ميدان التحرير.. ليس أكبر الميادين، ولا أهمها استراتيجيا، ولكنه الأكثر شعبية، تحول من المصمت إلى الإنساني. بحلول الخامس والعشرين من العام 2011، حين خرجت الحشود مطالبة بسقوط نظام مبارك، بعد أن أصبح نيل العيش، والحرية مستحيلا.
يقول المفكر الجزائري محمّد أركون: «إنّ الأنسنة، هي تكرّيس كلّ القيّم الّتي تعيد الاعتبار للإنسان». بدءًا من مصادر ذاكرة المكان التي تُعبِّر عن شخصية الموقع الذي يعيش فيه. بينما يرى عدد من الباحثين أن «فريديريك نيثهامر» هو أول من أعاد تقديم مصطلح «الأَنْسَنة» في الفكر الأوروبي الحديث لأول مرّة سنة 1808م. وتركزت حينها على تناول البعد الفلسفي البحت الذي يركز على إدراك الإنسان للثقافة المحيطة به. بينما تناولها المتخصصون في العمران في وقت لاحق على أنها تعبير عن تعزيز البعد الإنساني في المكان بما يجعل الحياة فيه أكثر جاذبية ورعاية وملائمة.
وفي قصة المدن والميادين يقدم أستاذ العمارة والعمران علي عبد الرؤوف في كتابه “شعب وميدان ومدينة: العمران والثورة والمجتمع”. القصة الإنسانية والمعمارية والعمرانية لميدان التحرير ويستشرف منها فهمًا جديدًا لمدينة القاهرة. وتفسيرًا مغايرًا لعلاقة المجتمع، أو الشعب المصري، بالميدان، ملقيًا الضوء على قدرة هذا الميدان المكانية في استيعاب الثوار. وتحوله من فضاء رسمي مصمت إلى فضاء شعبي تملكه الجماعة الإنسانية.
الكتاب المقسم إلى خمس فصول يحكي عبدالرؤوف عن المكان الذي كان مركزا للثورة المصرية. فيقوم بتحليل الثورة بعين العمراني، الخبير، وميدان التحرير كقلبها النابض، الذي أصبح نموذجا فريدا للفضاء العام بفضل الناس، والأحداث.
ميدان التحرير.. الروح والفضاء العام
وفي الفصل الأول المعنون بـ “الميدان: الروح والفضاء العام” يركز عبدالرؤوف أنسنة الميدان. وإضفاء الروح عليه، عبر البشر، حيث حرية التعبير الجماعي تثري الروح المجتمعية.
ويعرف عبدالرؤوف الفراغ العام كأحد المكونات الأساسية لعمران أي مدينة. فهو الوعاء الذي يستوعب الأحداث الجماعية لسكانها حيث يمارسون خلاله أنشطتهم واحتفالاتهم وشعائرهم ويعبرون فيه عن أرائهم ومعتقداتهم وأسلوب حياتهم.
فالفراغ بحسب عبدالرؤوف ليس مجرد الحديقة ذات الأسوار التي يملكها حارس معين عليها. ولكنه المكان الذي يستوعب حرية البشر، وتعبيراتهم العفوية، دون حاجة للاستئذان من الحراس، أو البلدية.
تاريخيا كان للفراغ العام أهمية وحيوية في الحضارات السابقة ومؤثرا على تشكيل مجتمعاتها وإحساسهم بالانتماء للمكان. وحريتهم الجماعية في التعبير، فمن “الاجورا” في المدينة الإغريقية مرورا “بالساحة” بالمدينة الإسلامية ووصولا ” للميدان” في المدينة المعاصرة. يمكن رصد الدور الهام للفراغات العامة التي تعطي للجماعة الإنسانية الفرصة في التعبير عن نفسها والإفصاح عن هويتها.
أما الصورة المعاصرة في المدن العربية والمصرية على السواء فبحسب عبدالرؤوف تكشف التحول الكامل للفراغ العام في عمران القاهرة ومدن مصر الكبرى. إلى عقدة مرورية الإنجاز الرئيسي والوحيد فيها هو المحاولة اليائسة للتسيير المنظم لمواكب السيارات المتدفقة. ولم يعد الفرد او الجماعة الإنسانية محور تركيز أو اهتمام في تلك المعادلة.
