لم تمر على جماعة الإخوان المسلمين أزمة تنظيمية منذ تأسيسها عام 1928 كتلك التي ضربت رأس الجماعة في أعقاب القبض على القائم بأعمال المرشد محمود عزت منتصف العام 2020. خاصة أنها المرة الأولى التي تعلن فيها مجموعة داخل التنظيم عزل المرشد أو من ينوبه. إضافة إلى كون تلك الأزمة تأتي فى صفوف “الكتلة الحديدية” التى تهيمن على مفاصل التنظيم واستثماراته وتدير علاقات الجماعة بحلفائها الدوليين. في أعقاب انشقاق ما عرف بالجبهة الشبابية قبل نحو ثلاثة أعوام. معلنين عن تنظيم تحت جديد تحت لافتة “المكتب العام لإخوان مصر”.

تطورات انقسام الإخوان الأخير

جاءت أحدث حلقات الانقسام داخل الجماعة بإصدار ما يعرف باسم “جبهة لندن” التي يتزعمها إبراهيم منير بصفته القائم بأعمال المرشد بيانا بعنوان “لسنا منهم وليسو منا”. أعادت خلاله توظيف مفردات مؤسس الجماعة حسن البنا. عندما وصفا اثنين من جماعته بأنهما ليسا إخواناً وليسا مسلمين بعد اغتيال القاضي أحمد الخازندار في مارس عام 1948.

بيان جبهة لندن الصادر مساء السبت الماضي أبطل تشكيل لجنة “إسطنبول” والتي يتزعمها الأمين العام السابق محمود حسين ومصطفى طلبه. واعتبر أن اللجنة القائمة بأعمال مرشد الإخوان “خارجة عن الشرعية” التي ينفرد بها “منير” دون غيره داخل التنظيم. وأن أعضاءها ليسوا من الإخوان “ليس منا ولسنا منه كل من خرج عن الصف وكل من أسهم في شق الجماعة وترديد الافتراءات الكاذبة”.

وحملت أزمة الانقسام الأخيرة في طياتها تطورات نوعية عدة. لعل أبرزها إعلان مجموعة قيادة التنظيم بتركيا -ممثلة في محمود حسين الأمين العام السابق- عزل إبراهيم منير الذي يتزعم جبهة قيادات لندن من مناصبه كقائم بأعمال مرشد الجماعة ونائب للمرشد ورئيس لمجلس شورى الجماعة. في المقابل أحال منير مجموعة قيادات إسطنبول التي وصفها بالمتمردة إلى التحقيق وتجميد عضويتهم بالجماعة لحين انتهاء التحقيق. فيما أعلنت “مجموعة حسين” تشكيل لجنة جديدة برئاسة رجل الأعمال مصطفى طلبة -عضو مكتب مجلس شورى التنظيم- بقرار من المجلس بحسب إعلانهم.

إخوان وجبهتان

ولأول مرة فى تاريخ الجماعة يشير قياداتها من الرجال إلى دور للنساء “الأخوات” فى إجراءات وصفها منير بأن من شأنها هدم كل شىء. بقوله في كلمة متلفزة مع اندلاع الصراع إن ما حدث شارك فيه أخوة وأخوات “هذه المجموعة أصرت على نهجها وأصروا على هدم كل شىء”.

وتمثلت شرارة الأزمة الأخيرة فى أعقاب القبض على محمود عزت القائم السابق بأعمال المرشد قبل عام. ووصلت لمستوى متقدم عندما أعلن إبراهيم منير الذى خلف عزت فى مهامه مطلع العام الماضي خطوات وصفها بـ”الإصلاحية”. بعدما عزل محمود حسين من منصبه كأمين عام للتنظيم. وتشكيل لجنة لإدارة الجماعة تكون بمثابة مكتب للإرشاد. ضمت فى عضويتها محمود حسين كـ”عضو” وحلمى الجزار مسؤول إخوان الجيزة السابق ومحيي الزايط عضو مجلس شورى الجماعة. وأوكل إلى تلك اللجنة إعادة ترتيب البيت من الداخل والتمهيد للانتخابات الداخلية. وهو القرار الذى رفضته مجموعة إسطنبول بقيادة محمود حسين كما رفضت تسليم الملفات التي كانت بحوزتها.

