حين كنت أكتب هذه الكلمات كانت الساعة تشير إلى العاشرة من مساء يوم الجمعة الثامن والعشرين من يناير عام ألفين وواحد وعشرين، في مثل هذا الوقت قبل أحد عشر عامًا كنت أجوب شوارع القاهرة مذعورًا بعد يوم حافل ليس كمثله يوم، قبلها بعشر ساعات تقريبا خرجت من بيتي لأداء الصلاة في المسجد، ثم ذبت وسط حشود هادرة تهتف بسقوط نظام حسني مبارك، ثم خضت مع هذه الحشود معارك دامية مع قوات الأمن وسط سحب غاز ورصاص متطاير ودماء سائلة، ثم انسحبت الشرطة من الشوارع وحل محلها الفوضى والظلام.

في جولتي التي لم تفارق كوابيسي إلى الآن كانت النيران تلتهم كل شيء، أقسام الشرطة وسياراتها ومقار الحزب الوطني والمباني الحكومية وغير الحكومية، مئات يهرولون وعلى أكتافهم غنائم عمليات السلب والنهب التي أفرغت المولات التجارية والمحال الكبرى من محتوياتها، مجنزرات الجيش رابضة في كسل أمام مبنى الإذاعة والتلفزيون، لم ينم أحد ليلتها، استمرت المعارك الدامية حول بعض أقسام الشرطة إلى ما بعد فجر اليوم التالي، البلطجية منتشرون في الشوراع لاستغلال الفراغ الأمني، الثوار يغالبون إرهاق الساعات الماضية بحلقات متفاوتة العدد يحاولون من خلالها الإجابة على سؤال: وماذا بعد؟ وحتى من أغلقوا أبواب بيوتهم عليهم بإحكام قضت مضاجعهم أصوات الصراخ المتقطع وروائح دخان الحرائق التي لم تمنعهما الأبواب الموصدة من الدخول.

لم تكن ثمة رومانسية في المشهد، وما الرومانسي في بحيرات الدم وألسنة اللهب وأعمدة الدخان ودوامات الظلام؟، لا أحب تذكر أحداث هذا اليوم، أو بالأحرى النصف الثاني منه، أتمنى لو لم نكن اضطررنا إليه، لو كان مبارك سمع أصوات المطالبين بالتغيير والمحذرين من التوريث والمدهوسين تحت عجلات الفقر، لو لم يضعنا في اختيار بين حياة نظامه وحياة الجميع، لو كان كل من فقد حياته في ذلك اليوم والأيام الكثيرة اللاحقة بيننا الآن.

التغيير الثوري العنيف ليس دعوة على فنجان قهوة، أموال الشعب تحترق أمام عينيك، المئات يفقدون حياتهم بالقرب منك، فوضى عارمة يخلفها الغياب المفاجئ لسلطة الدولة، استقطاب وانقسام مجتمعي حاد تشهد أثره حتى داخل بيتك، خسائر فادحة بعضها تحتاج وقتا طويلا ليتم تعويضها وبعضها لا يعوَض على الإطلاق، فاتورة باهظة للتغيير ندفع -نحن الشعوب- القسط الأكبر منها، هذا إذا نجحت أصلًا مرحلة الانتقال ونجاحها في التجارب السابقة هو الاستثناء.

نعم أخاف الانفجار الغاضب، أخافه لأنني حضرته وشهدته وشممت رائحته ولم أقرأ عنه أو يُحكى لي كتاريخ، وأخافه أكثر لأن أسباب الغضب بعد أحد عشر عامًا من جمعة الغضب مازالت موجودة، أو زادت..

×××

قتل مبارك كل أمل في التغيير الهادئ، الذي كان المصريون يحددون وفاته موعدا افتراضيا له عندما بدأ يفكر في توريث الحكم لابنه، ما يعني عمرا مديدا منتظرا بنفس السياسات والأفكار والوجوه والجمود والفقر. حركت الثورة عليه أسباب سياسية واقتصادية واجتماعية اجتهد في خلقها بنفسه، حزب يحتكر السلطة والسياسة، مجموعة محدودة مقربة من مبارك الابن تحتكر الاقتصاد، جهاز أمني طال توحشه الجميع، البائع المتجول كما الناشط السياسي، وشعب كامل يغرق في الفقر وانعدام الأمل. لم يجعل أمام الجميع خيارًا سوى إسقاطه وإن كان ثمن ذلك باهظًا، لأن ذلك الثمن كان يتضاعف مع كل يوم جديد يقضيه في القصر.

ذهب مبارك، وذهب آخرون بعده، وجرت مياه كثيرة تحت الجسر ومر أحد عشر عامًا لكن الغضب لم يهدأ، لا انفتاح سياسي حدث، ولا رخاء اقتصادي اقترب، ولا الخوف من المجهول زال، بل وانغلقت جميع فتحات التهوية التي كان مبارك قد ثقبها في الغطاء لتسريب الضغط عبر أحزاب معارضة وحركات سياسية، ليست خارج السيطرة بالكامل لكن لها صوت زاعق، وإعلام حر نسبيًا يمكنه انتقاد الحكومة دائما والرئيس أحيانا، ورشى اجتماعية تُوَزع كلما شعر بوصول قدرة الناس على التحمل إلى الحد الأدنى، ومؤسسات لها صلاحيات حقيقة تتدافع فيما بينها لإحداث حالة من التوازن داخل النظام تنتقل بالتبعية إلى خارجه.

