أكمل الرئيس “جو بايدن” عامه الأول في البيت الأبيض وسط مجموعة من الأزمات الإقليمية والدولية، والتي تكشف عنها بعض الأولويات الحاكمة لتوجهات السياسة الخارجية الأمريكية. وساهمت إدارة بايدن لبعض أزمات الشرق الأوسط في كشف عدد من الدلالات الاستراتيجية التي شكلت تغييرا واضحا عما انتهجه الرئيس السابق “دونالد ترامب”، حيث رأى بايدن أن مصلحة الولايات المتحدة تتحقق من خلال الأدوات الدبلوماسية والابتعاد عن الاستنزاف العسكري للموارد المادية والبشرية الأمريكية. والذي بدوره وضع الولايات المتحدة على حافة العديد من الأزمات التي لا يمكن إدارتها بالوسيلة الدبلوماسية.

أبرز المواقف في إدارة بايدن

في تقرير نشره المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية “ISPI” بعنوان “تقييم سياسة بايدن في الشرق الأوسط بعد عام واحد”. يتناول أبرز الخطوط العريضة للسياسة الأمريكية في عهد الرئيس بايدن. أكد على أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لم تعد تمثل أولوية بالنسبة لرئيس الولايات المتحدة الحالي. على سبيل المثال، قرار تقليص حجم المشاركة الأمريكية في سوريا. بالإضافة إلى اتباع نهج أكثر توازن تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ورفع الحوثيين من قائمة الإرهاب.

أفغانستان.. خروج بدون خطة

كانت أفغانستان بمثابة الاختبار الرئيسي لمستقبل سياسة بايدن تجاه ملفات الشرق الأوسط، حيث يعكس قرار الخروج الأمريكي من أفغانستان ثغرات استراتيجية في تكنيك الإدارة الأمريكية لبعض الأزمات. وأكد على ذلك منذ سنوات، تصريحات المستشار الأمريكي “هنري كيسنجر” في عام 2014: بقوله إن “الاحتمال الكبير هو أنه إذا انسحبت القوات الأمريكية من أفغانستان، وإذا لم يتم إجراء ترتيبات دولية بديلة، ستظهر طالبان مرة أخرى، وستتطور إلى وضع اكثر تعقيدا وربما إلى فوضى”. ولم تلبث أن بدأت بعض القوات الأمريكية في الانسحاب في 14 أغسطس/آب من العام الماضي، حتى اجتاح مقاتلو طالبان العاصمة كابول، واستولوا على القصر الرئاسي بعد ساعات من مغادرة الرئيس أشرف غني للبلاد.

وفي السياق ذاته، أثبتت تداعيات الأحداث أن 20 عام من وجود القوات الأمريكية في أفغانستان كأنها والعدم سواء. كما شككت في مصداقية النوايا فيما يتعلق بأهداف التدخل الأمريكي من حيث دعم الجيش الأفغاني ومكافحة الإرهاب. وأيضا تعرضت الولايات المتحدة للإدانة من قبل المجتمع الدولي من حيث اعتبارها العامل الأول وراء ما تعرضت له أفغانستان من تدهور أمني. كذلك اضطراب الموقف الأوروبي إزاء تسارع الأحداث وكيفية التعامل مع السلطة الجديدة في أفغانستان. كما لا يمكن فصل القرار الأمريكي في أفغانستان عن أولويات الإدارة الأمريكية في عهد بايدن من حيث حرصها على الحفاظ على مواردها حتى لو جاء ذلك على حساب أمن الحلفاء. وتأكيد على استقلالية القرار الأمريكي، وهبوط أولوية الأداة العسكرية من حسابات إدارة الأزمات بالنسبة لبايدن. فضلا عن كشف أخطاء تقديرية لدى الإدارة الأمريكية من حيث فشلها في تهيئة الجيش الأفغاني للحفاظ على أمن البلاد. ولم تعد الدولة القومية الوكيل الشرعي الوحيد لأدوات القوة.

إثيوبيا.. سوء تقدير

كشفت الحرب الأهلية في أثيوبيا جانب أخر من أخطاء الإدارة الأمريكية، فبالنظر إلى أثيوبيا، تعد أحد أهم الحلفاء الأفارقة للولايات المتحدة. كما تحمل أهمية استراتيجية في دعم استقرار منطقة القرن الأفريقي، وهو ما جعلها ثاني أكبر متلق للمساعدات الأمريكية في القارة. ومنذ بداية الصراع بين قوات رئيس الحكومة “آبي أحمد” وعناصر التيجراي. انتهجت الولايات المتحدة خطابات تندد باستمرار النزاع، كما اتهم وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكين” الحكومة الإثيوبية بـ “التطهير العرقي”. ثم صعدت موقفها بفرض عقوبات شاملة على أطراف الصراع، بالإضافة إلى إثناء أثيوبيا من برنامج التجارة المعفاة من الرسوم الجمركية.

