فيها، وميله إلى التأريخ للمباني والبشر الذين عاشوا في المنطقة.

وصفه بعضهم بأنه ذاكرة حية متنقلة. كما كان أيضًا أحد أهم المقتنين للافتات القديمة والأفيشات السينمائية الأصلية والصور الفوتوغرافية. وكان يتقن أربع لغات منها العربية، وكان من أوائل المدونين على الشبكة الإلكترونية بكل اللغات التي يعرفها. وكان من الرحماء حقًا، ونقل البعض عن زوجته أنه اكتشف مرض قط بالشارع بمرض السكر، فأسرع يشتري له العلاج، وأصبح يعطي للقط حقنة الأنسولين بانتظام حتى يحافظ على حياته.

وأشارت الدكتورة منى برنس في رثائها لبيير إلى ذلك القط، فكتبت: القطة دي.. وقت الثورة، كان بيير قافل عليها باب الحمام عشان ما حدش يدوس عليها في الزحمة اللي كانت مالية شقته. وكان كل ما حد يدخل الحمام، يقول له خلي بالك، اقفل الباب بعد ما تخلص عشان القطة ما تطلعش برة”.

اتهامات بالعمالة

قبل أعوام، وصف الإعلامي أحمد موسى بيير سيوفي بأنه إحدى دعائم ما أسماها بـ”نكسة يناير”، وصاحب “غرفة عمليات الخونة”، وذلك عبر برنامجه “على مسؤوليتي” المذاع على فضائية صدى البلد. وقتها حصل بيير على حكم بتغريم موسى 10 آلاف جنيه في قضية سب وقذف. لكن في 21 من فبراير 2016، برأت محكمة جنح مستأنف مدينة نصر الإعلامي. ما أشعر رفاق الميدان بحسرة كبيرة. خاصة وقد استندت المحكمة في حيثيات حكمها إلى ما وصفته بـ”انتفاء الجريمة”. لأن موسى “لم يفعل أكثر من النقد الحر البناء، ومثل هذا النقد لا يصح أن يُفهم على انطواء الإساءة للغير”.

وأضافت الحيثيات: “كما أن حرية التعبير والكشف عن الحقائق لا يمكن أن تُقيد بأغلال تعوق ممارستها، بل لا بد من طرح تلك الأمور على الرأي العام بجميع الوسائل”.

قبل هذا وفي أكتوبر 2014 كتب الصحفي دندراوي الهواري مقالًا بجريدة اليوم السابع، شكك فيه بمصرية “سيوفي”. واتهمه ضمنيا بالعمالة لجهات أجنبية. وهو اتهام جاهز دعمه -وفق الهواري- أن بيير كان يفتح أبواب عمارته للمصورين الأجانب ومراسلي وسائل الإعلام لتصوير الحياة اليومية للميدان والأحداث الجارية.

صاحب الدور المحوري

كتب الهواري واصفًا بيير بـ”الممثل المغمور”: لا نعرف جنسيته بالضبط. هل هو تركي أم خليط ما بين التركي والقبرصي؟. لكن المعلومات المتناثرة وغير المؤكدة تشير إلى أنه تركي ولعب دورًا بارزًا ومحوريًا في ثورة 25 يناير. بل يراه البعض أنه المفجر الحقيقي للثورة وبطل غرفة العمليات التي تدير الأحداث”.

وزعم صحفي اليوم السابع أن الراحل خلال أيام الثورة كان يقوم بـ”التواصل مع الخارج عبر الإنترنت ورفع الفيديوهات والصور المزورة لتشويه الجيش وتضخيم الأحداث وإشعالها بإضفاء المزيج من الشائعات والأكاذيب. بداية من موقعة الجمل وحريق المتحف وأحداث مجلس الوزراء وأحداث محمد محمود الأولى والثانية وغيرها من الأحداث”.

وأشار الهواري إلى أن شقة بيير الشهيرة “لعبت دورًا محوريًا يوم جمعة الغضب 28 يناير 2011، وباعتراف كل الذين دخلوا الشقة وأقاموا فيها فترة الثورة. يؤكدون أن مطبخها يضم كل ما لذ وطاب من المأكولات، والعصائر وأنواع الخمور”.

وزعم الصحفي في نهاية مقاله كراهية سيوفي للجيش المصري للدرجة التي دفعته إلى ارتداء تيشرتات مكتوب عليها: “الجيش والشعب إيد واحدة مبتصقفش”، و”أنا بلطجي”. دون أن يدري طريقة الرجل الساخرة ونظرته للحياة.

تيشيرتات وتابوهات

في أحد مقالاته عام 2011، وصف الروائي الراحل مكاوي سعيد -أو عمدة وسط البلد كما كان الجميع يُناديه- بيير، الذي كان شخصية شهيرة في وسط البلد “بطوله الفارع، وعرضه الذي يقترب من البدانة، وشعره المسترسل خلفه الذي دب فيه الشيب مؤخرًا، ولحيته المكسوة بياضًا التي يطلقها أحيانًا. فتبدو كلحى السلفيين أو القساوسة، ومقدمة رأسه الضخم التي تكاد تبدو خالية من الشعر”.

