من “لن ينتهي الغلاء حتى تتحجب النساء” إلى “مين وداها هناك”. ظلت المرأة المصرية في مرمى نيران التيارات الرجعية. سواء كانت أهلية دينية أو مؤسسية. وعلى قدر ما منحتها ثورة يناير من استحقاقات وفرص للتحقق استغلتها شريحة مهمة منهن. إلا أن فريقا آخر لا يزال مهمشا يخشى التغيير ويرضى بالقليل.

وهو الفريق نفسه الذي يتخذ موقفا مناهضا للحريات النسوية في كل مرة تجرى المناقشات حول قيم المجتمع وتراثه الرجعي. في شكل التبني الواضح للخطاب الذكوري المعتاد. وفي الذكرى الحادية عشرة للثورات العربية ربما يكون جديرا بنا تقييم تلك التجارب وتأثيرها على المرأة خصوصا.

المرأة وجذور التهميش

قبل الثورة والحراك ربما يفيد البحث في جذور تهميش المرأة ومظاهر عدم تمكينها كأحد أسباب تبني البعض منهن –عن غير وعي- للخطاب الأبوي. رافضات بكل ما أوتين من قوة المساواة في الحقوق. متزينات بقيود المجتمع وضغوطه التي ترى فيها نصيبها العادل. وذلك في تماهٍ تام مع الجاني. فيصبح نصف المجتمع والطرف المسؤول عن زرع الأفكار والقيم في وجدان النصف الآخر مكبلا بتلك الأفكار.

وللحق فهي مسألة موغلة في القدم. ومر بها العالم. على سبيل المثال في أوائل القرن العشرين ومع المطالبة بحق المرأة في التصويت ظهرت حركات نسائية مناهضة لهذا الحق. معتبرة أنه لا مكان لسيدة في مجال السياسة. وأن واجباتها تجاه المجتمع ستتأثر بمشاركتها. ولكن مع خوض هذه المجتمعات معاركها خلصت إلى أن مصلحتها في إعلاء تلك الحقوق. وهي المرحلة التي لا تزال منطقتنا تتطلع إليها.

الثقافة المناهضة لحقوق المرأة ووجودها بين النساء ترى فيها نيفين عبيد -مديرة مؤسسة المرأة الجديدة- أمرا طبيعيا. فمن ناحية فإن الذكورية ليست حكرا على الرجل كما يعتقد البعض. فالمرأة التي نشأت في بيئة وإطار الرجل فيه أولوية كيف لها أن تغير نظرتها. خاصة في ظل محتوى ديني معضد لتلك الثقافة.

وتوضح “عبيد” أن المرأة لم تكن مصلحة مباشرة للرجل حتى في أعتى الأحزاب اليسارية البريطانية. حتى احتجت المرأة نفسها وعملت على جمع المكاسب واضطرت الجميع للنظر إليها كرقم رابح في المعادلة السياسية.

ومع ذلك فمما لا شك فيه أن مسألة تحرير المرأة حصدت الكثير من الاستحقاقات عبر سنوات. فمنذ مطلع القرن الماضي لم تدخر السيدات جهدا لتجاوز العقبات الاجتماعية والثقافية، التي تقف في مواجهة حل القضية.

قضية المرأة بين المد والجزر

ما تمر به الحياة السياسية في مصر تمر به قضية المرأة من فترات مد وجزر وتغير في المفاهيم. كما أن الاستقطاب التي لعبت عليه الجماعات الرجعية ومولته منذ عودتها من دول الخليج، خاصة في الثمانينات، جعل المسألة النسائية في قلب الصراع على السلطة وبشكل براجماتي بحت. فقد أدركت هذه الجماعات مبكرا أن دعوات مثل الحجاب والعودة إلى المنازل قد تجد قبولا لدى الجماعات المحافظة، التي عادت من الخليج، متلبسة أخلاق القبيلة، وقيم حماية المرأة حتى من نفسها بفرض الوصاية الكاملة عليها.

ومع النص الدستوري الشهير الذي أضافه الرئيس الراحل أنور السادات بأن “الشريعة الإسلامية مصدر رئيس للتشريع” وجدت الجماعات الإسلامية مجالا لفرض هيمنتها الثقافية. خاصة في ظل وفرة مالية أسهمت في دعم النساء خاصة بالقرى. وبيعهن الزي الإسلامي بأسعار رمزية خاصة “الخمار” الذي كثيرا ما كان يتم توزيعه مجانا. ومحاولة حجبها بالكامل. فضلا عن المراكز الصحية والخيرية التابعة لهم والتي تقدم الخدمات في مقابل الولاء.

