ختمت مقالي السابق “الطريق إلى يناير (2)، مشروع التوريث: البديل وشروطه“، بإعادة طرح سؤال هو: هل ماتت مع مشروع التوريث أية فرصة لبديل منخفض المخاطر وقابل للتحقق للخروج من قفص نظام يوليو؟ في السطور التالية سأحاول طرح إجابة لهذا ا لسؤال وسأبدأ أولا بتقديم مبررات قناعتي بأننا لا نزال نعيش في ظل الترتيبات السياسية لنظام يوليو، ثم سأوضح لماذا أعتقد أن هذه الترتيبات تتناقض مع الواقع الاجتماعي-الاقتصادي لمصر اليوم، وبالتالي هو في حاجة إلى بديل عنه، وفي حين تناولت في مقالي السابقين لماذا فشل مشروع التوريث في تقديم هذا البديل، أبحث في مقالي هذا في الشروط التي ينبغي توافرها في بديل يمكن أن تتوافر له فرص أكبر للنجاح.
يعتقد كثيرون أن ما يمكن أن نسميه بنظام يوليو قد انتهى بالفعل، تحديدا مع الانفتاح الاقتصادي والصلح المنفرد مع إسرائيل، ولا شك أن الحدثين بالغا اﻷهمية واﻷثر فيما طرأ على بنية نظام يوليو وعلاقته كنظام حاكم بالفعاليات المختلفة للمجتمع. واﻷهم أن كلا من هذين التغييرين الهامين في سياسات الدولة الاقتصادية وبنية علاقاتها الخارجية، كان له أثر بالغ في التمهيد للتغييرات الجذرية في البنية الاجتماعية-الاقتصادية، والتي تحدثت عنها سابقا، ولكن أيا منهما، ولا كليهما معا، قد أنهى الترتيبات السياسية لنظام يوليو، والتي يمكن تلخيصها في انفراد بيروقراطية الدولة، بإفراز قيادتها السياسية، بدلا من أن يفرز هذه القيادة حقل أو ملعب سياسي منفتح على تمثيل فعاليات المجتمع فيه، كما هو الحال في النموذج الديموقراطي الغربي.
وهذا يعني الغياب العملي لهذا الحقل السياسي، حتى وإن أتيح له الوجود بصورة أقرب ﻷن تكون مسرحية. اﻷهم هو أن ممارسة السياسة بالمعنى العملي هي من نصيب مؤسسات بيروقراطية، هي من ترسم الملامح العامة لسياسات إدارة شؤون الدولة، وهي تقوم بذلك كامتداد لمهامها البيروقراطية، إلى الحد الذي يمكنها معه أن تدعي أنها لا تمارس السياسة، وتصدق هي نفسها هذا الادعاء.
هذه الترتيبات السياسية ظلت مستقرة دون أي تحد حقيقي لها لسنوات طويلة بعد الانفتاح وبعد الصلح مع إسرائيل، وذلك ﻷن استيعاب فعاليات المجتمع بشكل شبه كامل في بيروقراطية الدولة، والذي حققه نظام يوليو في فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر، كان من الشمول والقوة بحيث أن عوامل التغيير، التي تطورت ببطء في البداية، قد احتاجت إلى وقت طويل حتى تنخر أساساته وتخلخلها. ومن ثم فإن ما بقي من مظاهر هذا الاستيعاب لم يعد اليوم قائما على أي أساس مستقر على أرض الواقع، وليس ثمة إمكانية، وفي الواقع ولا إرادة، ﻹعادة ترميم هذا اﻷساس، أو إعادة تمهيد اﻷرض لترسيته عليها.
من هنا أصبحت الترتيبات السياسية لنظام يوليو في مواجهة تحديات كبيرة، في الوقت الذي فقد فيه اﻷدوات منخفضة التكلفة لمواجهتها. وهو ما قد انعكس في عهد الرئيس محمد حسني مبارك في صورة التضخم المستمر للأجهزة اﻷمنية، والحاجة إلى توريطها في ملف اجتماعي تلو اﻵخر، بعض هذه الملفات نشأ نتيجة عمليات تخارج بيروقراطية الدولة من أدوارها الشمولية خطوة بعد اﻷخرى، وبعضها كان نتيجة لنمو مساعي الفئات الاجتماعية الصاعدة ﻹيجاد تعبيرات سياسية عن مصالحها. وفي أحد أوجهها عكست ثورة يناير إلى أي حد يمكن أن تكون اﻷداة اﻷمنية باهظة التكلفة، وهو درس يبدو ظاهريا أن لدى النظام الحالي رغبة في تجنب تعلمه بشكل متعمد، وإن كانت الحقيقة أن البنية الداخلية له تجعل من الصعب كثيرا أن يستفيد منه.
