يوافق 4 فبراير من كل عام “اليوم الدولي للأخوة الإنسانية”، الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة، ضمن مبادرة قدمتها كل من الإمارات والبحرين ومصر والسعودية، للاحتفال بهذا اليوم سنويًا، ابتداءً من العام الماضي 2021. ذلك للتأكيد على المساهمات القيمة للشعوب من جميع الأديان والمعتقدات للإنسانية، وعلى دور التعليم في تعزيز التسامح والقضاء على التمييز القائم على أساس الدين أو المعتقد. وأشاد القرار الصادر في هذا الشأن بجميع المبادرات الدولية والإقليمية والوطنية والمحلية والجهود التي يبذلها القادة الدينيون لتعزيز الحوار بين الأديان والثقافات.
استندت مبادرة الدول العربية الأربع إلى “وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك”، والتي وقعها الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، وقداسة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية، بتاريخ 4 فبراير 2019 في أبوظبي، وتضمنت عددًا من القيم والمباديء التي روج لها باعتبارها بمثابة دستور عالمي للإنسانية.
بطبيعة الحال، أي جهود تصب في نشر ثقافة قبول التعددية الدينية والتعايش على أساس أن المساواة والعدالة والحرية حقوق أساسية لكل إنسان غير قابلة للانتقاص، هى جهود مهمة ومطلوبة، لكن الوقوف عند نفس النقطة وتكرار نفس الشعارات فقط وتسويقها واستخدامها سياسيًا بدون أي جهود حقيقة للوقوف على الأسباب الحقيقة لأزمات التطرف والعنف والتمييز الديني المستشرى عالميًا، ومن ثم تقديم خطاب ديني بديل يفرغ هذه الجهود من مضمونها، يجعل هذا الخطاب أقرب لبروناجندا إعلامية، تأثيرها محدود ووقتي، لا يترتب عليه تغيير حقيقي.
بعد مرور ثلاث سنوات على توقيع الوثيقة، وبمناسبة اليوم الدولي للأخوة الإنسانية، نجد الوقت مناسب جدا لتقيم الآثار المرتبطة على الوثيقة، لاسيما في ظل التساؤلات المثارة بشأن الطريقة التي صدرت بها الوثيقة، والمسؤولين عنها، وكذا القضايا والموضوعات التي تضمنتها، وجهود اللجنة العليا للأخوة الإنسانية التي يتولى أمانتها المستشار محمد عبد السلام مستشار شيخ الأزهر الأسبق.
أولى هذه الملاحظات بشأن أطراف هذه الوثيقة، فقد صيغ المشهد وقتها وكأن قادة أكبر ديانتين منتشرين في العالم ولهما أتباع (الإمام ممثلا للعالم السني وبابا الفاتيكان ممثل للعالم المسيحي) ينتفقان على وثيقة مبادئ عامة، ويقدماها “هدية” لشعوب العالم. هذا المشهد يضفي ملامح سياسية على الوثيقة أكبر منها دينية، خصوصًا في ظل إقصاء ممثلي الديانات والمعتقدات الأخرى في العالم. وبطبيعة الحال في المنطقة العربية، التي في حاجة لعقد اجتماعات معها على المستويين المحلي والإقليمي، وإصدار وثائق حقيقة بشأنها غير مرتبطة باستحقاقات أو ظروف سياسية معينة. وعندما نقارن هذا المشهد بمشهد آخر محلي من تونس، لكنه أكثر تعبيرًا، حيت وقع منذ عدة أيام ممثلون عن المكونات الدينية المختلفة ميثاق التعايش المشترك بين الأديان، وكان من بين الموقعين: دانيال كوهين حاخام الكنيس اليهودي، القسّ كمال أولاد فاطمة ممثل عن الكنيسة الإنجيلية، حسن بو عبد الله رئيس اتحاد الطرق الصوفية، الشيخ أحمد بن سلمان ممثل مركز أل البيت بتونس، محمد بن موسى ومحمد رضا بالحسين ممثلا البهائيين في تونس.
تناولت وثيقة الأخوة الإنسانية عددًا من القضايا من أبرزها:
– الحرية حق لكل إنسان: اعتقادًا وفكرا وتعبيرا وممارسة، وأن التعددية والاختلاف فى الدين واللون والجنس والعرق واللغة حكمة لمشيئة إلهية، قد خلق الله البشر عليها، وجعلها أصلا ثابتا تتفرع عنه حقوق حرية الاعتقاد، وحرية الاختلاف، وتجريم إكراه الناس على دين بعينه أو ثقافة محددة، أو فرض أسلوب حضارى لا يقبله الآخر.
– إن الحوار والتفاهم ونشر ثقافة التسامح وقبول الآخر والتعايش بين الناس، من شأنه أن يسهم فى احتواء كثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية التى تحاصر جزءًا كبيرًا من البشر.
– حماية دور العبادة، من معابد وكنائس ومساجد، واجب تكفله كل الأديان والقيم الإنسانية والمواثيق والأعراف الدولية، وكل محاولة للتعرض لدور العبادة، واستهدافها بالاعتداء أو التفجير أو التهديم، هي خروج صريح عن تعاليم الأديان، وانتهاك واضح للقوانين الدولية.
– إن الإرهاب الذى يهدد أمن الناس، سواء فى الشرق أو الغرب، وفى الشمال والجنوب، ليس نتاجا للدين -حتى وإن رفع الإرهابيون لافتاته ولبسوا شاراته- بل هو نتيجة لتراكمات الفهوم الخاطئة لنصوص الأديان وسياسات الجوع والفقر والظلم والبطش والتعالي.
– مفهوم المواطنة يقوم على المساواة فى الواجبات والحقوق التي ينعم فى ظلالها الجميع بالعدل؛ لذا يجب العمل على ترسيخ مفهوم المواطنة الكاملة فى مجتمعاتنا، والتخلي عن الاستخدام الإقصائي لمصطلح “الأقليات” الذي يحمل في طياته الإحساس بالعزلة والدونية.
– التأكيد على ضرورة الانتباه للفوارق الدينية والثقافية والتاريخية التي تدخل عنصرا أساسيا فى تكوين شخصية الإنسان الشرقي، وثقافته وحضارته.
– الاعتراف بحق المرأة في التعليم والعمل وممارسة حقوقها السياسية هو ضرورة ملحة، وكذلك وجوب العمل على تحريرها من الضغوط التاريخية والاجتماعية المنافية لثوابت عقيدتها وكرامتها، ويجب حمايتها أيضا من الاستغلال الجنسى ومن معاملتها كسلعة أو كأداة للتمتع والتربح.
بالرغم من النقاط الإيجابية بالوثيقة والمبادئ التي تضمنتها ومكانة القيادات الدينية التي وقعتها، والرسالة التي قدمتها لشعوب العالم، لكن اتسمت الوثيقة بالعمومية، بدون مواقف واضحة وقاطعة، وهي إعادة تدوير لتصريحات قديمة قد تجاوزها الزمن، لذا جاءت أقرب لوثيقة دفاعية، هدفها محاولة إبراء ذمة الأديان من المسؤولية عن الإرهاب والتطرف وانتهاك حقوق النساء.
لا يمكن الاستمرار في ترديد نغمة أن التيارات والجماعات الإرهابية تستخدم الفهم الخاطيء للنصوص الدينية فقط دون أن تقدم المؤسسات الدينية الكبرى قراءة جديدة نقدية للتراث الديني المستخدم في تبرير العنف، قراءة واضحة لا لبس فيها للنص الديني، ترد على ما تستند إليه الجماعات الإرهابية والمتطرفة، وما تتضمنه من تقديم رؤية جديدة للآخر الديني وحقوقه.
في الوقت الذي تؤكد فيه الوثيقة على أن الحرية حق لكل إنسان: اعتقادا وفكرا وتعبيرا وممارسة، نجد أن مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر يصدر تقريرا بناءً على طلب الحكومة يفيد بعدم جواز تخصيص قطعة أرض لدفن الموتى ممن يحملون علامة الشرطة (البهائيون)؛ لأن ذلك “يؤدي إلى التمييز والمزيد من التفرقة والانقسام وتمزيق نسيج المجتمع الواحد”.
نقطة أخرى أود التعليق عليها، وهي أنه لا تعارض بين حقوق المواطنة وحقوق الأقليات، فهناك إعلان من الأمم المتحدة بشأن المنتمين إلى أقليات إثنية ودينية وعرقية وخلافه، ويتضمن عددا من الحقوق المرتبطة بالحماية من التمييز، وحماية الهوية، والمشاركة الفعالة في صنع القرار.
وبالتالي، نقد المصطلح بالرغم من استخدامه في بعض دساتير دول المنطقة، هو تكريس للمقولات المغلوطة التي تستخدم، مثل أن الأقليات لهم ميول انفصالية أو يريدون امتيازات خاصة لهم أو أن منحهم حقوقهم هو تمييز ضد الأكثرية، ذلك من أجل استمرار معاناة هذه الأقليات، والتهرب من مراجعة البنية الفكرية والثقافية التي وفرت حواضن لتنظيمات إرهابية مثل تنظيم دولة الخلافة في العراق والشام “داعش” الذي ارتكب جرائم الإبادة الجماعية ضد الأيزيديين وغيرهم من الأقليات الدينية في العراق.
كما أن تعليم المرأة وعملها والمشاركة السياسية لها لم تعد مجالا للنقاش، هى حقوق أقرت بمواثيق دولية ودساتير دول العالم، وما تحتاجه المرأة فعليا هو المساواة الكاملة في الحقوق، أن تمارسها حريتها كما تريد وليس كما يحدد رجال الدين، هي حقوق ليست منحة من جهة رسمية كانت أو دينية.
إذا كان القائمون على الوثيقة يريدون لها أن تتحول من إعلان مشترك عن نوايا إلى دليل للأجيال القادمة، كما جاء في ديباجتها، فعليهم أن يبدأو بالمصارحة وإظهار المسؤولية المشتركة في نقد أدوار المؤسسات الدينية التي لعبتها وتلعبها في سياق انتهاك الحريات والعدوان على الحقوق وتبرير الظلم والكراهية والعنف، عليهم أن يدركوا حجم الجهود المهولة التي يحتاجها إصلاح ما أسموه “الفهوم الخاطئة للنصوص الدينية”، وهي جهود ليست مبنية على الشعارات أو العبارات الرنانة، لكنها جهود مبنية على أنشطة قائمة على الأرض، منفتحة للتعامل مع المجموعات الدينية المهمشة وغير المعترف جنبًا إلى جنب مع الديانات الكبرى، والاعتراف بحق كل إنسان في حرية الدين اختيارًا وإعلانًا وممارسة وتنظيمًا.
حين تكف مؤسسة الأزهر وشيوخها عن التحريض ضد الشيعة والبهائيين وتقر بحقوقهم المدنية والدينية، وحين تكف الكنيسة الأرثوذكسية عن التحريض ضد الطوائف الأقل عددًا ولا تتهمهم بالهرطقة، عندها فقط نقول أن بوادر تغيير قادمة لترسيخ قيم الأخوة الإنسانية.