بإعلان مجلس الدولة انضمام خريجات كليات القانون إلى السلك القضائي يتم تتويج الجهود المدنية الحقوقية. إذ ظلت المرأة المصرية محرومة من هذا الحق في تمييز فج على أساس الجنس، والذي شاب المؤسسات القضائية. وكان آخرها التعيين بالنيابة العامة والمجلس.
وكان مكتب رئيس مجلس الدولة أصدر إعلانه الأول للعام 2022 والخاص بتعيين خريجات كل من كليات الحقوق والشريعة والقانون وكلية الشرطة وانضمامهن للسلك القضائي. وذلك وفق الاشتراطات المعمول بها طبقا للمادة 73 من قانون المجلس.
سبق ذلك أن اتخذ مجلس الدولة قراره في مارس من العام الماضي وبالتزامن مع عيد المرأة. بتعيين عناصر نسائية في تشكيلة كل من مجلس الدولة والنيابة العامة. وذلك من خلال الموافقة على تعيين عدد من عضوات النيابة الإدارية وعضوات هيئة قضايا الدولة بطريق النقل لمجلس الدولة. لشغل وظيفة (مندوب) أو وظيفة (نائب) بالمجلس.
بعدها بشهور انتهى اجتماع المجلس الأعلى للهيئات القضائية برئاسة رئيس الجمهورية. بصدور بيان يشمل عددا من قرارات المجلس اعتبارا من الأول من أكتوبر عام 2021 والتي يأتي على رأسها “بدء عمل العنصر النسائي بمجلس الدولة والنيابة العامة”.
ولكن خلف تلك الخطوة تاريخ من التحركات والمطالب التي خاضها المجتمع المدني لسنوات.
ربما من الأولى أن نبدأ بإشارة المحامي الحقوقي نجاد البرعي على صفحته الرسمية بموقع فيسبوك إلى ما فعله الرئيس عبد الفتاح السيسي بشأن وقوف المرأة على منصة القضاء. إذ قال إن الرئيس السيسي “فعل ما لم يستطع عبد الناصر فعله.أدخل النساء إلى منصة القضاء في مجلس الدولة وهو أمر لو تعلمون عظيم”.
ويجدر ذكر أن أول مطالبة نسائية للعمل بالقضاء في الخمسينيات على يد الأستاذة المحامية كريمة علي حسين -المحامية بالاستئناف آنذاك- والدة المحامي الحقوقي الشهير نجاد البرعي. ورغم أهمية المحاولة حينها فإنها لم تكلل بالنجاح بسبب الرأي الديني. والذي صدر عن مؤسسة الأزهر.
التمييز ضد المرأة.. أسباب الخلل التشريعي
وهنا ننتقل بالرواية إلى رئيس المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة الحقوقي ناصر أمين. الذي يدلي بشهادته على ذلك العصر وتلك القضية. وقبل ذلك يعتبر القرار الأخير بلحاق المرأة بركاب مجلس الدولة نهاية جهود كبيرة قام بها المجتمع المدني الوطني لوقف خلل شاب البنيان التشريعي والمؤسسي المصري. وقال إن المركز قام بدور كبير في تحقيق هذا المنجز لوقف التمييز ضد النساء.
أما عن أسباب جمود القضية لسنوات فيذكر “أمين” أن الأمر كان يجرى طوال الوقت عبر “تواطؤ” هيئات قضائية عليا مع بعضها. خاصة مجلس الدولة الذي رفض إصدار قرارات تلزم وزارة العدل والحكومة بتعيين النساء -حسب “أمين”.
وقال مجلس الدولة إن هذا شأن قضائي يختص به مجلس القضاء الأعلى ثم رفض مجلس القضاء أن يوجد آلية للطعن على قراراته. وبهذا أصبحت النساء لا تجد وسيلة لوقف هذا التمييز. حيث تخلت الجهتان المعنيتان بالمسألة عن دورهما.
وتذرعت تلك الهيئات بحجج واهية -بحسب “أمين”- منها أن العمل القضائي “شاق لا يصلح للمرأة”.
ويتذكر “أمين” الموقف الشهير الدال على ذلك حين قابلت المقررة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة -ماري روبنسون- وزير العدل منذ سنوات وطالبته بالنظر في مسألة تعيين المرأة بالسلك القضائي. فما كان من الوزير إلا أن قال: “نخشى على نسائنا من المتاعب ونحرص على راحتهن والعمل بالقضاء عمل شاق”. فأبدت المفوضة امتعاضا شديدا وعلقت قائلة: “لقد نسي أنه يتحدث لرئيسة دولة سابقة”. عطفا على أنها كانت رئيسة جمهورية أيرلندا لسبع سنوات.