منذ اللحظات اﻷولى لترتيبات يوليو الجديد (2013)، كان باديا بوضوح رغبة بيروقراطية الدولة في إعادة اﻷمور، ليس إلى خطوط ما قبل يناير، بل إلى ما قبل ما تظن أنه بداية أخطاء نظام مبارك التي أدت إلى يناير. وبغض النظر عن تقييمنا لمدى إدراك بيروقراطية الدولة لما يمكن تصنيفه كأخطاء مقارنة بما هو نتاج لواقع، لم يملك نظام مبارك إلا الدخول في مواءمات ضرورية معه، فالواقع في النهاية إن مساعي هذه البيروقراطية في تجديدها للترتيبات السياسية لنظام يوليو قد تركزت في القضاء على جماعة اﻹخوان المسلمين، وفي تحجيم نفوذ طبقة رجال اﻷعمال، ومحاولة استعادة قدر من السيطرة على الاقتصاد، إن لم يكن للدولة مباشرة، فلبعض مؤسساتها ومن خلال شراكات ووكالات وإجراءات تفصيلية مختلفة، وأخيرا في تحجيم طموح الطبقات الاجتماعية الصاعدة بفعل رؤوس أموالها الثقافية، بالقمع للبعض ومحاولة استيعاب البعض اﻵخر، وذلك كله في ظل إصرار واضح على اﻹغلاق الكامل للفضاء العام بتفريغ مساحاته التقليدية في الصحافة واﻹعلام و اﻹنتاج الفني من أية أصوات غير مرغوب فيها، و بمحاصرة امتداداته الجديدة على شبكة اﻹنترنت بقدر اﻹمكان.
الواضح حاليا أنه برغم هذه المساعي فإن حدة الصراعات الاجتماعية-السياسية ما زالت في تصاعد مستمر، وثمة الكثير مما يمكن قوله عن تفاصيل خريطة هذه الصراعات، وهي في الحقيقة أوسع من صراعات النظام السياسي الحاكم ضد القوى المعارضة له، باختلاف صورها وأهدافها، ولكن المجال هنا لا يتسع للخوض في ذلك كله؛ ما يعنينا باﻷساس هو الوقوف أمام حقيقة بسيطة وهي أن جهود النظام لتحجيم القوى الاجتماعية الصاعدة نتيجة للتغيرات الجذرية في بنية الاقتصاد المصري، وتحديدا محاولته إقصائها عن المجال السياسي وغلق هذا المجال بالكلية، لا يمكن لها أن تنجح بشكل كامل أو لمدى طويل. لا مجال أولا للقضاء بشكل كامل على هذه الفئات، فهي ببساطة تستمد وجودها من واقع اجتماعي-اقتصادي على اﻷرض يستحيل تغييره في الاتجاه العكسي، ولا مجال ثانيا لقمع سعي هذه الفئات إلى تعبيرات سياسية مناسبة لها بشكل نهائي، ﻷن مصالح وجودها الضرورية تتوقف على وجود هذه التعبيرات.