وذلك بعكس ما يجب أن يكون للفراغ العام من دور، في استيعاب الحياة الجماعية والاحتفالية للمجتمع. وإثراء روح الانتماء والارتباط بالمكان واحتضان حرية الشعب في التعبير عن ارائه وتقاليده وشعائره وطقوسه وأفراحه. والتي هي بمثابة قضية عمرانية يجب أن تعطي لها أولوية التعامل الإبداعي من قبل المعماريين والعمرانيين والمخططين وفقا لعبدالرؤوف.
الميدان والشعب.. تاريخ
في الفصل الثاني من الكتاب والمسمى بـ “قصة الميدان والشعب”، يقدم عبدالرؤف مراجعة تاريخ هذا الميدان، ولا سيما تاريخه في التعبير النضالي. وتفسّر القيمة الرمزية التي جعلت ثوار 25 يناير يختارونه مسرحًا لبطولاتهم التاريخية غير المسبوقة. ويجعلونه محور اهتمام العالم عبر ثمانية عشر يومًا.
يقول عبدالرؤوف “على الرغم من أن ميدان التحرير لم يكن مصمما لكي يكون الفراغ العام الأكثر أهمية في حياة الشعب المصري وخاصة طبقتيه المتوسطة. والبسيطة إلا أن مراجعة تاريخ هذا الميدان يفسر القيمة الرمزية التي جعلت ثوار 25 يناير يختارونه كبطل للأحداث.
وهو الميدان الذي يتواجد في نطاقه المكاني المتحف المصري وجامعة الدول العربية ومسجد عمر مكرم. والجامعة الأمريكية وفندق سميراميس ومجمع التحرير، وفندق هيلتون النيل وغبرها من العلامات المعمارية المؤثرة في عمران القاهرة.
ويسرد عبدالرؤوف لتاريخ إنشاء الميدان الذي يرجع إلى عصر الخديوي إسماعيل في إطار خطته لبناء قاهرة جديدة تستلهم ملامحها التخطيطية. والعمرانية والمعمارية من النموذج الباريسي الذي صممه هاوسمان، وفي مضمون هذه الخطة تم صياغة مجموعة من محاور الحركة والميادين الجديدة لتؤهل القاهرة لتكون باريس الشرق على ضفاف النيل. وردمت مجموعة من البرك الصغيرة لتشكيل محور عمراني هو شارع الإسماعيلية. الذي يبدأ من قصر الحكم الجديد الذي أقامه الخديوي في ميدان عابدين بدلا من المقر القديم لحكم مصر بالقلعة. ويستمر الشارع حتى يصل الى ميدان الإسماعيلية سابقا، التحرير الآن، مادا إليه واحدا من أجمل كباري القاهرة وهو كوبري قصر النيل الذي افتتح عام 1871.
ثكنات قصر النيل
وقد اختارت القوات البريطانية حينها الضفة المطلة على نهر النيل لتكون مقرا لثكنات الجنود التي عرفت تاريخيا بثكنات قصر النيل. نسبة إلى القصر القديم الذي وجد في نفس الموقع وبناه محمد علي باشا لابنته زينب. وهذا التواجد البريطاني العسكري في الميدان يفسر تحوله لقبلة أولى وأساسية لثوار 1919 في هبتهم الوطنية المطالبة بالاستقلال.
ثم جاءت ثورة 23 يوليو عام 1952 لتجعل الميدان شريكا، ذلك حين تحول اسم الميدان من الإسماعيلية إلى ميدان التحرير كرمز للاستقلال. والتخلص من العهد الملكي، وإجلاء الاحتلال البريطاني عام 1956، والتي كان من نتائجه هدم ثكنات قصر النيل التابعة للجيش البريطاني وتحويل موقعها إلى فندق هيلتون النيل.
وظهرت بصمة جمال عبدالناصر ومشروعه القومي العروبي عبر مبنى جامعة الدول العربية الذي صممه المعماري المصري محمود رياض. كما جمعت العديد من المصالح الحكومية في مبنى آخر هام هو مبنى مجمع التحرير الذي صمم على شكل هلالي متسع لتأكيد التشكيل الفراغي للميدان. وعبر الشارع من مجمع التحرير يقع مسجد عمر مكرم الذي تقلص دوره الروحاني تدريجيا وتحولت ساحاته الخارجية الى مواقف للسيارات المستوعبة للمعزيين. بعد أن تحول المسجد الى دار العزاء المتفق عليها لعلية القوم ورجال السياسة والمال.
