طقوس المشاهدة التليفزيونية لم تعد في اجتماع عائلي دافئ. بل ربما أصبحت تتضمن الخيانة الزوجية وخلافات دينية واجتماعية عاصفة تتفجر في تفاعل إشعاعي متسلسل على السوشيال ميديا. ولهذا الهدف تحورت صناعة الأفلام والمسلسلات العربية عبر المنصات الجديدة.

الذين هبطوا من الشرق والغرب

2008 قد يكون تاريخاً مبكراً جداً أو غير حقيقي على الإطلاق لبداية عصر المنصات في العالم العربي. في ذلك العام أطلقت مجموعة MBC منصة “شاهد” كواجهة موازية على الإنترنت لعرض محتوها الذي تبثه تليفزيونياً. “شاهد” كما نعرفها الآن احتاجت إلى أكثر من 10 سنوات لتعيد إصدار نفسها في نسخة قادرة على المنافسة بعد وصول المنصات العالمية إلى السوق العربية.

في 2013 انطلقت منصة Icflix من دبي بالإمارات. ومن هناك أيضاً انطلقت STARZ PLAY بالعام التالي. وهي مملوكة جزئياً لستوديوهات Lionsgate الأمريكية.

بعدها بعامين وصلت نتفليكس و”شوفها” التي اعتمدت على اتفاقية لعرض محتوى مجموعة روتانا وتوجهت لسوق تونس والجزائر ثم أمازون برايم فيديو. والمنصة الماليزية iFlix التي تديرها الشركة الصينية Tencent. ومنصة viu التي أتت من هونج كونج بمحتوى ضخم من جنوب شرق آسيا. إضافة إلى Wavo التي كانت واجهة لشبكة OSN على الإنترنت. وأخيراً “جوي” التابعة لشبكة الاتصالات السعودية STC وWatch It في مصر.

بعض هذه المنصات لم تستمر لتشهد فوران الاشتراكات مع جائحة كورونا. في 2018 اختفت Icflix. وفي العام التالي انسحبت iFlix من الأسواق العربية. بينما اختفت علامة Wavo داخل OSN التي وضعت اسمها على المنصة مباشرة. وهي الشبكة التي تحمل حقوق عرض أعمال ديزني+ الأصلية وHBO وباراماونت+ في العالم العربي. وستنفصل عنها ديزني+ في صيف 2022 عندما تنطلق كمنصة مستقلة في 16 بلدا عربيا ضمن خطتها للتوسع عالميا.

في 13 دولة عربية تتلقى خدمات المنصات. من المتوقع أن يصل عدد المشتركين في 2024 إلى 11.87 مليون. وهو ما يقارب 3 أضعاف عدد المشتركين بهذه البلاد في 2018 (4.13 ملايين). يأتي ثلثا هذه الاشتراكات من دول مجلس التعاون الخليجي.

المنصات وسوبر ماركت الأفلام

معظم المنصات افتقدت الأعمال العربية خلال سنوات ما قبل كورونا. باستثناء “شاهد” التي تمتعت بمكتبة MBC الغنية بمواد الترفيه العربية من إنتاج المجموعة وOSN المعتمدة على شراء حقوق أعمال كلاسيكية وأخرى حديثة في عروض حصرية أولى. وWatch It التي نشأت لتصريف مسلسلات شركة UMS التي تُعرض على قنواتها التليفزيونية خلال موسم رمضان بفقرات إعلانية فادحة المدة. قبل جائحة كورونا اعتمدت منصات نتفليكس وviu على شراء حقوق عرض أفلام ومسلسلات يرجع إنتاجها لسنوات قليلة سابقة.

الإغلاق المفاجئ في بداية جائحة كورونا وضع المنصات تحت ضغط توفير المزيد من المحتوى الترفيهي بسرعة. ولهذا تسابقت المنصات على شراء حقوق الأعمال الكلاسيكية. كانت هذه هي الفترة التي ظهرت فيها أعمال يوسف شاهين ومسرحيات الثمانينات على نتفليكس.

منصة “شاهد” واصلت التنقيب في الكلاسيكيات حتى أفلام الأربعينيات. لكن المشتركين المحتجزين بمنازلهم لم يكونوا منجذبين لإعادة مشاهدة الأعمال القديمة أمام إغراء الأفلام والمسلسلات الحديثة التي توفرها منصات شرق آسيا وهوليوود. لهذا انتهت هذه الفترة سريعاً ببدء مرحلة الأعمال الأصلية.

بالتوازي كُسر احتكار مصر ولبنان للمحتوى الترفيهي. في 2020 اقتنصت نتفليكس أهم وأحدث الأفلام السعودية: “رولم” الذي كان أول فيلم سعودي يُعرض بدور العرض المحلية. و”شمس المعارف” الذي فقد عرضه السينمائي الأول في مهرجان البحر الأحمر بعد إلغاء دورته الأولى في 2020. وكان عرضه الأول على المنصة.