وفى سبتمبر الماضى وبعد انتهاء مجموعة منير من إجراء الانتخابات الداخلية وإفرازها للجنة جديدة تتولى إدارة الجماعة. ضمت أحمد الحاج أحد قيادات الجماعة بمحافظة الشرقية ومحمد شرف وهو عضو هيئة تدريس سابق بجامعة القاهرة ومحمود السعدني أحد مسؤولي الملف الإعلامي بالجماعة. ثارت مجموعة إسطنبول بقيادة حسين. وبدؤوا في التحرك لدعوة مجلس الشورى لعزل منير عبر ورقة تتضمن مقترحا بإقالته بدعوى “خطورة تصرفاته على التنظيم”. بعدما نقل جميع مستويات الإدارة إلى لندن. واتهموه بأنه “جعل قرار الجماعة في أيدي أطراف خارجية”. وهو ما قابله منير بإصدار قرار سريع بتجميد عضويتهم وإحالة 6 منهم للتحقيق. وعلى رأسهم محمود حسين ومدحت الحداد ومحمد عبدالوهاب.

فردت مجموعة حسين بالقرار الخاص بعزل منير من جميع مناصبه وأكدوا أنهم دعوا مجلس الشورى واستصدار قرار العزل بشكل لائحي.

وفي السابع عشر من ديسمبر الماضي أعلنت جبهة حسين تشكيل لجنة مؤقتة برئاسة مصطفى طلبة تقوم بمهام المرشد العام للجماعة لمدة ستة أشهر.

أسباب عجلت بانقسام الإخوان

تختلف الأزمة الراهنة بالكلية عن سوابقها من الأزمات التي مرت بها الجماعة في أعقاب سقوط حكمها في مصر عام 2013. ففي كافة الانقسامات التي جرت عقب ذلك التاريخ كانت الأسباب في مجملها مرتبطة بالسياسات والمعتقدات والوسائل اللازمة لتنفيذ السياسات. وهو ما ظهر جليا في الانقسام الذي كان بين ما عرف باسم الجبهة الشبابية وجبهة القيادات التاريخية. والذي أسفر عن ميلاد مجموعة جديدة تحت اسم “المكتب العام لإخوان مصر”. أما الأزمة الراهنة فهي في مجملها صراع على “النفوذ” و”منابع التمويل” ومن يمثل الجماعة ويتحدث باسمها لدى الأنظمة الدولية.

وأسهم في اشتعال تلك الأزمة وتسريع وتيرتها عدة أسباب أولها طموح محمود حسين في الحصول على منصب يمكنه من استمرار سيطرته على مفاصل الجماعة. خاصة بعد القرار الذي اتخذه منير فور توليه منصب القائم بأعمال المرشد بإلغاء منصب الأمين العام. في الوقت الذي يعتبر “حسين” نفسه الوريث الشرعي لمنصب القائم بأعمال المرشد كونه آخر من تبقى من أعضاء مكتب الإرشاد المصري.

ويتمثل ثاني تلك الأسباب في قصور اللائحة الداخلية للجماعة. والذي أسهم في استغلال كل طرف لوجهة نظره. فجبهة منير تتمسك بأن له منصبا بصلاحيات مطلقة باعتباره نائب للمرشد وقائما بأعماله. في حين يتمسك “حسين” بأن منصب منير يقتصر على تسيير الأعمال فقط ولا يمكنه اتخاذ إجراءات تغير مسار الجماعة. وهو ما أدى لتفجير الأوضاع مع حلول موعد الانتخابات الداخلية التي حدد لها منير أن تتم دون المسؤولين الحاليين وتشكيل لجنة بديلة لمكتب الإرشاد.

أما ثالث الأسباب فهو خضوع قرار قيادات الجبهيتن أسيرا لأطراف خارجية. تتمثل في الدول الحليفة والمضيفة لأعضاء وقيادات التنظيم. في ظل المتغيرات الإقليمية الحاصلة وتغير خريطة التحالفات في المنطقة.

تأثير الأزمة على مستقبل الإخوان

توالت تداعيات الأزمة وتأثيراتها على التنظيم سواء على الصعيد الداخلي أو على مستوى علاقاته بحلفائه الدوليين.

وجاءت أبرز التداعيات متمثلة في انقسام رأسي حاد داخل هياكل الإدارة الرئيسية للجماعة التي تمثل النواة الصلبة لقوة التنظيم. حيث يمتلك محمود حسين ومجموعته المعروفة بـ”جبهة إسطنبول” السيطرة على الغالبية العظمى من مجلس شورى الجماعة في الداخل المصري بكتلة تصل 37 صوتا من الأعضاء.

بخلاف سيطرته على اشتراكات الإخوان المصريين الشهرية بخلاف استثمارات التنظيم في تركيا المتمثلة في سلاسل المدارس الإسلامية وإحدى الجامعات الإسلامية هناك وشركات للاستمثار العقاري.