وبجوارفندق الهيلتون يقع مبنى الاتحاد الاشتراكي الذى انتهى بان يكون المقر الرئيسي للحزب الوطني الحاكم في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك. والذي كانت نهايته الحرق بالكامل كتعبير عن نهاية حقبة مستبدة في تاريخ مصر.
الميلاد الجديد للفضاء العام
في الفصل الثالث من الكتاب والذي يأتي بعنوان “ثورة ميدان: الميلاد الجديد للفضاء العام”. وذلك حين تسببت صفحة على موقع فيسبوك في إطلاق شرارة ثورة 25 يناير في مصر، فتجسّدت في الفضاءات الافتراضية أولا. وانتقلت العدوى إلى الواقع، فكانت وسائل التواصل الاجتماعي بمثابة ميدان التحرير الافتراضي، حتى أن القوى المختلفة تنافست على جذب عقول الشباب عبرها.
ويعتبر عبدالرؤف أن ما أقدم عليه الشباب آنذاك اعادة لرؤية الجماعة الإنسانية الراقية بمشاعرها النبيلة وأفكارها. من إعادة صياغة الفراغ ليكون نموذجا لما يجب أن يكون عليه الميدان العام وهم المجموعة التي تنتمي إلى بعضها البعض. بروابط رقمية منحتها لهم شبكات التواصل الاجتماعي على الإنترنت ولكنهم وتحديا لتوقعات الكثيرين لم يتنازلوا عن حلم الانتماء للمكان والوطن.
فيقدم رؤى لفهم نوعية الكفاح الجديد المستمر بين الشعب والسلطة في العصر الرقمي، وفي المكان أو الفضاء العام. فضلا عن علاقة المجتمع بالفضاء العام، ودور التقنيات الرقمية وآليات التواصل الاجتماعي في توليد زخم جديد نحو إعادة امتلاك الفضاءات العامة في المدينة.
ميدان التحرير.. بداية جديدة
وفي الفصل الرابع المعنون بـ “البداية الجديدة للميدان: رؤى واستشراف”، يناقش عبدالرؤوف ميدان التحرير. وما مثله من حالة ذهنية جديدة، أنتجتها ثورة 25 يناير، فمثلا من ضمن قرارات الثوار وقتها تشكيل لجنة من الثوار المعماريين والعمرانيين والمخططين. لإعادة تصميم وتخطيط الميدان في ضوء حالة الاكتشاف الجديد للأدوار الحقيقية التي يمكن أن يلعبها فراغ عام بقيمة ميدان التحرير.
كما أصبح من المعتاد أن يقترح المرشدين السياحيين المصريين ضم ميدان التحرير إلى القائمة الرئيسية لجولات ضيوف مصر من الأجانب والسائحين. فأصبحنا في لحظة مفعمة بالرموز، والدلالات، وفرصة عظيمة لإنتاج فراغ عام حقيقي يجعل من ميدان التحرير نموذجا. ومثالا للفراغات العامة الإيجابية والخلاقة في العالم كما هو أصبح رمزا لطاقة الشعوب البديعة في الإصرار على الحرية. وتقديم الحياة ثمنا لها كما فعل زهرة الشباب المصري خلال أيام الثورة العظيمة.
وقد أصبحت قيمة ميدان التحرير الحقيقية الآن في روح البشر المبدعة، التي تجاوزت قيمة المباني وتاريخ الميدان في رأي عبدالرؤوف. إلى قدرة الإنسان على إعادة صياغة المكان وتطويعه بعيدا عن الرسمي، والمفروض، من سلطة غاشمة لاتعتد بحرية الإنسان.
في الفصل الخامس والاخير من الكتاب “تحولات الصورة البصرية والذهنية لميدان التحرير من المقدَّس الى المدنَّس”. ينتقد المؤلف التحول التدريجي، على مدار الأعوام الماضية، في الصورة الذهنية والبصرية والوجدانية لميدان التحرير. معتبره مشروع متعمَّد بهدف إهدار الطاقة الثورية وتشتيتها، وإجهاض دور الفضاء العام في مصر، وجميعها بمثابة تدمير للقيمة المعنوية والرمزية، بل والمادية، لميدان التحرير.