لم تعد كل هذه الفتحات موجودة الآن، عقيدة النظام الحالي أنها المسؤولة أصلا عن سقوط نظام مبارك، مستصغر الشرر الذي تجاهله الرئيس المخلوع وأحرقه لاحقًا، رغم أن الأوقع أنها ما حفظت له كرسيه لثلاثين عاما كاملة وسط إرهاب موجع وحروب إقليمية وأزمات لا تكاد عينيك ترى آخرها.

يعيش المصريون الآن غلاء غير مسبوق وظروفا اقتصادية صعبة، هناك مشروعات مهمة في البنية التحتية بعضها مهم فعلا، لكن نتائجها لن تنعكس على الجيوب قريبًا، هناك نقل لآلاف من مناطق عشوائية إلى مناطق أفضل، لكن مئات الملايين لن يستفيدوا منها، وهناك أيضا رهانات اقتصادية خاطئة ودين محلي وخارجي يضع أعباء ضخمة على الموازنة العامة، وهناك مؤسسات رسمية تزاحم القطاع الخاص وتسحقه بامتيازاتها، وهناك ملايين جدد يسقطون حتى خط الفقر بانتظام وباعتراف الدولة.

الأحزاب والكيانات السياسية تحتضر، حتى البيانات الرافضة التي كانت تصدرها ولا ترضي الناس سابقا تضيق الدولة الحالية بها وتعاقب فورًا من يصدرها، الترشح، أعضاء المجالس النيابية تختارهم الدولة قبل الانتخابات، ومنافسي الرئيس في الانتخابات يمنحوه صوتهم، لا تنظيم سياسي يمثل الدولة فالحزب القريب منها مشغول بشحن أعضائه في الأتوبيسات لتشجيع فريق كرة قدم يحمل اسمه ويمارس كل الأنشطة إلا السياسة.

الإعلام الذي كان سابقًا أداة التنفيس الأهم أصبح محاصرًا ومحبوسًا ومحجوبًا، لم تشهد مصر عبر تاريخها حبسًا للصحفيين كما تشهد الآن، ومن فرط حساسية إعلام الدولة من مناقشة كل شيء لم يعد يناقش شيئا، كل ما يفعله تغطية النشاطات الرسمية وفقا للبيانات الرسمية والضيوف الرسميين، أو متابعة “التريندات” الخفيفة وصفحات الفنانين على انستجرام، لا انتقاد، لا سياسة، لا صحافة.

المنظمات الحقوقية ممنوعة من العمل، مؤسسات العدالة في ورطة حقيقية، الحبس الاحتياطي يتم استخدامه كعقوبة ضد المعارضين السياسيين، رموز ثورة يناير في السجون منذ سنوات أو اضطروا لمغادرة البلاد أو بقوا داخلها صامتين، الانتقادات الحادة التي تواجهها الدولة من الخارج لملفها الحقوقي ترد عليها بحدة أكبر.

×××

لم يكن مبارك عشية الخامس والعشرين من يناير يشعر بأن هناك خطرًا داهمًا يهدده وأن حكمه الذي دام لثلاثة عقود سيزول بعد أيام، أصعب ما في التحولات الكبيرة أنها تحدث فجأة، تنتقل من الصفر إلى الألف في ساعات، وأسهل ما فيها أن لها مقدمات يسهل قراءتها وتحليلها ومن ثم توقعها.

كل ما يحتاجه النظام الحالي الآن أن يقف ليسأل نفسه: هل زالت أسباب الغضب التي دفعت المصريين للخروج الكاسح في ألفين وأحد عشر؟ هل انخفضت معدلات الفقر وأصبحت حياة الناس أسهل؟ هل ساد التنوع أروقة السياسة وانتهى الاحتكار؟ هل توجد سياسة أصلا؟ وهل يمكن لدولة في القرن الحادي والعشرين أن تعيش بلا سياسة فعلا؟ هل توفر مؤسسات العدالة ملاذات آمنة للمظلومين؟ هل أصبح المواطن آمنا على حياته وأهله؟

يمكن أن تجيب الدولة على كل الأسئلة السابقة بنعم، يمكن أن تقنع نفسها كما يقنع الرئيس نفسه ويردد دوما بأن الناس لا يخرجون لأنهم يفهمون ويتحملون، ومن لم يتعلم من بروفة العشرين من سبتمبر والآلاف من محبوسيها الذين لم يمارس معظمهم أي نشاط سياسي في السابق، هذه الهبة المفاجئة التي كان يبدو قبلها بأيام أن الشارع قد مات، ربما لن يتعلم أبدًا.

كواحد لا يتمنى أن يشاهد ما شاهده ليلة الثامن والعشرين مرة أخرى، أخاف فعلا من الإصرار على السير في هذا الطريق الذي قد تكون نهايته هبة أخرى عنيفة تأكل الأخضر واليابس في غياب كامل وقسري وممنهج لهذا النوع من السياسيين الذي وجه الغضب ورشده في ألفين وأحد عشر.

هو جرس إنذار صادق إن كان هناك أذن تسمع.