والحقيقة أن موقف الدولة المهادن أحيانا والمتحالف كثيرا مع الجماعات السلفية أسهم بشكل أساسي في منحها وظيفة ضبط أخلاق المجتمع. حتى أن ملصقاتهم كانت بكل مكان مع مطلع التسعينيات. كما أن حمى شرائط الكاسيت انتشرت كالنار في الهشيم، واعدة المجتمع بآخرة سعيدة، بغض النظر عن أوضاعهم الدنيوية التي يجب الصبر عليها أيا كان درجة الظلم، والفقر. وذلك من واقع نظرية الأربعة وعشرين قيراطا للشيخ متولي الشعراوي، والتي تجعل الجميع راضيا بنصيبه، فضلا عن حرمة الخروج على ولي الأمر.

لعبة الفتاوى

حينها انتشرت الفتاوى التي تهتم بشكل المرأة لا بعقلها. وعلى الجانب الآخر تغلغل النفس المحافظ إلى المجتمع بشكل مؤسساتي وقانوني. بل وأغلقت بعض المؤسسات المهتمة بعمل النساء من قبل الحكومة وأحيانا لضعف الدعم المادي. كما أن المشاركة السياسية للمراة كانت لا تزال على استحياء وبطلاتها نساء لا يعبأن بالقضية النسائية. ولم تهتم الأحزاب وغيرها من المؤسسات بعملية إدماج السيدات وتمكينهن. وانتشرت نسب البطالة الرسمية والمقنعة بينهن ليصبح الرجل الرب الوحيد للأسرة.

وفي الطريق لم تتوان الدولة عن ردع النساء وتعريضهم للعنف في مواجهة مشاركتهن السياسية كما هي الحال في حادث التحرش والاعتداء الشهير الذي يطلق عليه “الأربعاء الأسود” عام 2005.

حتى خرجت الجماهير لإسقاط نظام مبارك وظهرت المرأة للعلن ولعبت دورا واضحا في إسقاط النظام الذي أسهم في تهميشها عام 2011. ذلك الظهور الذي كلفها كثيرا بالرغم من حصولها عبره على كثير من الاستحقاقات. إلا أنها أصبحت في بؤرة التيارات الرجعية، التي خافت من خروجها، ومحاولتها للتغيير، ما من شأنه تقويض نفوذهم.

وكان للفريق المناوئ أن يستخدم المرأة نفسها في مواجهة النساء الطامحات للتحرر، مستغلا “أدلجة” بعضهن عبر التيارات الإسلامية، وخشية البعض الآخر محاولات التجريب والتغيير.

أما اختلاف الفرق حتى داخل التيار النسائي، فتراه الباحثة النسوية إلهام عيداروس أمرا بديهيا. حيث لا تعد الكتلة النسوية واحدة. بل تتسع رأسيا وأفقيا متضمنة النساء المناهضة لحرية النساء.

نيران صديقة

وفي النيران الصديقة -أي النساء المعاديات للحريات- فهناك نوعان بحسب ما ترى “عيداروس”. أحدهما ينتمي للتيارات الدينية المختلفة، حيث الاختيار سياسي ديني موجه، والآخر نشأ في مجتمع محافظ، ليس له حيلة فيه. وهو القطاع الذي يجب أن تستهدفه الحركات النسوية.

توضح “إلهام” أن استقطاب هؤلاء وإعادة تأهيلهن وتمكينهن ليس بالأمر الصعب. حيث تكون لهن مصلحة مباشرة في الانضمام للتيارات المطالبة بالحقوق والحريات والكرامة والمساواة. والتي تعد مطالب عادلة بالنسبة للنساء العاديات اللواتي لا ينتمين إلى تيارات سياسية ذات توجهات معينة.

ولكن المشكلة الحقيقية أن الجماعات النسائية حالها حال أغلب التيارات السياسية. حيث أدى إغلاق المجال العام وغياب الحركة على الأرض لعزلتهن وصعوبة وصول أفكارهن لهؤلاء السيدات. وهي السمة العامة للسنوات الأخيرة.

