“ده عيل هيعيط له شوية وهينسى” كثيرا ما كنا نسمع هذه الجملة من آبائنا وأجدادنا، حين يقع أحد أطفالنا أو ينزلق إلى خناقة مع طفل آخر أو حين ينهزم في لعبة أو تنكسر لعبته أصلا. فنجد أنفسنا محتارين بين أن نجري عليه لندعمه ونطيب بخاطره ونشجعه أو لنتناسى الموضوع تماما، ولا نعطي له أهمية. فالطفل من وجهة نظر آبائنا وأمهاتنا ليس له نفسية من الأساس حتى نهتم بها.

كجيل وسط، أبناؤه الآن على مشارف سن المراهقة والبلوغ الجنسي- يجد صعوبة في التعامل. لكنه أيضا أصبح موقنا بأن هناك ما يسمى بالصحة النفسية للأطفال. ذلك من خلال انتشار الصفحات المختصة على الإنترنت والمنشورات التوعوية على صفحات “فيسبوك”، وإشعارات قسم الصحة والتربية في العديد من المواقع الإخبارية المختلفة. صرنا نعرف أن نفسية الطفل تتكون منذ صغره. بل حتى في مرحلة الرضاعة. وأن أول صدمة تؤثر في تكوين شخصيته هي صدمة الفطام.

أصبحنا متأكدون أن أغلب جيل آبائنا وأمهاتنا جاهل تمامًا، وأنه أخطأ كثيرا في إهمال صحتنا النفسية كأبناء لهم، ولا يجب أن نصبح مثلهم. فـ”النفسية” ليست كشعر اللحية الذي ينمو فجأة في وجه الفتى في سن المراهقة. بل هي تجارب متراكمة ومواقف بسيطة كلعبة الأحجية “البازل” تتكون منذ الطفولة المبكرة.

(1)

تخبرني ( ش. أ) 37 سنة – تعمل صيدلانية، أنها لاحظت أن طفلها أصبح أكثر أنطوائية مؤخرا، بدءا من وقت الحظر وإغلاق المدارس، مع ظهور أول موجات لمرض كورونا. منذ وقتها أصبح أكثر ميلا للجلوس بمفرده. لا يريد حتى الخروج للتمشية حول المنزل معي، ولا أن يخرج مع رفاقه للسير بالدراجات كما كان يفعل.

حين بدأ العام الدراسي التالي للغلق كان غير متحمس تماما للعودة. تقول: “ظننت أنه أمر طبيعي، فقد كان صعب علينا نحن ككبار العودة مرة أخرى للعمل والنزول للشارع وصعوبة  التفاعل الاجتماعي كالزيارات ولقاء الأصدقاء والذهاب لمشاهدة فيلم في السينما. كلها أمور كانت صعبة علينا.. كما أنني قرأت عدة مقالات تُشير إلى أن هذه الظاهرة منتشرة بين الأطفال بتأثير من الإغلاق أثناء الكورونا. فقلت لنفسي: إنه لا بأس فيما بعد سيعتاد مرة أخرى التواصل والنزول ولكن الأمر ازداد سوءا”. 

الاستهانة بحجم المشكلة

حين نكون صغارا تكون كل الأشياء كبيرة ومهمة، حتى الشوارع تكون كالملاعب، والخصام بيني وبين صديقي يتحول لحرب باردة. حين تنكسر عصاي التي ألعب بها أصير مهموما طوال اليوم، وأعتقد أنني لن أجد لها بديلا. حين يدفعني أحدهم متنمرا علي حتى لا ألعب مع فريقه أظل أياما أتجنب الشارع الذي رأيته فيه. أظل أشعر بالخزي لأنني جبانا لم أدافع عن نفسي.. وبعد عشرين عاما سأتذكر هذا الموقف، وسيصبح الشارع العظيم مجرد زقاق صغير، واستغرب كيف كنت أراه واسعا متشعبا؟

هكذا يجب أن نفكر في أطفالنا، ونتذكر كيف نحن كنا نرى كل شيء كبيرا ومهما وخطيرا. وبالتالي، فحين يخبرني طفلي بأن لديه مشكلة يجب أن أنصت، أترك ما بيدي والتفت إليه واسمعه. يجب أن أرى الأمر -الذي بالتأكيد نراه تافها بسيطا- أمرا مهما وصعب الحل. أن أستعير خيال طفلي وأفكر مثلما يفكر.. حين أبدا استشعر حجم المشكلة كما يراها سيصله تفهمي ومؤازتي.

