بات قارئ رواية “إفلات الأصابع” يميل إلى أن هناك أكثر من راو، هناك على الأقل ترجيح أن الجزء المعنون “الإذن” لا يرويه لا سيف، ولا أحمد الذي كان أول شخصية نتعرف عليها، مع جملتها الافتتاحية “ناداه اللحم الحلو..”، وكنا تركناه وقد “شم رائحة الموت، وتساءل ماذا سيقول للحشد اليومي من طلاب النصيحة؟”، الآن بات أحمد وحيدا، لكنه كان “أمل” سكان وهدة، هم “لم يتأخروا، صحبوه إلى دفنها (أمه) وانتظروا أياما قليلة ثم جاؤوا على استحياء.. يستشيروه أو يستشيروا أباه إن كان على تواصل معه، في أمر هام لا غير، وعندها فقط عرف بعودة سالم من غربته الأوروبية”.

*********

ربما هذه المرة إذ تُذكر “وهدة” سيتمكن الفضول من القارئ فيبحث عنها بين قرى مصر، وإذ تفشل الأدوات المتاحة له سيكون مستعدا لتقبل أن الروائي محمد خير قد استعار الاسم من قرية “الوهدة”، ففي أحد المنتديات (مُنْتَدَىٰ أو مُلْتَقىٰ هو موقع على الإنترنت يجمع الأشخاص من ذوي الاهتمامات المشتركة ليتبادلوا الأفكار والنقاش) يقع على الاسم ضمن موضوع يحمل هذا العنوان “نبذة بسيطة عن قرية الوهدة- إحدى قرى بني بشير”، وقبل أن يسترسل في القراءة لأبد أنه تساءل: أين بني بشير هذه؟ وتأتيه ثلاث إجابات: بني بشير هي إجماعة قروية في دائرة تارجيست التابعة لإقليم الحسيمة في المملكة المغربية، بني بشير هي إحدى قرى عزلة جشم بمديرية همدان التابعة لمحافظة صنعاء، قبيلة بني بشير توجد في منطقة الباحة في الجنوب الغربي من المملكة العربية السعودية على جبال الحجاز، ويحدها من الشمال والغرب منطقة مكة المكرمة ومن الجنوب والشرق منطقة عسير.

أي إرباك هذا؟، يقول القارئ، ما لي وبني بشير، قصدى هو “وهدة”، وبعد بحث وتدقيق يستقر على أنه لا “وهدة” إلا “الوهدة” الحجازية، فيعود إلى المنتدي ليقرأ: “يسكن قرية الوهدة أكثر من 1600 نسمة”، فيتذكر ما حيره وتركه دون حل في “لم ينظروا وراءهم”، هناك كان الراوي (مؤكدا هو سيف) قد أفرط في تدقيق عدد سكان القرية (صاروا 419)، وحينها استغرب العدد القليل، وردد في نفسه: أصغر القرى المصرية تعداد سكانها يتجاوز عشرات الآلاف، وكانت حيرته نابعة من محاولة البحث عن معنى “خفي/ مضمر” وراء الأرقام: البيوت، والأحياء، والموتي.

وإذ ينتهي من التذكر ينتبه إلى ما وصل إليه، فيفكر: ربما كانت هناك “وهدة” في مصر ولم أصل إليها، أما إذا لم توجد، أبدا، فهناك احتمالان: الأول، أن الروائي استعمل الاسم لدلالاته اللغوية، حيث أن الوَهْدَةُ هي: الأرضُ المُنْخَفِضَةُ، والمكان المطمئِنّ، وهو ما يتناقض تماما مع المصير الذي يذهب إليه ساكنوها، الثاني، أن الروائي وقع على الوهدة ولف وراء بني بشير، فوجدهم من المحيط إلى الخليج، وبهذا كأنه يذهب إلى أن “المصير المشترك” واقع.

طبعا لن يفوت القارئ ملاحظة عابرة جاءت في تعليقات المشاركين في منتديات “زهران، أحفاد الصحابة والملوك”، حيث ذكر مشارك أن “قرية الوهدة (الحجازية/ المملكة العربية السعودية) لها تاريخ حافل قديما وحديثا ويكفيهم فخرا العقيد متقاعد الشيخ /حلسان بن محمد أبو ملانة، وهو السعودي الوحيد الذي حصل على وسام الشجاعة أيام حرب 67 من الرئيس المصري السادات”. ويصحح له مشارك آخر، فيذكر أن “الوسام الذى تقلده أبو محمد هو قبل 67 ومن الرئس المصرى محمد نجيب وسلم له عن طريق الملك عبد العزيز فى مدينة جدة”.