“الدستورية” تكسر الجمود
في أثناء ذلك بدأت المناقشات تعود حول قضية المرأة وفقا لأمين -الذي يستكمل معنا شهادته- وتحديدا حين أطلق المركز العربي عام 1997 حملته لتولي المرأة المناصب القضائية. والتي قامت بالعديد من الأنشطة من لقاءات وندوات وحمل الرأي العام على تقبل الفكرة. حتى توجت تلك الجهود عام 2003 حين تولت عضو مجلس أمناء المركز العربي -تهاني الجبالي- أول منصب قضائي في المحكمة الدستورية. حينها اتخذت الحملة قرارها بالاستمرار بغرض توسيع المشاركة النسائية بحيث لا يقتصر الأمر على تعيين الراحلة تهاني الجبالي والمحكمة الدستورية.
نساء يرفضن المرأة على منصة القضاء
يستكمل “أمين” أسباب تأخر هذا القرار. فخلافا للأسباب التشريعية ووجهات النظر المحافظة في وزارة العدل ومجلس الدولة أسهم الموقف المجتمعي الجامد تجاه القضية سببا في تأخر الحصول على هكذا استحقاق. خاصة على المستوى الرأي الديني -الممثل في الأزهر والكنيسة- كما أن استطلاعات الرأي قام بها المركز عام 2004 أوضحت أن نسبة النساء الرافضة لتعيين المرأة في السلك القضائي أكبر من الرجال في العينة العشوائية.
لم يكسر هذا الجمود سوى قرار تاريخي من المحكمة الدستورية بتعيين القاضية “الجبالي”. وبالتزامن مع الحرج الذي تعرض له النظام عالميا. خاصة سوزان مبارك التي طالما سئلت عن القضية في المحافل العالمية التي طالما حرصت على حضورها. فطالبت رئيس المحكمة الدستورية بإيجاد حل منفرد متجاوزا للهيئات الأخرى العليا.
وهنا يتوقف “أمين” بشهادته عند قرار الدستورية وصاحب هذا القرار المستشار فتحي نجيب. فيقول: “للأمانة والتاريخ يجب أن نحيي موقف الرجل الذي قرر تحطيم هذا الجدار. وهو رئيس المحكمة الدستورية آنذاك المستشار فتحي نجيب. الذي تحدى الهيئات القضائية واتخذ القرار على مسؤوليته الشخصية بعد حصوله على الموافقة بالإجماع من الجمعية العمومية لمحكمته. فكانت الدستورية بفضله المنفذ الوحيد الذي استمع لمطالبات المجتمع المدني”.
استمرت الحملة حتى عام 2007 حين صدر القرار بنقل 30 سيدة من النيابة الإدارية إلى جهات القضاء العادي. وتعيينهن كقاضيات. ثم جاء عام 2008 بانفراجة جديدة حين تم تعيين 12 سيدة من النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة في جهات القضاء العادي وتعيينهن كقاضيات وفي عام 2015 عبر تعيين 32 قاضية.
ورغم ما يبدو عليه الوضع من تغيير إيجابي ظل موقف النيابة ومجلس الدولة جامدا. حيث لم يقوما بالتوقف عن التمييز ضد النساء لسنوات طويلة حتى الإعلان الأخير -وفقا لأمين.
المرأة ومعركة مجلس الدولة
تستكمل معنا مديرة مركزة المرأة الجديدة -نفيين عبيد- محطات الحصول على هذا الاستحقاق للنساء. والذي بدأ بحملة بالتعاون مع المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. حيث اتخذت منحى جديدا تركز الاهتمام فيه على الاعتراض على رفض مجلس الدولة تعيين المرأة. فضلا عن محدودية أعداد المنضمات للسلك القضائي وذلك في عام 2010.
وكان المركز المصري اشتبك مع محاولات المجتمع المدني للحصول على حق المرأة في التعيين بالقضاء. فبادر برفع دعويين قضائيتين. وذلك في أعقاب قرار الجمعية العمومية الرافض لتلك الخطوة.
وكان رفض الجمعية العمومية قد سبقه موافقة من المجلس الخاص بمجلس الدولة. وهو أعلى سلطة إدارية به. والذي قضى باستكمال إجراءات تعيين من تقررت صلاحيتهم بإجماع المجلس الخاص من خريجى وخريجات 2008-2009 تمهيدا لإصدار السيد رئيس الجمهورية قرار التعيين.
وعليه ساد صراع داخل أروقة المجلس. وللتوثيق فوفقا لورقة أصدرها المركز آنذاك -وزعها على المعنيين- قام وزير العدل بناء على طلب رئيس الوزراء بطلب تفسير للمحكمة الدستورية العليا لتفسير بعض النصوص التي تتعلق بالأزمة. وصاحب هذا الطلب موجة احتجاج من بعض قدامى قضاة مجلس الدولة حول عدم اختصاص المحكمة الدستورية بهذا الشأن واعتباره مخالفة صريحة للقانون.
