ترعرت في شارع كان على ناصيته (دولاب) مخدرات – Big drug store- وأنا كنت في مرحلة الثانوية بحفظ قرآن للأطفال في زاوية علي ناصية الشارع الثاني، و(أم معاذ) زوجة المعلم الكبير-من يدير هذا الدولاب- كانت حريصة علي حضور ابنها معاذ (٦سنوات) حلقة التحفيظ في الزاوية بإنتظام في أوقات فراغه من بيع (البضاعة).

(أم معاذ) قبل الجواز كانت بتشتغل مع أسرتها في بيع البيرة في الأفراح الشعبية، لكن المعلم اشترط  عليها إنها تلبس الخمار وتبطل تبيع بيرة وتكتفي بمساعدته في إدارة الدولاب وخصوصا في أوقات غيابه لما يكون محبوس. بالرغم من مشاغلها الكثيرة كانت (أم معاذ) تضع على أولويتها:

أولا: تدريب معاذ كواحد من الصبيان بالرغم من أنه ابن المعلم لكنها كانت تدرك أن التعليم في الصغر كالنقش عالحجر، وحتى يكون جديرا بتركة أبيه بعد عمر طويل.

ثانيا: انتظامه في حفظ القرآن علشان ربنا يبارك فيه ويحفظه.. في طريقي إلى المسجد كان من الطبيعي أن أسمع نداءها على معاذ للذهاب إلى المسجد مصحوبا بتهديد ووعيد وسب الدين، جزء من إعجابى بشخصية (أم معاذ) هي زفارة لسانها وقدرتها على التعبير بالشتايم  وإبداعها في السب، فقد كانت قاموس ومرجع متجدد فى الردح، لكن لو قارنا مواهب وقدرات (أم معاذ)  فى مواجهة (أم ممس) تلك الأسطورة التي تستحق أن أحكي عنها ستحسم (أم ممس) المنافسة لصالحها كالعادة.

في بداية التسعينات دخل الحجاب (الخمار) إلى شارعنا وكانت (أم ممس) جارتنا من أوائل من (لبس)  الحجاب في شارعنا.

علي المصطبة أمام باب البيت كانت قعدتي المفضلة مع صديقتي (أم ممس) فإذا كان الغراب هو أول معلم للإنسان ففي الحقيقة كانت هي معلمتي الأولى.

فقد كانت تمتلك قدرات خاصة في الرصد والتوثيق والتحليل وإدارة الأزمات، لكن دائما ماكانت تعكر صفو جلسات النميمة معها رفض أمي وأبويا وتعليماتهم المستمرة بعدم الجلوس معها لأنها (ست مش كويسة)، هذه العبارة التي لم أفهمها إلا بعد سنوات، عرفت أن صديقتي (أم ممس) كانت على علاقة غرامية بنص رجالة الشارع، والجميع كان يعرف ذلك، لكن لم يكن يجرؤ شخص على مواجهاتها بنص كلمة فهي تملك أسرار الشارع، فجلسة المصطبة لم تكن بلا هدف لكنها لمراقبة الشارع الذي يراقبها، استراتيجية (أم ممس) كانت تتلخص في المثل القائل (الغجرية ست جيرانها) و(اللي له طوبة في.. ييجي يهدها). علاقات (أم ممس) لم تكن كلها عابرة فقصتها مع (عزت الكهربائي) كانت محل إعجابي واهتمامي طوال فترة المراهقة.

(عزت)  يملك محل كهربائي بجوار شباك شقة (أم ممس) التي في الدور الأرضي، وكثيرا مايبدأ الحوار بينهم بالسلامات وصباح الخير ومساء العسل وهكذا.. حتى يتطور الحديث وينتقل إلى مرحلة الكلام بالشفرة، عندها يحدث عطل كهربائي مفاجئ في شقة (أم ممس) كالعادة يستدعي تدخل (عزت) لإصلاحه، فهكذا يجب أن تكون شهامة ولاد البلد، يدخل عزت إلى شقة (أم ممس)، بعد دقائق تغلق هي الشباك لتترك متابعيها فريسة لخيالهم يلتهمهم الفضول فى عصر ما قبل الإنترنت ونتفليكس.

لم تكن حياة (أم ممس) في شارعنا هادئة كما يتخيل البعض، فقصتها مع عزت الكهربائي لم تكن تنال أعجاب الجميع، فبالرغم من صداقة زوجها لـ(عزت) وعلاقتهم الجيدة ببعض  فدائما يجمعهم قعدات السهر والسمر وشرب (الجوزة) وعلاقتهم سمن على عسل، إلا أن (زوجة عزت) لم تكن راضية عن تلك العلاقة وحاولت بطرق كثيرة أفسادها، أحيانا بمحاولة المنافسة معها فبعد لبس (أم ممس) الخمار قامت (زوجة عزت) بلبس النقاب، كما لجأت للطرق التقليدية  كالخناق والاشتباك وبالأيدي و(الجرسة) حتى وصل بها الحال أنها جربت تصاحبها فربما تختشي علي دمها، لكنها كانت كلها محاولات فاشلة وانتصرت علاقة (أم ممس) و(عزت الكهربائي).

يمر شريط الذكريات بأحداث كهذه وأحداث أخرى لا أملك الجرأة للكتابة عنها كلما هاج الرأى العام بسبب فيلم أو مقطع  على التيك توك كما حدث أخيرا مع بداية عرض فيلم (أصحاب ولا أعز) الذى أثار الضجة وكما حدث فى قضايا فتيات التيك توك بعد تقديمهم للمحاكمة بتهمة تهديد قيم الأسرة المصرية، ويحضرني مشهد صراخ الفنان سعيد صالح فى مسرحية (العيال كبرت) في دور سلطان عندما تخبره أخته أنها هتشتغل رقاصة “الشرف يابنت الكلب الشرف” لكنه يختم المشهد بجملة: “يابنتى أنا عندي استعداد للانحراف بس مش لاقي اللي يوجهني”.