لوحة "اعتقال لويز"، مايو 1871، للفنان الفرنسي، السويسري الأصل، جوليه جيرارديه (1856- 1938)، وهي ضمن مقتنيات متحف سان دوني للفنون والتاريخ، فرنسا. ولويز ميشيل (1830- 1905)، التي أطلق بانكسي اسمها على سفينته: معلمة وشاعرة وشخصية هامة في كومونة باريس 1871، وبرزت بوصفها أناركية (تترجم أحيانا "فوضوية"، والأصح لا سلطوية)
لوحة “اعتقال لويز”، مايو 1871، للفنان الفرنسي، السويسري الأصل، جوليه جيرارديه (1856- 1938)، وهي ضمن مقتنيات متحف سان دوني للفنون والتاريخ، فرنسا. ولويز ميشيل (1830- 1905)، التي أطلق بانكسي اسمها على سفينته: معلمة وشاعرة وشخصية هامة في كومونة باريس 1871، وبرزت بوصفها أناركية (تترجم أحيانا “فوضوية”، والأصح لا سلطوية)

أهل وهدة “في أحد الاحتمالات تلك” ذهبوا إلى أحمد يستشيروه أو يستشيروا أباه (الميت) إن كان على تواصل معه، “وقالوا له إنهم عزموا على الرحيل جميعًا، وجميعًا أي جميعًا بمعنى الكلمة، لكنهم يريدون الرأي الأخير”. و”أغلق (أحمد) الباب على نفسه مرة أخرى لكن الجدران سكتت ولم تبح بشيء”. خرج مرة في الليل…وفي مرة ثانية قابل مسافرًا… وسأله الرجل عن سهره بالخارج فقال إنه يتمنى أن يرى أباه، فسأله الرجل ولم لا تذهب إلى جدار الرؤيا في الصعيد، قالها ببساطة كأنه يحكي عن الكعبة أو الأهرامات.

أو هذه، وهي حرف عطف، لا تفيد، هنا، إلا معنى التَّسوية في حكم بين المتعاطفَيْن، فما هي السمة التي تسوي بين الكعبة والأهرامات؟

الشهرة، ربما، مكان مقدس، شعائري الطابع، ربما. ربما هذه لا تفضي إلى الحيرة، بل تحيل إلى معنى ظاهر، فجدار الرؤيا في الصعيد يؤدي بالنسبة للذين يلجأون إليه نفس الوظيفة الاجتماعية/ النفسية التي لعبها سابقيه، هكذا قد يظن القارئ، وهو ظن له وجاهته.

*********

“ذهب أحمد..وبات يومين بلا جدوى..وعاد إلى “وهدة” بلا أمل..وحين زاروه في المساء لم يستطع أن يردهم، استقبلهم ونظر في الأرض لكنه وجد نفسه يقول: رأيت أبي يمشي على الماء ضحوكا ورأيتنا نتبعه. وهتف أحدهم: الله أكبر”.

“غادروا فغادر معهم نحو البحر، وتوقف قليلًا قبل المغادرة يساعد شابين انتزعا لافتة العنوان وطمراها في التراب”.

مع نهاية الجملة الأخيرة لابد للقارئ أن يستعيد الأسئلة التي حاول الإجابة عليها حين فكر في “لم ينظروا وراءهم”، وما خمنه وقتها، وهو إذ بحث عن “وهدة” وقلب الاحتمالات يغتبط لحدسه الأول.

وها هو “وطن صغير يركب البحر، ومن مكانه لاحظ (أحمد) أنهم لم يلتفتوا وراءهم. ولم يعد إلى القرية المهجورة، عاد إلى بعيد، إلى الجبل الصعيدي وإلى الجدار المرتفع.

***********

هناك ثلاث ملاحظات ضرورية عن “وطن صغير يركب البحر”، الأولى سريعة: سالم ابن الحاج أشرف الذي أغرى “وهدة” بالرحيل، نموذج مغاير تماما لأبطال الروايات الثلاث: عصفور من الشرق، الحي اللاتيني، موسم الهجرة إلى الشمال، ومغاير أيضا لبحر كامل، فموسمه الأوروبي/ الشمالي كان من أجل “لقمة العيش”، وموسم “وطن صغير” أبدي، بلا عودة.

الثانية متعلقة بحوادث الغرق الناتجة عن فساد وترهل ولامبالة الدولة المصرية، بجميع أجهزتها ومؤسساتها، وكمثال فإن القارئ لا يفوته أن صاحب العبارة “سالم إكسبريس”؛ التي راح ضحية غرقها قبالة سواحل سفاجا، 476 من ركابها، بينما كانت قادمة من ميناء جدة (السعودي) في 15 ديسمبر 1991 في طريقها إلى ميناء سفاجا البحري، كان يلقب بـ “الحاج سالم”، وربما خطر بالبال تشابه “جدة” و”وهدة”، وتقارب عدد الضحايا من عدد الراحلين، فلربما كان الضحايا المصريين بالفعل 419، والباقين من غير المصريين. ولا حاجة لتذكر غرق “السلام 98” في فبراير 2006، على الرغم من أن الضحايا أكبر، والجريمة أشنع، والمقصود، طبعا، جريمة الدولة، وليس، فقط، جريمة ممدوح إسماعيل مالك العبارة.