وصل الأمر إلى اتهام المجتمع المدني المعارض لحرمان المرأة من تولي منصب القضاء آنذاك بمحاولة تمكين السلطة التنفيذية من مجلس الدولة.
البحث عن “أمنية”
وبينما كان الصراع على أشده أصدر المركز كتابه “المرأة ومنصة القضاء”. وقام عليه كل من نيفين عبيد والمحامي خالد علي والشيخ أحمد عبدالهادي. وتضمن ذكر ما جرى في أزمة تعيين المرأة قاضية بمجلس الدولة وموقف الفقه الإسلامي من عمل المرأة بالقضاء. فضلا عن مواقف المنظمات الحقوقية من القضية.
تقول “عبيد”: لم نجد الكثير من النساء اللاتي وافقن على اللجوء إلى القضاء. حيث كان أغلبهن من أبناء القضاة اللاتي يأملن في الالتحاق بجهات قضائية أخرى عدا مجلس الدولة.
ولكن مع حلول 2014 كنا على موعد مع تلك الفتاة التي رفضت التمييز. حين تقدّمت المحامية أمنية جادالله بطلب للعمل كمندوبة مساعدة في مجلس الدولة عقب إصدار الأخير إعلان التعيين لخرّيجي الدفعة ذاتها. حينها رفض مجلس الدولة طلب “أمنية” كغيرها من خرّيجات كليات الحقوق. فرفعت دعواها أمام القضاء الإداري تطالب فيها بوقف التمييز ضدّ النساء ورفض تعيينهنّ بمجلس الدولة. وفي عام 2016 رفعت دعوى ثانية تطعن فيها بدستورية بعض نصوص قانون مجلس الدولة ولائحته لتعارضهما مع الالتزام الدستوري بتعيين النساء في كافّة الهيئات القضائية، المنصوص عليه بالمادة (11) من دستور 2014.
رفض القضاء الإداري الدعويين اللتين تختصم فيهما “أمنية” المجلس. وتطالبه بالفصل بينها وبين نفسه. وهو ما يضعها في “حلقة مُفرغة” على حد وصفها. معتبرة أنّ اختصام المجلس في حالتها “غير دستوري”.
لم تتوقف “أمنية” عند هذا الحد. ففي عام 2018 أسست مبادرة حقوقية تحمل اسم “المنصة حقها” تختص بمكافحة التمييز ضدّ المرأة وحرمانها من تولي المناصب القضائية.
المرأة قاضية في مصر.. أن تأتي متأخرا
ومع القرار الأخير يسدل الستار على أكبر جريمة تمييز. حيث تعد مصر بحسب الحقوقي ناصر أمين “آخر دول المنطقة في حصول سيداتها على ذلك الحق نتيجة إشكاليات تشريعية وسياسية ومجتمعية”. إذ تقدمت علينا أغلب الدول العربية فيه كالجزائر التي احتلت النساء 60% من المناصب القضائية. وكذلك تونس والمغرب واليمن والبحرين. ولم تبق دولة مقصرة في هذا الحق سوى مصر والمملكة العربية السعودية.
ومع ذلك ينبه “أمين” أن هذا القرار لا يعني نهاية التمييز. إذ يؤشر إلى استمرار المعايير التمييزية في اختيار المتقدمين والتي لا تتم على أساس تكافؤ الفرص ووفقا لمبادئ الأمم المتحدة بشأن أعضاء السلطة القضائية والنيابة العامة الصادرة عام 1984. والتي تحرص في وثيقتيها على وضع الكفاءة كمعيار أوضح خلافا لمعايير التعيين البالية للمناصب القضائية في مصر. والتي يجب مراجعتها من حيث التمييز الاجتماعي والطبقي أو التمييز على أساس الرأي، حيث يمكن أن يرفض شخص مؤهل لمجرد رأيه السياسي أو انتمائه لعائلة ذات نشاط سياسي.
بالتوازي تعتقد نيفين عبيد أن الحصول على هذا الحق ووقف التمييز ضد المراة ربما يكون مناسبة لإنشاء مفوضية مكافحة التمييز لضمان تطبيق تلك الحقوق دون تمييز. وهي بمثابة استحقاق دستوري من شأنه الرجوع إليه من قبل العاملين أو المتقدمين حال شعرن بتمييز ما. على أن تكون جهة محايدة ومستقلة.
وتأمل “عبيد” أن ما حدث من إنجاز يكون بمثابة نقطة إيجابية في رصيد جميع المؤسسات الرسمية والمدنية التي يمكن منها الانطلاق نحو تفعيل مزيد من الحقوق والواجبات وتفعيل الرقابة بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني.