كثير من القضايا قفزت في وجوه الناس عن هذا الفيلم أو ذاك، ولبس هذه الممثلة أو تلك، وتصريح شارد لمذيع هنا أو هناك، أو صريخ مع رقصة معلمة الدقهلية أو ضدها، وتحولت جميعها إلى قضايا نقاش عام “زائف” لا تعبر عن مشاكل الناس الحقيقية حتى لو تحمس لها بعض الناس.

ورغم أني لم أشاهد فيلم الفنانة مني زكي الذي أثار عاصفة من الجدل، حتى ابتعد عن مناقشة الفيلم ونعود لجوهر القضية، وهي سقف الإبداع وحدوده، وهل هناك قيود على الأعمال الفنية؟ وإذا كانت الإجابة بنعم. فما هي حدودها؟

في الحقيقة، مشكلة نقاش الابداع في مصر إنه يخلط بين العمل الفني أو الإبداعي وبين الدعاية أو “البروباجندا”. فمثلًا لو فيلم تكلم عن الفقر مثلما جرى في فيلم “ريش”، فإن هذا لا يعني أنه مع الفقر أو ضده أو أنه بهذا العمل الفني قادر على حل مشكلته. إنما هو عرض واقع وفق رؤية مخرجه الفنية، أو فيلم تحدث عن المثليين، فإن هذا لا يعني إنه يروج لها، وثالث تكلم عن الخيانة الزوجية، فإن هذا لا يعني أن هذا هو النمط السائد بين الأزواج في مصر.

والحقيقة، أن العمل الفني يجب أن ينظر إليه من زاوية قيمته الفنية أو الجماهيرية؛ لأن معظم الأفلام السينمائية التي أثارت جدل وهجوم واتهامات لم تمتلك أي رسالة تحريضية او آلية لإجبار من يشاهدها على أن يتصرف مثل أبطالها، وأن الخوف من العمل الفني فيه إساءة للفن وللناس على السواء.

صحيح، أن السينما عرفت أفلام دعائية، جعلت البعض يتحدث عن الفن الهادف صاحب الرسالة. وهو نوع من الفن دعمته دول وبلدان مرت بتهديدات وجودية من احتلال أو استعمار أو محن وطنية كبرى، فظهرت السينما الدعائية أو الأعمال الفنية الدعائية التي لا تزال موجودة، ولكن لا يلزم أحد الفنانين على القيام بها حتى في ظل النظم الشمولية.

فكما يرفض البعض نشر “الخبر السيئ” أو يطالب بنشر “الأخبار الإيجابية”، ويعتبر أن نشر خبر حادثة اغتصاب أو زنا محارم أو سرقة أو قتل، أو صور فوضى في مستشفى أو في مدرسة أو قسم شرطة أمر يسيء لسمعة البلد، في حين أن الواقع بدون تزوير لا يسيء لأحد.

العمل الفني أو الإبداعي يجب أن يقيم على أنه عمل فني وارد رفضه ووارد قبوله، ووارد أن يحتفي به النقاد وتلفظه الجماهير والعكس أيضًا، أما نظرية أن مشاهدة فيلم سينمائي ونجاحه سيدفع الناس إلى تبني ما جاء فيه ويتحول الشرفاء إلي لصوص والأزواج المخلصين إلى خائنين، فهذا أمر ليس له علاقة بالفن ولا دوره.

اقرأ أيضًا: ملف من «دام».. «محاكمة العقل البشري: أوراق في الرقابة على الإبداع بمصر»

الحقيقة، أن هناك من لديه أزمة في عرض جانب مظلم من حياة الناس، مثل الذين يمنعون تصوير ما يجري في مستشفى أو مدرسة أو شارع؛ لأنها تعرض سلبيات موجودة في الواقع، ويعاقبون من صورها بدلُا من مواجهة هذه السلبيات.

العمل الفني مهما كانت قصته أو مضمونه يظل عمل فني، وإن عرض نماذج سلبية فهذا لا يعني مطالبة الناس بأن تصبح مثلها، والخوف من عرض السلبي لا يجب أن يثير خوف أغلب الناس؛ لأنهم بالفعل قادرين على التمييز.

فالعمل الفني ليس مثل العمل السياسي، إذ أن جوهر رسالته ليست التعبئة، فأحد جوانب العمل السياسي هي الترويج لبرنامج حزبي أو لمشروع رئيس، أو لمرشح برلماني، ويدخل في تنافس مع برامج أخرى يختار بينها الناس. كما لا يزال يوجد إعلام البروباجاندا أو الإعلام الموجه واللجان الإلكترونية، التي تحاول جميعها أن توجه الشعب وتأثر عليه، وحتى هذه الوسائل تراجع تأثيرها لأن أغلب الناس تبحث عن المصداقية أو على الأقل الحياد في عرض الوقائع، ويترك لهم الحرية في اختيارها.

العمل الفني للمتعة أو للترفيه أو للنقد أو للقبول، ولكنه ليس دوره أن يربي الناس أو يثقفهم أو يوعيهم. فهو أمر يخص الدولة والنظام السياسي والمؤسسات التعليمية والثقافية، وأن على الناس أن تثق في قدراتها، وأن تعتبر أن هناك أفلام تطرح أفكار متحررة. ولا مانع من عمل أفلام أخرى محافظة أو دينية؛ ففي عالم الفن والإبداع الاختيارات متاحة للجميع.

ويبقي السؤال إذا كان دور الفن أن يقدم الواقع بسلبياته وإيجابيته وفق رؤية المخرج الفنية، فهل هذا يعني أن الإبداع في بلادنا بلا سقف أو حدود؟ يقينا في كل مجتمع هناك منظومة قيم عامة مستمدة من الدستور والقانون، تراعيها معظم الأعمال الفنية، حتى لو تمرد عليها البعض، ففي أوروبا مثلًا يمكن المساس بالذات الإلهية والسخرية من الأديان، وهو أمر مجرم في مجتمعاتنا، ومرفوض من قبل الرأي العام، كما أن في الأفلام الإيرانية غير مسموح فيها بالقبلات، وليس فقط المشاهد الجنسية، احترامًا للنظام العام في البلاد. وهو أمر لم يمنع حصول كثير من هذه الأفلام على جوائز عالمية كبرى.

هذه الحدود ليس لها علاقة بمقولة “نشر الإيجابيات”، وكأن مجتمعاتنا أصبح يعيش فيها ملائكة، ولا توجد فيها سلبيات وأزمات ومصائب تستدعي من الفنانين تقديم رؤيتهم الفنية لهذه المشاكل، وإن حديثهم عن الإيجابيات لن يلغي السلبيات، التي تبقي مهمة الدولة مواجهتها وليس العمل الفني.