وضمت مكتبة شاهد أفلاماً من المغرب العربي لم تكن أبداً متاحة من قبل لجمهور مصر والشام والخليج. على سبيل المثال: فيلم الرعب التونسي “دشرة” (عُرض أيضاً على نتفليكس)، و”القديس المجهول” و”المغضوب عليهم” من الجزائر ومن المغرب “صوفيا” و”عمي” و”ماجد”.

تربية الفرس أم شراؤه

الأعمال الأصلية العربية بدأت في الظهور قبل كورونا في 2019 عبر مسلسل الرعب الأردني “جن”. الذي نال هجوماً دفع منصة نتفليكس لتأجيل عرض “مدرسة الروابي للبنات” لسنتين.

الهجوم كان سببه تقديم الشباب الأردني بشكل “يخالف تقاليد المجتمع”. منصة “شاهد” كانت محظوظة بنجاح أول أعمالها الأصلية “في كل أسبوع يوم جمعة” قبل انتشار أخبار كورونا بأيام. ثم جربت تقديم مسلسل الإثارة “الشك” الذي دارت أحداثه حول شخصيات معزولة بمنازلها بسبب الإغلاق.

أيضاً جربت “شاهد” شراء أفلام مصرية جديدة وعرضها حصرياً. مثل “صاحب المقام” و”الحارث” ثم “أعز الولد”.

ونجحت التجربة في الفيلم الأول فقط لأنه استطاع إثارة الجدل في السوشال ميديا. كما قدمت فيلم الرعب “خط دم” الذي شاركت MBC في إنتاجه كفيلم سينمائي تقليدي ضل طريقه إلى “شاهد” بعد إغلاق قاعات العرض. لكن على ساحة السوشال ميديا تم تمزيق الفيلم بشكل أقنع المنصة بأن الأعمال الأصلية لها مواصفات خاصة في إنتاجها.

نتفليكس كانت سابقة بهذه الخبرة: “Mosul” هو فيلم أمريكي في معظم عناصر صناعته. بطاقم تمثيل عراقي باللهجة العراقية. عن فريق من عناصر الشرطة العراقية خلال إنقاذ مدينة الموصل من مقاتلي تنظيم داعش. العرض الأول للفيلم كان في مهرجان فينسيا السينمائي 2019. ثم عرضته المنصة في نوفمبر 2020 ليتصدر قوائم الأعلى مشاهدة في كل البلاد العربية التي تعمل بها المنصة.

نجاح آخر مبكر حققته STARZ PLAY بمسلسل “قلب بغداد” الذي عُرض في فبراير 2020 على المنصة بالتزامن مع عرضه في القناة الرابعة البريطانية وشبكة hulu الأمريكية.

من هذه الخبرات الأولية شقت كل منصة طريقها لعالم الأعمال الأصلية.

أقلعت “شاهد” عن محاولة صناعة أفلام أصلية واكتفت بتطوير مسلسلات قصيرة متوسطة الإنتاج بفنيات سينمائية.

قدمت نتفليكس 3 أعمال عربية ناجحة وهي “ما وراء الطبيعة” و”أبلة فاهيتا” وفيلم “أصحاب ولا أعز”. إضافة لمسلسل “مدرسة الروابي للبنات” الذي قضى سنتين في الثلاجة. بينما بدأت OSN في قراءة الكتاب من أوله بإنتاج الفيلم المصري “حظر تجول” وعرضه في مهرجان القاهرة السينمائي في نهاية 2020. ثم عرضه في السينمات دون نجاح يذكر.

هكذا طورت المنصات استراتيجياتها لتبدأ في تغيير قواعد وعادات المشاهدة للجمهور في المنازل.

المنصات وتشجيع الخيانة الزوجية

في 2017 نشرت نتفليكس بيانات استطلاع رأي أجرته على مشتركيها بأنحاء العالم. وجاء فيه أن 46% من الأزواج المشتركين بالمنصة يمارسون الخيانة في المشاهدة. بمعنى أن أحد الزوجين يتسرع في مشاهدة أعمال المنصة قبل تمكنهما من مشاهدتها معاً.

يحدث هذا بسبب نمط العرض الذي تقدمه نتفليكس والمنصات الغربية عموماً. حيث يتم إطلاق حلقات المسلسل كاملة في أول يوم عرض. وبالتالي يجد كثير من الجمهور أنفسهم متورطين في الاستمرار أمام المسلسل حتى إنهاء حلقاته الأخيرة. حتى لو أدى هذا لقضاء 10 ساعات متواصلة لإنهاء موسم كامل. أو خداع شريك المشاهدة الغائب في العمل النهاري ثم التظاهر بعدم الاهتمام أو إعادة المشاهدة معه لاحقاً.

