التغير سُنّة الحياة وقانونها الرّاسخ، يحيط بك وبكل ما حولك، تجده في هيئتك التي تتغير مع الوقت، وفي أفكارك التي تدوِّنها على حسابك في “فيسبوك”، ثم تظهر لك بعد عام كامل لتقترح عليك إعادة نشر كلماتك التي شاركتها في مثل هذا اليوم من العام الماضي أو من الأعوام السابقة. وهذه الخاصية تشبه المرآة؛ إذ تتيح لك التفكير في قناعاتك والتأمل فيها، وقد تستغرب من نفسك هذا الرأي أو ذاك، وتتساءل مستنكرًا: كيف دونته؟ أو كيف كنت أفكر بهذه السطحية؟

والحقيقة التي لا شك فيها أنك تَغيّرت، وأنّ نهر الحياة يجري ماؤه دون توقف، وهذا ما يحدث لك كل يوم بل كل لحظة، وهو أيضًا ما كان يحدث للأجيال التي سبقتنا، دون أن تتوفّر لهم مثل هذه الفرصة في مطالعة اليوميات القديمة، والتأمل في الطريقة التي كانوا يفكرون بها.

يمتاز عصرنا عن غيره بتغيره السريع وقدرته على تجسيد التغير أمام أعيننا، وما كان ذلك ليحدث لولا ثورة المعلومات، والعالم المُرَقْمن المتصل، وما لا يُحصى من البرامج التي تجمع المعلومات عن الأفراد والهيئات والمجتمعات، وترصد الميول والتوجهات وتحولها إلى اقتصاد وسياسة، فتقدم لك- دائمًا- الجديد والمثير الذي يناسبك، وقد تسبقك بخطوة؛ فتخلق فيك الحافز إلى جديدها، وتؤهلك إلى تقبله والتفاعل معه..!

وأنت بالتأكيد تعرف أن هذه التقنيات لم تجتذب الشباب وحدهم، وإنما اجتذبت إلى فضائها اللامع الرائع كلّ الأجيال، وبات الجميع يتفاعل مع الجميع ببساطة، دون ترتيب قيميّ، أو نسق هرميّ على نحو ما كان قبل وسائل التواصل..!

وعلى سبيل المثال، يمكنني هنا أن أدوِّن على “فيسبوك” كلامًا حول “الهرمينوطيقا”، ويمكن لأي إنسان أن يُسجِّل رأيه في هذا الكلام الذي سيبدو بالتأكيد كلامًا غامضًا بالنسبة لغير المختصين، ومن حق بائع الفاكهة الذي يحرص على متابعتي أن يسألني جادًا أو ساخرًا: ما فائدة هذا الكلام؟ وهل يوفّر للبشرية شيئًا ضروريًا؟!

سوف أرتكب خطأ كبيرًا إذا تعاليتُ على هذا السؤال، لا يمكنني أن أهرب من سؤال بائع الفاكهة، ويجب عليّ أن أتقبل انتقاداته، وقد أفكِّر في اعتراضه الساخر على نحو جاد، وأطرح السؤال على نفسي: ما فائدة الهرمينوطيقا بالفعل؟ وماذا قد يخسر العالم إن غاب عنه رجل هرمينوطيقي؟ وقد أفكر بطريقة مغايرة، فأقول لنفسي: لماذا لا يحرص الكتاب الكلاسيكيون من أمثالي على مخاطبة الناس بطريقة أسهل؟ لماذا لا يفكرون بجدية في طبيعة المادة التي يضعونها على “فيسبوك“، هناك موضوعات رائجة يحتاج الناس إلى الكلام والنقاش حولها.. الناس اليوم يفكرون بطريقة عملية، فتراهم يتعجلون دائمًا الخلاصة ويسألون عن الجدوى؛ إنهم لا يفكرون لوجه التفكير، وإنما يفكرون من أجل “التغيير”. التغير كلمة معاصرة شديدة الجاذبية في ذاتها، نريد أن نغيّر ونتغيّر، وكثيرًا ما يكون التغيير مطلبًا في ذاته..!

