الجدل حول ثورة يناير متعدد الأبعاد، فهناك القلة التي ترفضها كليا وتعتبرها مؤامرة، وهناك الأغلبية التي تعتبرها ثورة شعبية ملهمة، ولكنها اختلفت فيما بينها حول الموقف من أداء من قادوها وأسباب تعثرها.
والحقيقة، أن أحد جوانب هذا الجدل تتعلق بالنظرة إلى فكرة الثورة نفسها وقضايا التغيير الثوري، فهناك من اعتبر ولو ضمنا أن الثورة هدف فعاش حياته يحلم بتفاصيلها وأيامها الملهمة طوال الـ 18 يوما، ورفض المشاركة في المسار السياسي، الذي أفرزته قبل أن تحقق أهدافها في إقصاء الفلول وتأسيس نظام جديد عبر احتجاجات الشارع الثورية.
وهناك من رأى أن الثورة وسيلة اضطرارية ومخاطرة يفضل عدم الاقدام عليها، وتمسك بالمسار الإصلاحي، حتى لو شارك في ثورة يناير باعتبارها وسيلة ستوصله إلى هدفه. وهو إصلاح النظام القائم أو بناء نظام سياسي جديد عبر مسار إصلاحي.
إن الشعارات الثورية لا تحقق أهداف الثورة، مهما كان بريقها لأن الفيصل هو في قدرتها على التفاعل مع الواقع والتأثير فيه، وأن أي ثورة تحقق أهدافها بمشروع إصلاحي يبدأ بتقديم بديل سياسي لما هو قائم، وإصلاح المؤسسات القائمة جراحيا وليس بالمسكنات.
هل سمع أحد في تجارب التغيير الناجحة منذ منتصف القرن العشرين في أوروبا الشرقية وامريكا الجنوبية وكثير من دول آسيا وأفريقيا عن تعبيرات من نوع التطهير والمحاكم الثورية؟ الحقيقة أن هذه التجارب تبنت مفاهيم العدالة الانتقالية بديلا عن المحاكم الثورية، والنظم الديمقراطية ودولة القانون والإصلاح المؤسسي بديلا عن إسقاط الدولة والنظام الثوري وشعارات الثورة الدائمة.
صحيح، هناك بعض التجارب التي سعى فيها كثير من الثوار إلى بناء مجتمع ثوري، وهناك كثير من الثوار أسسوا لنظم استبدادية أعطوا فيها لأنفسهم ولنظمهم حصانة ثورية حولت النظام الثوري إلى تكأة لإقصاء المعارضين والمخالفين في الرأي.
والمؤكد، أن هناك من طالب عقب يناير بنظام ثوري، وتصور إنه بعد تطهير البلاد من كل رموز النظام القديم، واختيار حكومة ثورية، فإن هذا سيعني ميلاد مصر الجديدة الثورية الخالية من العيوب والشوائب، وهو ما لم يحدث عندنا ولا عند غيرنا.
الحقيقة، أن هذه الشعارات الثورية التي راجت عقب يناير أدت إلى مواجهات حادة بين الثوريين والإصلاحيين. وكانت الغلبة في السنوات الأولي للثورة للصوت الثوري الذي أسقط دستور 71 بدلا من تعديله، في حين أن من كتب هذا الدستور هم رموز التيار المدني وليس الإسلامي.
ومع ذلك، كان نشطاء التيار الأول هم المطالبين بإسقاطه، كما رفضت التيارات الثورية أي تفاهم مع المجلس العسكري في حين فعل الإخوان العكس، وقسم الخلاف الثوري الإصلاحي ظهر القوي المدنية التي لا يمكن أن تغير في أي معادلة سياسية سواء في مواجهة تيار رفض الديمقراطية داخل الدولة أو تيار الإخوان خارج الدولة إلا بتلاحم ليس فقط القوي الثورية والتيارات الإصلاحية إنما بين الاثنين والقوي المحافظة والتقليدية داخل المجتمع.
هنا، حدث انقسام آخر نخر في صفوف القوى المدنية وهو “ألحق فلول”. حيث تم إقصاء قطاعات من الحزب الوطني الديمقراطي الذين دخلوا الحزب باعتباره حزب الدولة، الذي يتيح لهم تقديم خدمات لأبناء دوائرهم الانتخابية دون أن يتورطوا في أي جرائم. وكان هذا الإقصاء لصالح الإخوان الذين اعتبروا العزل السياسي فرصة لتحقيق مكاسب انتخابية وتصفية حسابات مع الخصوم وليس إجراء أي إصلاحات خاصة أن القوي الثورية التي تبنت هذا الموقف لم يكن لها تنظيم شعبي قوي قادر على ملء الفراغ الذي سيتركه إقصاء القوي التقليدية التي كانت جزء مؤثر من الحزب الوطني.
معضلة مصر عقب ثورة يناير أن لا الثوار بنوا تنظيمات ثورية يمكن ان يعمل لها حساب في معادلة المجلس العسكري والإخوان، ولا كان هناك إصلاحيين مدربين بنوا أحزاب سياسية منظمة قادرة على فرض بديل إصلاحي، ومؤسسات مهنية تفرز كوادر قادرة على إصلاح مؤسسات الدولة، فبقينا أسرى شعارات ثورية تخون الإصلاحيين، وأماني إصلاحية ترفض الثوار، وبقيت البلاد محلك سر.
إن البحث عن مجتمع ثوري تصنعه أيديولوجية معينة لا وجود له على أرض الواقع ولا تدعمها خبرة إنسانية واحدة. فكل التجارب الإنسانية التي حاولت أن تهندس المجتمع والناس وفق عقيدة سياسية أي كانت يافطتها الثورية انتهت بالفشل المدوي في حين أن كل من حاول أن يستلهم من العقيدة السياسية أي كان اسمها برامج ورؤى نسبية لا تحتكر الدين أو الوطنية أو الثورية ويؤسس لمسار إصلاحي يبني دولة قانون ديمقراطية احتفظ بشروط ومسوغات النجاح.
إن اختزال معادلة الثوريين والإصلاحيين في الموقف من السلطة لم يكن معيارا صحيحا للحكم على أهلية الطرفين، فبعض من رفعوا شعارات مفرطة في تطرفها الثوري تحولوا 180 درجة وأصبحوا انتهازيين وليسوا إصلاحيين، وبعض من تبنوا خيارات إصلاحية تحولت مواقفهم وأصبحوا شديدي الرجعية، وتناسوا كل أراءهم الإصلاحية السابقة. ولذا فالمطلوب هو النظر إلي المجتمع وبحث خيارات قادرة على التأثير فيه ونقله خطوات للأمام. وهو سيفتح الباب لنوعية جديدة من الخلافات تتجاوز ثنائية الثوريين والإصلاحيين، قد تكون حول أولويات التنمية أو بين محافظين وتقدميين وغيرها.