يفيد هذا النمط في تنشيط اهتمام السوشيال ميديا. بحيث يصبح العمل متاحاً بالكامل أمام الجمهور ليشتعل الجدل. ويختلف هذا عن أسلوب عمل المنصات العربية. فمنصة “شاهد” تعرض أعمالها غالباً خلال عطلة نهاية الأسبوع. إذ يناسب هذا نمط مشاهدة عائلية أكثر إخلاصاً وأقل ارتباطاً بالسوشيال ميديا. وفي خارج موسم رمضان تعرض Watch It أعمالها خلال أيام العمل بالأسبوع ربما لتجنب منافسة “شاهد”.

هل تجهل نتفلكيس أن إطلاق المسلسل كاملاً يسهل مهمة القراصنة لسرقته؟

بالتأكيد تعرف هذا. في نهاية 2020 وخلال حلقة نقاشية في أيام القاهرة لصناعة السينما برعاية منصة viu قال آبي شادي أبو النجا -المدير العام للمنصة- إنه لا يوجد ما يمكن فعله لتجنب القرصنة. يمثل هذا جزءاً من إجابة السؤال. الجزء الثاني هو أن القرصنة مفيدة لأعمال نتفليكس بالعالم العربي. على الأقل حالياً لأنها تضيف لها مدى أوسع على السوشيال ميديا.

العمر الإشعاعي للدراما

منذ إطلاقه في 20 يناير 2022 احتل فيلم “أصحاب ولا أعز” المركز الأول في مشاهدات نتفليكس بمعظم الدول العربية التي تعمل بها المنصة لمدة أسبوع. مركز العاصفة كان في مصر والأردن ومنهما يأتي اثنان من نجوم الفيلم دار حولهما معظم الجدل (منى زكي وإياد نصار). باقي الدول العربية تبعت دولتي المركز بيومين أو ثلاثة بنهاية الأسبوع كان الفيلم بالمركز الأول في 9 دول عربية.

عالمياً احتل الفيلم المركز الخامس بالأفلام غير الناطقة بالإنجليزية الأعلى مشاهدة على المنصة بإجمالي 2.67 مليون ساعة مشاهدة.

يوضح هذا كيف أصبحت السوشيال ميديا عنصراً أساسياً في نجاح العمل المعروض. في البداية يظهر ضمن اقتراحات الأعمال الجديدة للمشتركين. وبوصوله للسوشيال ميديا تصبح مشاهدته أمراً ملحاً لباقي المشتركين. خاصة أن قرصنة العمل تكسبه مجال تأثير أوسع بكثير. إذ يفكر المشترك أنه دفع مالا لكي لا يصبح متأخراً عن الترند. لكن كيف تضمن المنصة أن ينفجر العمل في السوشيال ميديا؟

الجرأة حلوة

لكل منصة مدونة أخلاقية أساسية تحدد مواقفها من القضايا الاجتماعية عالمياً وإقليمياً. تضع نتفليكس أمامها قواعد الشمول والتمثيل الإيجابي لكل الفئات الاجتماعية. لكنها تخاطر عندما تسبح ضد التيار العام بقضايا مثل المثلية الجنسية. ومع هذا لا يبدو أن الجرأة تضرها على المدى الطويل.

فأرقام المشتركين والمشاهدات في ارتفاع بما يعني أن رضا الزبون لا يتوقف فقط على مدى اتفاقه مع المحتوى المقدم. بل ربما رضاؤه عن التجربة ككل مرتبط باختلاف المنصة عن السائد بإعلامه المحلي.

الهجوم على “جن” و”أصحاب ولا أعز” لم يؤثر سلبياً على الاشتراكات. وربما كان سبباً لزيادتها. المشترك لديه دائماً خيار التجربة الآمنة مع التليفزيون الأردني أو منصة Watch It شبه الحكومية في مصر.

“شاهد” تعرف أكثر عن زبونها العربي. لذلك لا تطرح قضايا اجتماعية حريفة في مسلسلاتها. وبالمقابل نادراً مع تعتلي ترند السوشيال ميديا لكنها أيضاً لم تنحن تحت سقف الثوابت الاجتماعية.

في مسلسلها “60 دقيقة” تناولت السادية الجنسية والاغتصاب. وفي مسلسلها الجديد “وعد الشيطان” سيتصارع بطله عمرو يوسف مع إبليس شخصياً.

“شاهد” الآن تعرض أيضاً أفلاما ممنوعة رقابياً في بلادها. مثل الفيلم الجزائري “بابيشة“. والوثائقي المصري “القاهرة منورة بأهلها” للمخرج يوسف شاهين. وهو فيلم ممنوع تماماً عرضه في مصر بدعوى تشويه سمعة البلد. أيضاً “عفاريت الأسفلت” الذي لم تعد هناك فرصة لمشاهدته إلا على المنصة. قبل هذا دُفن الفيلم لعقدين بسبب تشابك العلاقات الجنسية به بشكل يجعل “أصحاب ولا أعز” فيلماً تربوياً.