في مقابل ذلك يسيطر إبراهيم منير على جانب ليس بالقليل من استثمارات الجماعة بدول أفريقيا وأوروبا. وسط انحياز عدد من القيادات التاريخية ذات الثقل له مثل محمد البحيري مسؤول الإخوان في أفريقيا والمشرف على استثمارات الجماعة هناك. كذلك محمد عبد المعطي أكبر أعضاء مجلس شورى الجماعة. ويوسف ندا المعروف بوزير خارجيتها. وجميعهم أصدر بيانات داخلية للتنظيم أكدوا دعمهم لمنير. وبدا هذا الانقسام واضحا في تعيين كل جبهة متحدثا إعلاميا باسمها وتقاسم نوافذ الجماعة الإعلامية.

انهيار الثقة في القيادة

لعل من أبرز ما خلفه الانقسام الأخير على التنظيم هو “انهيار ركن الثقة في القيادة”. والذي كان بمثابة أهم نقاط قوة الجماعة لعقود مضت. بعدما تصاعدت الاتهامات بين الجبهات. والتي شملت اتهامات متعلقة بالفساد المالي. واستخدام التمويل كسلاح تارة لاستمالة الأعضاء لجبهة دون أخرى. في ظل الحديث عن بدلات تفرغ لقيادات في تركيا تراوحت بين 5 و15 ألف دولار شهريا.

وتارة أخرى للضغط على الأعضاء لصرفهم عن مواقف معارضة للقرارات. ففي أعقاب تصاعد الخلافات نشرت منصات إعلامية تابعة لجبهة منير دعوات متعلقة بوقف دفع الاشتراكات الشهرية لحين إجراء تحقيقات شفافة في ظل اتهامات الفساد المالي لمجموعة محمود حسين . كما نشرت المنصات ذاتها شهادات بشأن وقف جبهة “حسين” مقررات دعم مالي لأسر السجناء من أعضاء الجماعة داخل مصر للضغط على إبراهيم منير وتصدير الأزمة له لتسليم إدارة الجماعة.

في مقابل ذلك سعى منير لاستمالة مجموعة من القيادات المصريين أصحاب التأثير على شباب التنيظم. والذين كانوا أعلنوا في أوقات سابقة انشقاقهم وتبعيتهم لما يعرف بـ”المكتب العام”. مستغلا تنكيل “حسين” بهؤلاء إبان أزمة سابقة. وجاء البيان الأخير الذي لمجموعة منير حاملا بين سطوره رسائل مستترة. حيث استهله بالترحم على سيد قطب مستشهدا بتفسيره لإحدى آيات القرآن الكريم في كتاب “الظلال”.

هل يلتئم التنظيم مجددا؟

خلال الفترة الأخيرة بحسب مصادر مقربة من الجماعة سعت أطراف دولية ورموز داخل الجماعة في محاولات للوساطة بين الجبهتين المتصارعتين. على أمل تقريب وجهات النظر. إلا أن كافة المحاولات باءت بالفشل. وهو ما يؤكد صعوبة إنهاء الانقسام على الأقل خلال فترة قريبة.

ولعل ما يرسخ ذلك هو امتلاك الجبهتين لأدوات وأوراق قوة تم توضيحها في السطور أعلاه تجعلهما قادرتين على الاستمرار بوضعهما الراهن لفترة طويلة. وهو ما بدا كلا الطرفين فيه بالفعل.

فما أن أعلنت جبهة “حسين” تكليف لجنة بقيادة مصطف طلبة لتولي مهام مرشد الجماعة حتى شرعت في تشكيل لجان وهياكل إدارية جديدة للتنظيم بشكل كامل. والأمر نفسه أقدمت عليه جبهة منير التي تمسكت بنتائج الانتخابات الداخلية والتي جاءت في صالحها منتصف العام الماضي. وهو ما يشير إلى أن الفترة القادمة سنكون أمام ثلاث جماعات كل منها يدعي أحقيته في ارتداء عباءة حسن البنا -مؤسس الجماعة- والتي باتت مهترئة بفعل عوامل التعرية السياسية والتنظيمية. أولها الذي سبق وانشق سريعا تحت اسم المكتب العام لإخوان مصر والثاني “جماعة حسين” والثالث “جماعة منير”.

الأمر الذي ما يدفع باتجاه استمرار الصراع داخل الجماعة أيضا وعدم التئام الانقسام هو ظهور طبقة من القيادات المصرية في الخارج. والذين باتت مصالحهم الشخصية مرتبطة باستمرار حالة الصراع السياسي. سواء الداخلي أو تلك التي بين التنظيم والدولة. ويصفهم شباب الجماعة بـ”أمراء الحرب الجدد”. بعدما حققوا مكاسب مادية ومعنوية كبيرة من الاتجار بـ”القضية”وظلوا على إثرها يتنقلون بين العواصم المخلتفة. بعد توزيع استثمارات الجماعة الجديدة في تركيا وبعض دول أوروبا فيما بينهم.