كما قال مكاوي، فقد اشتهر بيير بطريقة سير مميزة، يزيد من لفت الانتباه إليه “كرش عظيم”، حسب وصفه. يزيده وجاهة الـتيشيرتات القطنية اللافتة للنظر التي يرتديها “وتصير بعد أن يرتديها موضات يتبعه في اقتنائها ولبسها الكثيرون”. وهي واحدة من العلامات التي -بخلاف قامته الفارهة- تجعل الناظر يدرك من بعيد أنه هو.

يُضيف مكاوي: “كل تي شيرت بحال. فإما على صدره وظهره رسومات عادية مجردة، وإما كلمات بلغات أجنبية مختلفة بذيئة أو عابرة للتابوهات. أو عبارات طريفة وسط ألوان فاقعة، أو رسوم كاريكاتيرية غريبة عن سكان الفضاء، أو حيوانات متخيلة ليس لها وجود إلا في مخيلة راسمها. وفي الجزء الأسفل بنطلونات غالية من القطن أو الكتان، أو رخيصة من التيل والدمور. اللافت فيها جيوبها التي كثيرًا ما تظهر منها بطانتها من دون أن تعود مرة أخرى لمكانها”.

رغم مواهبه المُتعددة، كان الوجه الثوري هو الأشهر لخريج الجامعة الأمريكية، الذي انحدر من عائلة تعمل في تجارة التحف والأنتيكات. لكنه كان فنانًا تشكيليًا بارعًا حسب أصدقائه.

وبالطبع كان ممثلًا معروف وجهه في أفلام صارت أيقونة لحقبة التسعينات من القرن الماضي. فبعيدًا عن “المنسي”، التقى بيير مع الفنان الراحل أحمد زكي في فيلم “أرض الخوف” في دور مدير الكباريه، ولعب دورًا في مسلسل “أهل كايرو”. بينما شارك كأحد أعلام ثورة يناير في الفيلم الوثائقي “الميدان”، الذي رُشح لجائزة الأوسكار عام 2014.

كذلك، استوحى منه الأديب علاء الأسواني شخصية “أشرف ويصا” في روايته “جمهورية كأن” الصادرة عن دار الآداب اللبنانية. بدا التطابق في مشهد قيام أشرف بمساعدة مجموعة من شباب الميدان، بفتح شقة الدور الأرضي في عمارته وتنظيفها، وأصبحت مقرًا للثورة.

مرثيّات بيير

في أعقاب رحيله، رثى زياد العليمي -المحكوم عليه حاليًا بالسجن 5 سنوات في قضية الأمل- صديقه بيير. كتب على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك: “شايف البلكونة اللي متعلق فيها مطالب المعتصمين دي؟ ده بيت بيير السيوفي. الراجل اللي أحلام ملايين المصريين اتعلقت ببلكونته، ورسم كل أحلامهم -في المطالَب اللي وقتها كانت ممكن تكلفه حياته- على واجهة عمارته”.

خلال مرثيته، حكى العليمي عن أيام الميدان في شقة بيير “الثورة كانت فرصة لبيير.. فجأة الشوارع والحواري اللي قلبه عايش فيها بناسها وصلوا لغاية عنده، تحت البيت. بيته بقي جزء من الميدان، بثقافته، وطريقته وناسه، جزء من الميدان حرفيٌا مش مجازًا. باب مفتوح 24 ساعة، تدخلوا تلاقوه قاعد في / أو حوالين نفس المكان، ماسك الكمبيوتر بتاعه، وبيكتب أو بيتابع حاجة، وباقي البيت زحمة بشكل رهيب بناس معظمها ما يعرفوش مين صاحب البيت أصلاً”.

وكتبت الصحفية منى أنيس: وداعًا بيير سيوفي. إذا دوّرنا على حد يمثل دور أولاد الذوات اللي بيضموا على الثورة لحظة احتدامها -وهي ظاهرة معروفة في كل ثورات العالم- مش حنلاقي في جيل التسعينات حد أقدر من بيير سيوفي على هذا الدور. عرفته في أوائل التسعينات طالبًا في الجامعة الامريكية وصديقًا للعديد من زملائي وزميلاتي الشبان في الأهرام ويكلي. حضرت بعض حفلات أعياد الميلاد على سطح منزله المطل على ميدان التحرير وحسدته دائما على الموقع المتميز لعمارة اهله تجار العاديات”.

وتابعت: “بعد عشرين سنة، وفي ثورة يناير 2011، إذا بهذه العمارة الملاذ الأول لشباب الثورة. وإذا بشقة بيير أعلى العمارة مركز إعلام الثورة الذي خرجت منه أغلب اللقطات المؤثرة وغطت منها وسائل الإعلام أحداث الثورة لحظة بلحظة. وحين أعلن عمر سليمان استقالة حسني مبارك يوم 11 فبراير 2011 كانت عمارة بيير سيوفي المكان الذي حملت واجهته لحظة إعلان القرار. لافته بطول العمارة لمطالب الثورة والثوار”.

واختتمت بالقول: “بيير سيوفي الشهم المتواضع الذي بذل الكثير بشهامة وكرم غير محدودين. وداعًا ورجاء لمن عرفه جيدًا تقديم سيرته لمن لم يعرفه”.