في وعاء واحد.. اخلطهم جيداً

قبل عصر المنصات لم يكن سهلا نجاح عمل يقوم ببطولته ويصنعه فنانون من جنسيات عربية متنوعة. في البداية جربت “شاهد” هذا في فيلم “خط دم” بالنجم التونسي ظافر العابدين مع المصرية نيللي كريم والمخرج الأردني رامي ياسين في قصة مصرية تم تصويرها في لبنان.

فشل الفيلم لم يعطل المنصة عن المزيد من الأعمال مختلطة الجنسيات لجذب الجمهور بأكثر من بلد عربي. من بينها مسلسلات “الزيارة” (المصرية دينا الشربيني وسط قصة وفريق لبناني). و”عنبر 6″ (نجمات من الأردن ولبنان ومصر والسعودية). و”خارج السيطرة” الذي يتضمن حلقات مصرية وسعودية وفريق تمثيل مشتركا أحياناً.

وحالياً تعمل OSN على مشروع فيلم “Yelow Bus” وهو فيلم بقصة هندية تشارك فيه النجمة السورية المصرية كندة علوش.

ولا يمكن فصل هذا عن توجه كبير للمنصات العالمية. وهو فتح نوافذ جديدة للمشاهد على أعمال من بلاد لم يكن معتاداً عليها. في نتفليكس لا يتوقف الأمر على المسلسل الإسباني “La Casa De Papel”. فقبلها حقق مسلسل “Narcos” نجاحاً كبيراً بقصص عصابات من كولومبيا والمكسيك. ولأكثر من مرة تسلقت الترند العربي أعمال غير ناطقة بالإنجليزية ولا تتضمن نجوماً شهيرين مثل الفيلم الإسباني “The Platform” ومسلسل “Squid Game” من كوريا الجنوبية.

المنصات ونيش المهرجانات

كل المنصات تضع في حسبانها شراء حقوق الأفلام الحائزة على جوائز مهرجانات دولية. يحسن هذا من صورة المنصة ويجعلها تبدو أرقى وداعمة لهذا النوع من الأفلام. كما لا يكلفها الكثير مقارنة بالأفلام التجارية.

ما تغير كان قدرة هذه الأفلام على تحقيق نجاح في المشاهدات وصعود الترند على السوشيال ميديا عند بدء عرضها. مثلما فعل الوثائقي المصري “عاش يا كابتن” عن كفاح لاعبات رفع الأثقال في أحياء الإسكندرية المهمشة. وهو كان أول وثائقي مصري تعرضه نتفليكس في يوليو 2021. قبلها أيضاً نجح فيلم “أسرار مقابر سقارة” من أعمال نتفليكس الأصلية في تسلق الترند خلال أكتوبر 2020.

في الوقت نفسه عرضت “شاهد” مجموعة أفلام وثائقية من أنحاء العالم العربي. مثل “المجلس” من الأردن و”عالسكة” من تونس و”في أحضان أمي” من العراق ومن سوريا “عن الآباء والأبناء” الذي ترشح لجائزة الأوسكار.

الإنجاز الأكبر كان في إتاحة “شاهد” للأفلام القصيرة التي لا يوجد لديها سوق مشاهدة على الإطلاق لدى العرب. مثل الفيلم المصري “ستاشر” الفائز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي. وقبله أتاحت المنصة فيلم “شوكة وسكينة” للنجمة منة شلبي بعد عرضه في مهرجان الجونة.

ما يحدث في نتفليكس لا يبقى في نتفليكس

واجهة المستخدم السهلة كانت من أهم الهدايا التي قدمتها نتفليكس. ليس للمشاهد العربي وحده ولكن للمنصات الإقليمية أيضاً. الانتقادات الأكبر لمنصة Watch It هي أن واجهة المستخدم بها تبدو كشباك حكومي غير خدوم مقارنة بواجهة نتفليكس. وطورت “شاهد” منصتها في نهاية 2019 بحيث تبدو أقرب لنتفليكس إلا في عنصر واحد وهو تقييم الأفلام.

منذ أكتوبر 2021 توفر نتفليكس بيانات المشاهدة الخاصة بها بكل دول العالم أسبوعياً على موقع تابع لها، المنصات العربية أقل اهتماماً بتسيد ترند السوشيال ميديا. ولهذا لا توفر هذا النوع من البيانات؟ وربما لمداراة الأداء السيئ لبعض أعمالها. ولكنه ككل شيء في العلاقة بين المنصات والجمهور. هناك إعجاب خفي ومقاومة ثم يبقى الأصلح.