ما نراه اليوم هو حالة من إطالة أمد الصراع، تعتمد في استمراريتها على قناعة راسخة لدى النظام في أن بإمكانه تحقيق أهدافه كاملة دون نقصان، وأن لا حاجة لديه للوصول إلى تسوية من أي نوع. ولكن ثمة مؤشرات واضحة إلى أن دعائم هذه القناعة تتآكل باستمرار تحت ضغط عوامل عدة، أهمها أن الاستقرار الحقيقي لا يتحقق إلا بسيادة الشعور به، وعلى أرض الواقع لا يمكن لهذا الشعور أن يسود، طالما كانت مظاهر الصراع ما زالت بادية. فمظاهر القمع الشديد، وإن كانت ترسخ في اﻷذهان الإيمان بقدرة النظام على البطش، إلا أنها في الوقت نفسه تعيد تأكيد أن النظام لا يزال في حالة صراع ضد معارضيه، وأن حدة هذا الصراع لا تزال تتطلب منه استخدام أقصى درجات القمع والبطش. على جانب آخر ينهك الشعور الدائم بغياب الاستقرار واستمرار حالة الصراع المجتمع ويدفعه إلى التململ المستمر، وينعكس ذلك على تصاعد حدة صراعاته الأكثر استدامة واﻷوسع من اﻹطار الضيق لصراعات النظام ضد معارضيه، وهو ما قد يتطور إلى انفجارات غير متوقعة، قد لا تكون موجهة ضد النظام أو المؤسسات البيروقراطية للدولة بشكل مباشر، ولكنها بالضرورة ستفرض عليها التعامل معها.
أحد المفاتيح الرئيسية للتعامل الموضوعي مع الواقع هو إدراك أن الترتيبات السياسية ﻹدارة شؤون أي مجتمع ينبغي لها أن تعكس بشكل ما خارطة توزيع القوى النسبية بين الفئات المختلفة لهذا المجتمع، لا أن تحاول تعديل هذه الخارطة لتتوافق معها ولا أن تحاول الاستمرار على حالها متجاهلة التناقض بينها وبين الواقع القائم بالفعل. على أي قراءة للواقع الاجتماعي في مصر اليوم إدراك أن انفجار يناير 2011 كان نتيجة تراكم تغييرات جذرية في بنية المجتمع ودولته، هي أكثر عمقا وأكثر استدامة مما توحي به المظاهر المختلفة التي عكستها مجريات اﻷحداث منذ يناير وحتى اليوم. هذا الوضع يجعل الوصول إلى بديل عن الترتيبات السياسية لنظام يوليو ضرورة لتحقيق الاستقرار بالمعنى الصحيح له. مثل هذا البديل لا يمكن أن يحفظ لبيروقراطية الدولة احتكارها الكامل لممارسة السياسة، ولا يمكنه في الوقت نفسه إخضاع هذه البيروقراطية بشكل كامل لحقل سياسي مستقل عنها. هذا ﻷن خارطة توزيع القوى الاجتماعية الحالية لا تدعم أيا من هذين النقيضين وإن كان باﻹمكان أن تدعم بديلا وسطا بينهما.
في حين لا يمكنني في هذه السطور تقديم طرح تفصيلي لملامح هذا البديل، إلا أن باﻹمكان إيضاح الفكرة المركزية له كما أتصورها. هذه الفكرة المركزية تتعلق بضرورة أن تنعكس التغييرات الجذرية التي طرأت على بنية المجتمع خلال العقود الماضية في أية ترتيبات سياسية بديلة. هذه التغييرات كما أوضحت سابقا أدت إلى تشكل فئات اجتماعية مستقلة عن بيروقراطية الدولة، تمتلك رؤوس أموال اقتصادية وثقافية واجتماعية لم تعد مواردها تمر عبر هذه البيروقراطية، ومن ثم فهذه الفئات في حاجة إلى مساحة للتعبير السياسي الفعلي عن مصالحها، والمقصود بالتعبير السياسي الفعلي هو ذلك القادر على التأثير في سياسات الدولة، وبما أن ذلك لا يمكن أن يتم من خلال بيروقراطية الدولة، ﻷن هذه الفئات خارجها، فهو في حاجة إلى حقل سياسي ليعمل من خلاله. هذا الحقل السياسي ينبغي أن يكون مستقلا عن بيروقراطية الدولة، بمعنى ألا تتدخل مؤسساتها في ضبط وإدارة ما يجري فيه، وبصفة خاصة لا ينبغي أن تضع هذه المؤسسات قواعد الدخول إليه أو أن تؤثر على توازنات القوى داخله.
