بين تعريفات وتصورات كثيرة لطبيعة الفنون ودورها (إن صح أن نفترض دوراً معيناً لها)، يمكننا على الأقل أن نفترض ارتباطاً بين حركة تطور مجتمع ما وطبيعة ما ينتجه من فنون. ومن هذا المنطلق فتنوع أشكال الإبداع مرتبط بشكل أو بآخر بإحساس المبدع بامتلاكه مساحة، حتى وإن صارت ضيقة أو هامشية، يستطيع من خلالها التعبير بشكل أصيل عما يمكن أن يكون انعكاسا لرؤيته لمحيطه.

ويبدو من المنطقي كذلك افتراض انتقال نقاط الازدهار الفني والثقافي من مكان إلى آخر مع توالي موجات التطور أو الاضمحلال بكافة أشكاله.

وهنا يأتي جوهر الجدل حول ازدهار الفن والثقافة.. هل يمكن استيراد ذاك الازدهار؟ هل يمكن القفز للأمام بلا الاعتماد على تطور طبيعي للمجتمع بشكل عام وللفن كانعكاس لهذا التطور؟ وما الضمانة لاستمرار ازدهار غير متجذر بالشكل الكافي في الوعي الجمعي؟

لسنوات طويلة ساد المجتمع السعودي (كالكثير من المجتمعات العربية في فترات مختلفة) بشكل عام، والفن كجزء منه، اتجاه محافظ وضع أطرا محددة لما يُمكن أن يتم التعبير عنه. ثم ولأسباب سياسية واقتصادية، إقليمية ودولية، يطول شرحها، تم إعطاء ضوء أخضر للتغيير. وكما أسلفنا، ليس أفضل من الفنون والثقافة للتعبير عن حركة تطور المجتمع.

ذاك الانعكاس الذي يُفترض أن يكون لعناصر هذا المجتمع معبرا عن تفردها وعما تمر به في تلك النقطة من تاريخها.

ولا يبدو منطقيا من الأساس استيراد أو استقطاب عناصر غريبة عن مكونات ذاك المجتمع لتقوم بهذا الدور، بل ويصبح من العبث التام سعي فنانين/مثقفين لمحاولة ملء هذا الفراغ ولو آنيا، وتصبح الدوافع محل تساؤلات كثيرة.

من التطوير للترفيه لمحاولات الترقيع 

لسنوات طويلة ومنذ بدء ظهور الثورة النفطية في دول الخليج العربي ومع ما جلبه ذلك من حتمية التطور التطور الحضاري، وبالتالي الحاجة لتطوير الأدوات الثقافية الفنية لتواكب ذلك التطور، بدأت موجات الاستعانة بفنانين مصريين لإنشاء وتطوير المعاهد والكليات الفنية وإخراج أجيال من الفنانين المحليين. وهو ما حدث بالفعل رغم محدودية تأثير تلك البدايات تماشيا مع خصوصية الظرف المجتمعي. التأثير، الأكبر ربما والأقرب القلوب، جاء عبر سنوات طويلة من مشاهدة الأعمال الفنية المصرية التي جعلت من الفنانين المصريين (وخصوصاً في مجال الكوميديا) أيقونات محببة حتى وإن لم تخرج من إطار الكاريكاتير المسلي.

ومع تطور القدرات الاقتصادية، أصبح من التسلية المعتادة استضافة عروض مسرحية كوميدية مصرية مع تطويعها قليلا لتصبح مناسبة للذوق العائلي الخليجي المحافظ.

وبالتوازي مع ذلك، ومع تراكم الخبرات والقدرات، تطورت الكوادر الفنية والثقافية المحلية وبدأت تدريجيا تحل محل المنتج الفني المصري. ونشأت أجيال من “صناع المحتوى” ومن العاملين بالمهن الفنية قادرين على استغلال كل ما نتج عن تطور تكنولوجيا الترفيه. إلا أن التجارب الفنية وخاصة السينمائية مازالت في بداياتها ومن غير المنصف الحكم عليها في الوقت الحالي، رغم أنها تبدو واعدة، وبدأت في غزو المنصات الفنية، كما نجح بعضها في تسجيل حضور في مهرجانات سينمائية.

ورجوعا لما تم الإشارة إليه من إعطاء الضوء الأخضر لانطلاقة بها ملامح تتحرر من بعض الأطر المحافظة التي سادت طويلا، ظهرت رغبة في تسريع إيقاع الوصول لواجهة فنية/ثقافية مختلفة. وبدأ الدفع نحو تنظيم مهرجانات ومنح جوائز تحمل سمة “العالمية” والانتشار الواسع، عبر دعوة فنانين لهم الحضور والشعبية إقليميا ودوليا لاستكمال أجزاء ثوب لم يجهز بعد. مع محرك نفاثا يحرك ماكينة البروباجاندا، وهو القدرات المالية الضخمة التي تمثل فرصا إنتاجية يمكن أن تعتبر نافذة للكثير من الفنانين والفنيين، وبمنظومة أجور أقرب للأحلام.

جرة الذهب فوق قوس قزح

أمام فرص واحتمالات بهذه الجاذبية، لم يوفر الكثير من “النجوم” جهدا في محاولات الفوز بالسباق، عبر التهافت على التواجد أو المبالغة في كلمات المديح لدرجة أثارت سخرية الكثير من المشاهدين وعبروا عن ذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

المعضلة الأساسية هنا أن الطرف الآخر في المعادلة لم يعد على ما كان عليه في الخمسينات والستينات وحتى السبعينات. فقد راكم خبرات وإمكانيات تمكنه من التمييز وعدم شراء الوهم. كما أن الميزة النسبية التي طالما امتلكها نجوم أفل تألقها، قد قلت بشكل ملحوظ عبر سنوات مما يمكن تسميته باضمحلال الإنتاج الفني والثقافي. وكأننا عدنا بالزمن لأوقات عروض المسرح الكوميدية الكاريكاتيرية، غير أن العرض هذه المرة ليس على خشبة المسرح، وإنما في قاعات الاحتفالات بالجوائز والمهرجانات. حيث تدخل الشخصيات بحسب دورها المرسوم لتسلية من دفع ثمن التذكرة.