ولكن للموضوعية تذكر “إلهام” أن الأوضاع في أعقاب ثورات الربيع العربي بالنسبة للنساء كانت فرصة جيدة لانطلاقهن. وفي الوقت نفسه ساد مستوى أعلى من الرجعية والذكورية لا يقتصر على التيارات الدينية ولكن حتى داخل التيار المدني.

ظهر ذلك في تجاهل التيارات المختلفة لاقتسام القوائم الانتخابية للأحزاب الدينية والمدنية على حد سواء. فلم تظهر بعد يناير سيدات على رأس القوائم إلا أقل القليل. كحالة سناء السعيد التي رجح كفتها العمال وتيسير فهمي عن الكتلة المصرية.

المرأة والمشاركة السياسية والمجال العام

وفي المشاركة النسائية السياسية فيما بعد يناير تروي “إلهام” شهادتها كإحدى الناشطات في ذلك الوقت. بأن الإيمان بمساهمات المرأة سياسيا كان ضعيفا ونفعيا في أغلب الحالات. فالدفع ببعض الوجوه النسائية كان للمصلحة وليس من منظور ترسيخ مشاركة المرأة.

تتذكر إغراق التيارات المدنية في الذكورية والرجعية إلى درجة السخرية من الدستور الذي وضعه الإخوان بإطلاق اسم “دستور أم أيمن” وليس دستور الغرياني أي حسام الغرياني رئيس لجنة الدستور آنذاك. بينما كان التيار الديني يسخر من المحكمة الدستورية عبر النساء أيضا بإطلاق اسم “محكمة تهاني”. وهكذا تعاملت الأطراف كافة مع النساء ككتلة صماء لا رأي لها.

في الوقت نفسه تقر “إلهام” بأن انفتاح المجال العام في تلك الفترة أخرج الجمعيات النسائية والحركات وبعض اللجان النسائية في الأحزاب كحالة حزب التحالف. كذلك التعاون مع شريحة من النساء لم تعرف العمل السياسي بقدر ما كانت تبحث عن حقوقها كجمعية “أمهات حاضنات مصر” التي كانت المقابل لمناداة التيارات الدينية بإلغاء قوانين الأحوال الشخصية على اعتبار أنها جزء من النظام البائد.

كذلك تجربة بعض الأحزاب في إدماج النساء والتي لم تكن على قدر كاف من الجدية. وبينما يجب على هذه الأحزاب تأهيل السيدات وجذبهن اكتفى بعضهن بتحديد نسبة من التمثيل. وفي أغلب الأحيان لم يستطعن الوصول على تلك النسبة. والتي أرجعتها “عيداروس” إلى تقصير هذه الأحزاب في لعب دورها القاضي بجذب وتأهيل العنصر النسائي. وحتى في التجارب التي ترأسها نساء مثل تجربة حزب الدستور، غابت السياسات التي تعمل على إدماج النوع وسادت نفس السياسات التقليدية.

الالتفاف للجميع

ولكنها في الوقت نفسه تجارب على قصر زمنها دللت على أن فتح المجال العام أسهم في جذب شرائح جديدة من النساء ذات مصلحة كذلك غير مسيسات.

تعود نفيين عبيد لتذكر بأن السياسة فن الممكن، والمصلحة المباشرة. والتي هي ليست بالضرورة أن تتقاطع مع حقوق النساء وحتى مع وجود بعض النساء على قوائم تنسيقيات الأحزاب. ولكنهن لسن من المهتمات بتحقيق مكاسب للقضية كما أن بعضهن يجد أن قبول شروط اللعبة ربما يكون طريقة للاستمرار.

وهو التلون والالتفاف الذي يمارسه الجميع. دولة وتيارات. والذي يجعل من التيارات المحافظة في المقابل أكثر تمسكا بقيمها الرجعية، وأقل ثقة في الشخصيات المطروحة على الساحة.

تقول “عبيد”: “تجد بعض الأحزاب تصدر اعتراضها على الموازنة العامة بشكل دوري. لكنها تتجاهل تماما قضايا النساء التي ليس فيها مصلحة مباشرة”. وتستطرد: “نجد الحال نفسها مع الأقليات والمحافظات الحدوية. فجميعها تعاني التجاهل والتهميش”.