وفي ظل تطور الصراع لمدة تزيد عن 15 شهر، مسفرا عن آلاف من القتلى واللاجئين، لم تفلح الجهود الأمريكية المختلفة في وقف النزاع. ومؤخرا، نظرا لعدم قدرة الإدارة الأمريكية على ضبط ملفات النزاع في منطقة القرن الأفريقي. أعلنت تعيين مبعوث جديد للقرن الأفريقي “ساترفيلد” في 6 يناير/كانون الثاني بديلا لجون فيلتمان. وأظهرت الحالة الإثيوبية فشل القرار الأمريكي متعدد المستويات في وقف الصراع. وتفوق دور بعض القوى الفاعلة الأجنبية مثل تركيا التي دعمت آبي أحمد بالدرونز مما كان لها دور رئيسي في ردع قوات التيجراي بعيدا عن العاصمة.

السودان.. غياب الدبلوماسية

جاءت استقالة المبعوث الأمريكي فيلتمان بعد أيام من استقالة رئيس الوزراء السوداني “عبد الله حمدوك”. وكشفت الأحداث عن مدى تراجع النفوذ الأمريكي في السودان، حيث ظلت السودان لمدة تقارب 25 عام بدون سفير من الولايات المتحدة حتى عام 2021، وساعد هذا الفراغ في جذب أطراف دولية وإقليمية لممارسة نفوذ أكبر، على سبيل المثال. عقدت روسيا اتفاق مع القائد العام للجيش السوداني “عبد الفتاح البرهان” لإنشاء قاعدة عسكرية. كما زادت تركيا من نفوذها بتوقيع 6 اتفاقات تعاون في أغسطس/آب 2021 في مجال الطاقة المتجددة ومذكرة تفاهم للتعاون في مجال البروتوكول بين وزارتي الخارجية واتفاقية التعاون المالي العسكري.

كما كشفت الأزمة عن الحاجة إلى حجم جهود أكبر يتناسب مع طبيعة الموقف، فمنذ بداية التوترات السياسية في أكتوبر من العام الماضي بين القوى المدنية والعسكرية. كانت الولايات المتحدة على الهامش إلى حد كبير، بفعل انشغالها بالحرب الإثيوبية. حيث حاولت الضغط بطريقة غير مجدية لإنهاء التوترات والعودة إلى مبادئ الإعلان الدستوري لعام 2019 واتفاقية جوبا للسلام لعام 2020. كما قررت إيقاف المساعدات الاقتصادية للسودان (700 مليون دولار).

وكشفت الأوضاع عن مدى ترهل خطاب بايدن فيما يخص السودان وعجزه عن التغيير على وجه الخصوص في دولة لا يتوفر بها تمثيل دبلوماسي. وغياب استراتيجية أمريكية واضحة لحل الأزمة السياسية.

الخليج.. ارتباك الموقف

برزت الأدوات الدبلوماسية بجلاء في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه دول الخليج. حيث انتهج بايدن سياسة التفاوض مع إيران بالعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني. الذي انسحب منه ترامب في 2015، مشكلا اتجاه مخالف عن إدارة الجمهوريين، وبعد مرور عام على الرئاسة. لم تستطع إدارة بايدن إحراز تقدم في الاتفاق مع إيران، أو إنهاء الحرب في اليمن –التي كانت على رأس أولويات بايدن في خطابه الأول بعد انتخابه كرئيس-. إلى جانب قيامه برفع الحوثيين من قوائم الإرهاب.

تبدو السياسة الأمريكية تجاه دول الخليج في حالة كبيرة من الارتباك، حتى الآن لم يقم بايدن بأي زيارة لأي دولة خليجية. ما يبعث إشارة واضحة توضح تراجع الحضور الدبلوماسي، وفي المقابل. تنمي الصين تواجدها في دول الخليج ما يثير قلق الولايات المتحدة إزاء تحركات خصمها. كما كشفت الأحداث الأخيرة إثر الهجوم الحوثي على مطاري دبي وأبوظبي. عدم فاعلية الاستراتيجية الأمريكية تجاه الحوثيين، وتحت تأثير الضغط الدولي، أعلنت الولايات المتحدة عن نيتها بعودة إدراج الحوثيين على قوائم الإرهاب.