لا يخدم مثل هذا الحقل السياسي المستقل فقط هدف إفساح المجال للقوى الاجتماعية الصاعدة لأن تجد تعبيرا سياسيا عنها وعن مصالحها، ولكنه يتيح أيضا لمجمل فئات المجتمع أن تجد ساحة ذات حدود واضحة ﻹدارة صراعاتها وفق قواعد اللعبة السياسية، وهذا يضمن إلى حد كبير ألا تعبر هذه الصراعات عن نفسها في صورة انفجارات عشوائية غير متوقعة، ولا يمكن حساب عواقبها، على عكس ذلك سيكون باﻹمكان أن تخرج هذه الصراعات إلى السطح في أبعادها الحقيقية، وأن تظهر اﻷوزان النسبية ﻷطرافها بحجمها الحقيقي. إضافة إلى ذلك عندما يقدم الحقل السياسي لفئات المجتمع ممثلين عنها ولمواقفها من الصراعات الاجتماعية المختلفة، يصبح باﻹمكان التوصل إلى تسويات لهذه الصراعات من خلال اللعبة السياسية، بعضها مؤقت والبعض اﻵخر قد يكون دائما، ولكنها في جميع الحالات تسمح بتخفيف حدتها.
وجود حقل سياسي يتحمل عبء رسم السياسات العامة ويتوصل إليها من خلال لعبة سياسية واضحة المعالم وبناء على دعم شعبي صريح لمن سيطرحون هذه السياسات، يرفع عن بيروقراطية الدولة حرج تحمل هذا العبء ويترك لها فقط المهام التنفيذية، مما سيدفع أيضا في اتجاه أن تتطور هذه البيروقراطية لتصبح أكثر مهنية وكفاءة ومرونة أيضا. سينعكس تخارج البيروقراطية من الممارسة المباشرة للسياسة على تخفيض حدة الصراعات الداخلية للمؤسسات البيروقراطية وفيما بينها، وهو ما يوفر على القيادة السياسية بأعلى الهرم قدرا كبيرا من الصداع الدائم الناتج عن هذه الصراعات، ويجنبها الانجرار إلى أن تكون هي نفسها بأي شكل طرفا فيها.
لا أدعي بأي حال أن أي بديل يقوم على إنشاء حقل سياسي مستقل يمكن تحقيقه بسهولة، في نهاية المطاف في حال تحقق هذا البديل سيكون ثمة رابحون وخاسرون، وهو ما يعني أنه ولابد سيلقى مقاومة كبيرة بصفة خاصة من بعض المؤسسات البيروقراطية التي ستخسر قدرا كبيرا من وزنها النسبي في توازن القوى الداخلي للبيروقراطية ككل، ولكن في المقابل ثمة مؤسسات بيروقراطية أخرى ستكون بين الرابحين، وفي الحد اﻷدنى ستربح هذه المؤسسات تضاؤل الأوزان النسبية لمنافسيها، الذين تحول ضغوط الوضع الحالي دون تحجيم مصادر نفوذهم بالقدر الذي يجعلها تشعر بالطمأنينة الكافية. في المحصلة على أي حال ليس صحيحا أن البديل عن الترتيبات السياسية لنظام يوليو يعني بالضرورة الخصم من امتيازات جميع مؤسسات البيروقراطية العليا، وهذا تحديدا ما يجعل مثل هذا البديل قابلا للتحقق، كما يجعل باﻹمكان أن يكون منخفض التكلفة أيضا.
يبقى في الختام أن أوضح لماذا تحمل سلسلة المقالات هذه عنوان “الطريق إلى يناير”، قد يبدو من خلال مناقشتي لمشروع التوريث أنني أردت إيضاح العوامل التي أدت إلى يناير 2011 على وجه التحديد، وهذا صحيح إلى حد ما، ولكنه بالتأكيد ليس السبب الحقيقي لاختيار العنوان. الحقيقة أن ما أردت طرحه في سطور هذه المقالات كان قناعة واضحة بأن العوامل التي وضعت مصر على الطريق إلى يناير ما زالت قائمة وفاعلة في واقعنا رغم كل شيء، ومن ثم فنحن لا نزال على الطريق إلى يناير، وسنظل على هذا الطريق حتى نصل إلى يناير بطريقة أو بأخرى، ربما علمنا يناير 2011 أن تكلفة الوصول إليه قد تكون باهظة أكثر مما يحتمل مجتمع ودولة كلاهما لا يملك أدوات بناء البديل، الذي عبر يناير عن الحاجة الماسة إليه، ومن ثم فربما آن للمجتمع ودولته امتلاك هذه اﻷدوات ليعبرا إلى يناير معا.