أنا كاتب “بوست”  Post writer

للدكتور جلال أحمد أمين كتاب شهير، عنوانه: “عصر الجماهير الغفيرة”. كان ذلك في أوائل الألفية الجديدة (2002م)، وقد لمس فيه فكرة مهمة، تتصل بقدرة التكنولوجيا على إتاحة الفرصة لجماهير الناس كي يتمتعوا بأطايب الحياة، وهذا -في رأيه- أهم مكسب حققته البشرية في القرن العشرين أو بالأحرى في ثلثه الأخير.. لم يعد العصر إذن عصر نخب أرستقراطية وإنما بات عصر الجماهير الغفيرة، ولو كان الدكتور جلال أمين بيننا اليوم لأضاف إلى كتابه ظاهرة الجماهير الغفيرة غير المنسجمة التي بات الكاتب اليوم مضطرًا إلى مخاطبتها؛ إنه لم يعد يملك رفاهية الكتابة إلى نخبة يمكن توقع “أفق استجابتها” كتلك الشريحة من القراء التي كان يخاطبها كاتب المقال في جريدة مثل الأهرام..!

لم يعد القرّاء نخبة متخيلة يتوجه إليها الكاتب، وإنما أصبحوا خليطًا متنوعًا إلى أقصى حد، وصار على الكاتب أن يراعي هذه التركيبة التي قد تجمع بين أستاذ الجامعة وبائع الفاكهة في سلة واحدة؛ لقد تمكّن الجميع من الكتابة ومن الكلام، وصار بمقدور أي قارئ أن يُعلّق وقد يضيف إلى المكتوب، وقد يعترض عليه، وقد يسخر منه..!

وهذا يعني أننا إزاء نص تفاعليّ، يلتقي عليه الكاتب والقارئ، وأن هذا النص له سمات تختلف كثيرًا عن خصائص المقال، فالبوست أو التدوينة ليس مقالًا صغيرًا، وحسابك على فيسبوك أو غيره ليس صفحة في جريدة.. فما خصائص هذه الكتابة؟

لنتذكر أن المطبعة جاءت بالصحف الورقية، وأن الصحف الورقية جاءت بفن المقال؛ فالعالم قبل الصحف لم يكن يعرف المقال الحديث الذي تعرفه ببنائه الثلاثي: المقدمة والموضوع والنتيجة، لقد كان المقال مناسبًا للحياة في المدينة، الحياة السريعة (تمتاز المدن بسرعة الإيقاع مقارنة بالريف مثلا، والسرعة هنا مفهوم نسبي طبعًا)، ولكن العالم اليوم يوشك أن يتخلى عن الجرائد الورقية والمقالات المطوّلة التي تناول الظواهر والأخبار والأحداث بالتحليل والتفسير، والسبب هو ثورة التواصل غير المسبوقة؛ فالشبكات الألكترونية تقوم الآن بالدور الذي كانت تقوم به المطبعة بالنسبة للجرائد وغيرها من المنشورات المختلفة، ومن ثم فقد أوجدت أشكالًا من الكتابة لم يعرفها العالم من قبل، كالبوست والتويتة والكوميك.. إلخ.

الـ”هشتاج” Hashtag = #

لقد استبدلت هذه المواقع الـ”هشتاج” بالعناوين المثيرة التي كانت تتصدر كبريات الصحف الورقية كالأهرام والأخبار وغيرهما. وبات الهشتاج أكبر من مجرد اقتراح يُروّج للمعلومات، إنه ثقافة عالمية شديدة التأثير، ويمكنك-مثلًا- أن تعرف الأكثر تداولًا الآن، في وطنك أو لغتك وفي غيرها من اللغات والثقافات، كما يمكنك أن تتابع ما يدوّن تحت كل “هشتاج” من أخبار وصور وفيديوهات..الخ.

ولا أريد هنا أن ننشغل بما يتردد حول وجود جهات تقف وراء بعض الـ”هشتاجات” ذات الطابع السياسيّ أو الاقتصاديّ، فهذا قد لا يحتاج إلى تأكيد، ولكنه لن يغير من الحقيقة التي نتعامل معها يوميًا، وهي أن الـ”هشتاج” بات هو العنوان المؤثر على تصوراتنا وأفكارنا، وخاصة حين يغدو “تريند”، ولن يكون كذلك إلا بالتفاعل الموسّع معه اعتراضًا أو تأييدًا، وهذا التفاعل الحيّ بُعْد لم تعرفه ثقافة العنونة في الصُّحف. الـ”هشتاج” يشعر الناس بأهميتهم وقيمة رأيهم، مهما كان حظهم من الثقافة أو الوعي.