الدلالات

بناء على ما تبين من توجهات السياسة الخارجية للولايات المتحدة إزاء دول الشرق الأوسط. وتعاطيها مع المؤثرات التي تهدد أمن الحلفاء، يمكن الوصول إلى بعض الدلالات:

مثلت السنة الأولى من قيادة بايدن مرحلة انتقال من سياسة المواجهة في عهد ترامب إلى سياسة التفاوض والمساومات في العديد من الملفات أهمها الاتفاق النووي الإيراني. وفي جوانب أخرى، امتداد للسياسة الترامبية التي رمت إلى وقف الحروب التي لا طائل منها. على سبيل المثال، قرار بايدن بإتمام الاتفاق مع طالبان والخروج من أفغانستان.

حافظ بايدن على مبدأ القيادة الدبلوماسية الذي أعلنه في خطاب التنصيب كنهج رئيسي لمعالجة أغلب القضايا. مما يعكس تهميش الأداة العسكرية، وبالتالي تحويل العبء الأمني ​​بعيدًا عن واشنطن. وهو ما يبرز عدم ميلها للانخراط في مواجهة مسلحة مع إيران. ويمكن وصف سياسة عدم التدخل الحالية لبايدن بمثابة اعتراف جزئي بإخفاقات واشنطن.

تحول اهتمام بايدن عن قضايا الشرق الأوسط لصالح التركيز مع الصين وروسيا. حيث أعلن وزير الخارجية بلينكين  في مارس/آذار: “أن الصين هي الدولة الوحيدة التي لديها القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية. التي تتحدى بشكل جدي الوضع المستقر للنظام الدولي”، ويترجم ذلك استراتيجيتها في منطقة الإندوباسيفيك، وصفقة الغواصات مع أستراليا.

غياب الاستراتجية بشكل واضح في القرن الأفريقي. ومع تعاقب المبعوثين تحاول الولايات المتحدة إصلاح مواقفها. في نفس الوقت التي أعلنت الصين إرسال مبعوث خاص لمنطقة القرن الأفريقي، كرسالة مباشرة إلى الولايات المتحدة بفشل مهمتها في المنطقة.

تبنئ أغلب تصرفات الإدارة الأمريكية عن نوايا إعادة تموضع القوات العسكرية في المناطق ذات الأولوية بالنسبة للمصالح الأمريكية. فمنذ اللحظة الأولى، أعلنت نيتها  بتقليص الجيش الأمريكي في الخارج لمواجهة التهديدات الحالية بشكل أفضل للمصالح الاستراتيجية الوطنية لواشنطن. بالإضافة إلى الخروج من أفغانستان، في 9 ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، أعلنت انتهاء المهمة العسكرية لقواتها في العراق رسميا.

التداعيات

قادت سياسات بايدن إلى إعلان غير مباشر بالتخلي عن الشركاء الاستراتيجيين. وعدم اليقين بشأن التزام الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط. وبالتالي عليهم الاعتماد على إمكانياتهم في ضمان أمنهم القومي، إلى جانب عدد من التداعيات:

كانت سياسة بايدن فرصة ثمينة أمام كل من روسيا والصين في الاتجاه نحو ملء الفراغ في الشرق الأوسط وأفريقيا. على سبيل المثال، إعلان الصين تعيين مبعوث لمنطقة القرن الأفريقي، والمباحثات بين الصين ودول الخليج لإتمام اتفاقية التجارة الحرة. واتجاه دول الشرق الأوسط لتنويع ترساناتهم من الأسلحة من روسيا. حيث وقعت السعودية اتفاقية تعاون عسكري مع روسيا في أغسطس/آب 2021. بينما عقدت الإمارات صفقة تاريخية مع فرنسا بشراء 80 طائرة مقاتلة من طراز رافال في ديسمبر/كانون الأول 2021.

اتجاه دول الخليج نحو تصفية الخلافات وفتح قنوات حوار مع الخصوم الإقليميين، على رأسها المصالحة مع تركيا. وتفعيل اتفاقية أبراهام مع إسرائيل والعودة مرة أخرى إلى سوريا والعمل على إعادة ضمها لجامعة الدول العربية بهدف تحييد التوترات.

وكذلك على الصعيد التركي، كانت سياسة بايدن المتشددة تجاه أردوغان دافع رئيسي نحو التعاون مع دول الخليج، وعقد المصالحات الإقليمية.