هذا من أهم ردود الفعل التي ينتظرها الطفل من والديه. لا يجب أن نخبره “ده موضوع عبيط خالص.. هي دي بقى المشكلة اللي بتفكر فيها.. لما تكبر هتعرف أن دي مشكلة تافهة وان فيه حاجات أصعب من كدة هتمر بها”. هو لا يريد أن يعرف أن هناك أصعب قادم. هو يريد أن يطمئن الآن، في عالمه الكبير المليء بالتنمر وامتحانات المدرسة ومدرب التمرين والخوف من الفشل والاحتياج لصديق.

الاستهانة بما يشعر به الطفل قد يضعه على طريق الانطواء؛ فلا أحد ينصت: لماذا أتحدث أو أشارك مشاعري؟ وقد توصله لحالة من الإحباط وربما الاكتئاب؛ فلا أحد معي في هذا العالم يفهمني وكلهم يخبرونني بأن هذه ليست مشكلة. 

(2)

تقول لي ( ش.أ ): “مع مرور الوقت لم يتحسن كما توقعت. بل ازداد الأمر سوءا. ابتعد عن أصدقاء المدرسة ولم يعد يريد العودة لممارسة السباحة التي يمارسها منذ 6 سنوات في فصل الصيف، وفي المدرسة كذلك.

في أيام الإجازة الأسبوعية، لم يعد يريد أن يشاهد معي فيلما كما اعتدنا يوم الإجازة المدرسية. أصبح يفضل أن يمسك بهاتفه يشاهد فيديوهات على “يوتيوب” و”تيكتوك”. حاولت أن احدد وقتا معينا للتليفون. لكنني لم أستطع. فصار يجلس صامتا في غرفته حتى وهو بدون تليفون بين يديه، كنت ادفعه للرسم أو للقراءة أو مشاهدة أي حلقة من مسلسله المفضل وولكنه لم يستجب وأصبح عنيدا لأوامري وهو أمر لم أعتده معه..”. 

لا نصدق أن الأطفال قد يصابون بمرض نفسي 

من الأمور الخطيرة التي تربينا عليها أن الطفل بيفرح بسرعة وبيزعل بسرعة، وهو سريع النسيان. وأنه عندما يبكي فهو سيصمت بعد قليل، نظرية: “هيعيط شوية وهيسكت”. للأسف ما تربينا عليه خطأ. وربما هو سبب في كثير من الاضطرابات النفسية التي نعيشها الآن. فإذا كنا نحاول حقا أن يختلف أبناؤنا عنا يجب أن نربيهم بطريقة مختلفة عما كان آباؤنا وأمهاتنا يفعلون.

فالصحة النفسية مهمة، وهي تتشكل منذ الصغر، والتربية لا تعني أن أوفر الأكل وفلوس الدرس والملابس و”أشخط” فيهم لما يتشاقوا أو يغلطوا. فبالتأكيد نحن -جيلنا نحن- أصبح موقنا أن هذه الطريقة فاشلة، والدليل نحن، نفسياتنا غير السوية.. فلننظر حولنا ونستمع لأصدقائنا ونحلل مشاكلهم. سنجد أن معظمها يرجع لاضطراب نفسي ما بدأ في مرحلة الطفولة أو المراهقة.. فلا يجب أن نبسط أي مشكلة يعاني منها الطفل ظنا منا أنها ستمر وكلها مسألة وقت وتنتهي.

ليس نحن فقط الذين ظننا خطأ. فالعديد من العلماء كانوا ينكرون أن الأطفال يصابون بالاكتئاب أو ببعض الاضطرابات النفسية.

يقول دكتور ستيوارت واطسون في دراسته “الاكتئاب لدي الأطفال والمراهقين”-جامعة ميامي: “من النادر أن نجد مظاهر اكتئاب للأطفال في الفئة العمرية ما بين 6-12 سنة. وإن وجدت فهي تختلف عن تلك التي تظهر عند الكبار. وإن كانت المجالات الطبية النفسية حتى سنوات قريبة لا تعترف بوجود اكتئاب عند الأطفال. وكان الاعتقاد أن الأطفال لا يصابون بالاكتئاب. ثم اتضح أنهم يعيشون الأعراض الاكتئابية، حتى وإن كانت تبدو هذه الأعراض لدقائق، فإن غض الطرف عنها، يؤدي إلى ظهور اعتلالات في الصحة النفسية مستقبلا”. 