والـ”هشتاجات” كثيرة ومتنوعة ويمكن أن تكون يومية، ولذا فهي سريعة ومباشرة ومكثفة، وقد يُبنى “الهشتاج” من كلمة واحدة، أو كلمتين؛ ضمانًا لسرعة التداول وسهولة الانتشار والتأثير، ومن ثم الإلحاح على التفاعل، ولا يكون الـ”هشتاج” كذلك إلا إذا شُحِن بقدر كبير من العاطفة أو الانفعال الذي يستنفر المشاعر الدينية أو الإنسانية أو الوطنية.. ولأن الـ”هشتاج” كذلك، ولأنه مختزل وكثيف فقد يُلبي المغردون الدعوة ويدوِّنون حولها دون أن يبحثوا في الموضوع بما يكفي؛ إنهم منجذبون إلى بريق الـ”هشتاج” بحكم ما فيه من العاطفة، والدعوة إلى التدوين تحته.

لقد ألغت ثقافة الـ”هشتاج” والتريند الجزء الأول والثاني من بنية المقالة (أي المقدمة والموضوع)، واكتفت بالجزء الثالث والأخير منها، أي اكتفت بالنتيجة، وهذا أمر مفهوم تمامًا؛ فالتدوين حول الـ”هشتاج” هو تدوين حول موضوع معروف مسبقًا لكلا الطرفين: المدون والمتلقي، ومن ثم تغدو المقدمة وعرض الموضوع عبئًا على البوست أو التدوينة، لا يمكنك أن تعيد على الناس ما يعرفونه، وهذا الذي يعرفونه ليس هينًا؛ إنهم يعرفون الموضوع نفسه، والذي عليك أو ما يُنتظر منك ليس أن تشرح وإنما أن تأخذ موقفًا وتُدلّل عليه لمتابعيك.

يجب أن تفعل ذلك بقدر ما تستطيع من الوضوح والمباشرة، وبلغة سهلة، ولا مانع -إذا أحببت- أن تدوّن بالفصحى أو بالعامية أو أن تمزج بينهما؛ فالأمر كله يعود إليك وإلى الذين يتابعونك عبر هذا الحساب أو ذاك، وقدرتك على التناغم مع “أفق انتظارهم” أو توقعهم.

وهذا يعني أننا إزاء مرونة غير مسبوقة في الكتابة والتدوين، وكما اختصر البوستُ المقالةَ واكتفي بالجزء الأخير منها، فقد ألغى ما كانت تعرفه الجرائد بسياسية التحرير، أو “توجه الجريدة” التي قد تكون سببًا لرفض هذا المقال أو ذاك حين لا يتناسب معها.. فهنا، أي مع البوست لا توجد سياسة أو قواعد يخضع لها المدوّن سوى القواعد العامة التي يضعها هذا الموقع أو ذاك، وهي قواعد ذات طبيعة عالمية، وذات نزعة حقوقية واضحة.

وكما غابت فكرة سياسة التحرير، فبالتأكيد لا توجد أيضًا هيئة تحريرية: من رئيس ومدير للتحرير ومساعدين لهما؛ فمع عالم التدوين أنت من يحدد اللغة التي تكتب بها، وأنت من يُقرِّر الوقت الذي يمكنك فيه مشاركة التدوينة على صفحتك في الليل أو في النهار، وبالتأكيد يمكنك أن تعود إليها بالحذف والتعديل مرارًا وتكرارًا (هذه الخاصية متاحة على فيس بوك وغير متاحة على تويتر)، وقد تُقرّر لسبب أو آخر حذف التدوينة وكأنها لم تكن.

وهنا، يمكننا أن نقول: إن لدينا اليوم كُتّابًا لفن الــ”بوست” Post writers تعرفهم وسائل التواصل بـ”بروفايلاتهم” كما كنا نعرف كتاب المقالات سابقًا، ومن الضروريّ أن يكون هذا الفن جزءًا من مقررات الدرس في الأقسام المعنية في كليات الآداب والإعلام، يتناولون فيه مضمونه وبنيته وبلاغته الجديدة..!