(3)

تستكمل (ش.أ) حديثها معي: “ثم وصل لمرحلة بدأ فيها يحدثني وهو يضحك أنه يتمنى أن يموت. هنا أحسست بالخطر والخوف، فأستشرت صديقا طبيبا نفسيا وأخبرني أنه يجب أن يخضع لعلاج نفسي فورا. بالفعل بدأ في الذهاب لصديقي الطبيب الذي كان يعرفه كصديق للأسرة، فكان من السهل أن يتحدث معه. وبعد عدة جلسات وبتوجيهات من الطبيب بدأنا نلحظ بعض التحسن والانطلاق قليلا في التعامل والعودة للتواصل معنا مرة أخرى بالحديث أو الحماس لفعل نشاط ما.. هناك أيام يعود فيها للإحباط سريعا ولكنني ألجأ فورا مرة أخرى للطبيب لاستشيره كيف أساعد ابني..”. 

(4)

يقول دكتور زكريا الشربيني في كتابه “المشكلات النفسية عند الأطفال” الصادر عن دار الفكر العربي-2016: “إن الاكتئاب لدى الأطفال والمراهقين هو حالة نفسية سلبية مصحوبًا بانخفاض احترام الذات وفقدان المتعة أو فتور الهمة. قد يكون هذا رد فعل لأحداث معينة في حياة الطفل، أو أحد الآثار الجانبية للأدوية، أو اضطراب نفسي،  ويشبه الاكتئاب في مرحلة الطفولة والمراهقة اضطراب الاكتئاب الشديد لدى البالغين، قد يعاني الأطفال والمراهقون زيادة في التهيج أو السلوك العدواني والتدمير الذاتي.

 إن الأطفال الذين يتعرضون للإجهاد والقلق أو الذين يعانون من اضطرابات الانتباه، أو صعوبات التعلم، أو المشكلات السلوكية هم أكثر عرضة للمعاناة من الاكتئاب. وكثيرا ما يرتبط اكتئاب لدى الأطفال والمراهقين باضطرابات عقلية أخرى مثل اضطرابات القلق أو اضطرابات السلوك”.

كما أن دكتور واطسون يؤكد على أن علماء النفس قد طوروا علاجات مختلفة لمساعدة الأطفال والمراهقين الذين يعانون من الاكتئاب. وعلى الرغم من شرعية تشخيص اكتئاب الطفولة كاضطراب نفسي، وفعالية طرق وعلاجات التقييم المختلفة تبقى مثيرة للجدل. فنسبة انتشار مرض الاكتئاب عند الأطفال أقل منها عند الكبار. حيث إنه يصيب الصغار بنسبة 1-2% ولكن عند المراهقين بنسبة 2-5%. ويصاب به الذكور أكثر من الإناث قبل سن البلوغ. لكن بعد البلوغ نسبة إصابة البنات أكثر. 

(5)

عندما يصيبنا نحن الكبار الاكتئاب ندرك ذلك سريعا، أما الطفل فلا يعرف سوى أنه حزين ووحيد، حين نحن نشعر بالكآبة معظم الوقت. الطفل -حسب كلام علم النفس- يشعر بدلا عن ذلك بالتهيج، فيُصبح سريع الغضب والانفعال والبكاء. كذلك يفقد استمتاعه بالألعاب والنشاطات والفُسح وعدم الرغبة في الذهاب إلى المدرسة. يشعر بالذنب وعدم القيمة، وبطء في الحركة، فقدان الأمل والحديث عن الرغبة في الموت، نقص أو زيادة في الوزن، وأيضًا قلة أو زيادة ساعات النوم. ربما أيضًا ستلاحظ كأب او كأم أنه اصبح أكثر قلقا ويشعر كثيرا بالمغص والصداع عما هو معتاد.

يجب أن نلاحظ وأن نستمع وأن نهتم بأتفه المشاكل، ونطلب المساعدة حين نعجز -نحن الوالدين- عن المساعدة أو إحداث تقدم. علينا أن نقرأ كثيرا عن صحة الأطفال النفسية. أن نصدقهم وندعمهم ونترك لهم مجالاً للبوح والبكاء والفضفضة. فصحتهم النفسية هي عمودهم الفقري الثاني كلما اعتدل توازنت خطواتهم وعلاقاتهم وصاروا أفضل منا. ذلك إذا ما كما نريد لهم ما نخبرهم به دائمًا: “أنا عايزك تطلع أحسن مني”. أليس كذلك؟