إحدى ثلاث لوحات لبانكسي بيعت في مزاد في لندن بـ 2.2 مليون جنيه إسترليني (2.9 مليون دولار)، يوليو 2020، لمساعدة مستشفى جمعية بيت لحم العربية للتأهيل في فلسطين. وتمثل اللوحات مشهدا مكملا لبعضه البعض للبحر المتوسط تنتشر وسط أمواجه سترات نجاة للاجئين
إحدى ثلاث لوحات لبانكسي بيعت في مزاد في لندن بـ 2.2 مليون جنيه إسترليني (2.9 مليون دولار)، يوليو 2020، لمساعدة مستشفى جمعية بيت لحم العربية للتأهيل في فلسطين. وتمثل اللوحات مشهدا مكملا لبعضه البعض للبحر المتوسط تنتشر وسط أمواجه سترات نجاة للاجئين

الثالثة، هي: بحرنا

في خبر بثته وكالة الأنباء الكويتية (كونا) يوم 10 أبريل 2014، نقرأ هذا العنوان “قائد البحرية الإيطالية..عملية (بحرنا) أنقذت آلاف المهاجرين من الغرق”. وفي تفاصيله نقرأ: “عملية “بحرنا” التي تقودها البحرية الإيطالية في عرض المتوسط قامت بملاحقة المراكب الرئيسية التي تنطلق من السواحل المصرية لتترك المهاجرين قبالة السواحل الإيطالية…الوحدات المشتركة في العملية الأكبر من نوعها تمكنت من اعتراض ثمانية سفن شحن مشبوهة ومصادرة اثنتين من السفن والقبض على 66 من البحارة الضالعين في عمليات التهريب وكلهم مصريون مع تفكيك مجموعة من القواعد اللوجيستية في صقلية مما أدى إلى انقطاع تدفق المتسللين من مصر.

في 16 مايو من نفس العام ذكرت مصادر عسكرية إيطالية، أن قوات مكافحة الاتجار بالبشر التابعة لسلاح البحرية الإيطالية المعنية بمهام عملية (بحرنا) الإنسانية العسكرية، اعتقلت فى باليرمو بجزيرة صقلية اثنين من المهربين مصريى الجنسية، كانا بين المهاجرين الذين أنقذتهم سفينة الدورية (سيريوس) فى الثانى من مايو. وأن “التحقيقات الأولية كشفت عن أن المسئولين عن هذه المأساة قاموا بتعطيل القارب الذى كان يحمل على متنه أكثر من مائتى مهاجر، مما أدى إلى غرقه والتسبب بوفاة سبعة عشر شخصًا، بينهم طفلان وبعض النساء.

عن “بحرنا” بقي أمران: الأول، أن عديد المنظمات الحقوقية ظلت تتهم “بحرنا” بانتهاك القانون الدولي، حيث كانت تعترض السفن والزوارق في المياه الدولية قبل دخولها إلى الحدود البحرية الإيطالية، وأنها كانت تتعمد إغراقها. الثاني أن التسمية إرث بغيض يعود إلى زمن سيطرة الدولة الرومانية، بعهديها الجمهوري والإمبراطوري، حيث كان يسمى البحر المتوسط بأكمله “بحرنا” دلالة على سيطرتها عليه كله، وعلى الأراضي الواقعة على شواطئه، ثم أحيا موسوليني التسمية، إبان صعوده، واحتلاله لليبيا، وهكذا كانت إيطاليا في 2014 تظن أنها في زمن الدوتشي الذي أعلن المتوسط (MARE NOSTRUM )  أي: بحرنا، وهي تعلن (في مايو 2014) أنه ومنذ بداية عملية (بحرنا) الإنسانية العسكرية في الثالث عشر من أكتوبر العام الماضى (2013)، تم تسليم أكثر من مائتين من المهربين إلى العدالة، بينهم مائة وسبعة وثلاثين ألقى القبض عليهم مباشرة من قبل أفراد القوات البحرية، بينما تم إنقاذ أكثر من ثلاثة وأربعين ألفًا وأربعمائة مهاجر ونقلهم إلى بر الأمان.

هكذا كان الحال على ضفتي المتوسط: “وطن صغير يركب البحر”، ولا يفوتنا احتمالات وهدة المتعددة، التي جرى تفصيلها، وبحرية تستعيد الزمنين الإمبراطوري والفاشي.

***********

في الجزء المعنون “علبة ألوان على أرض رمادية أو كيف تكتشف أنك أيضا أفريقي” يروي سيف ما قاله بحر إذ يتذكر “موسمه” الأوروبي: ما يقرب من 30 عاما، وإذ كنا قد عرفنا أن “بحر كامل” قد عاد إلى “الوطن” في وقت ما من عام 2011، فهذا يعني أنه غاب طوال حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك. لكن ما الذي أعاده؟

ليس قتله للمراهق، بل ما راقبه على الشاطيء الآخر: “نظرت إلى ما وراء الموجات الأولى وفي الأزرق رأيت شيئا يتخبط في الماء، وسمعت الصوت الهادر لزورق بخاري من لنشات البحرية يتجه نحوه، وام أستطع من مكاني أن أرى كنه الجسم الذي رفعوه، لكن سرعان ما اتضح أن ذلك الجسم أيا كان، كان مجرد بداية، فقد امتلأ الماء بالأجساد فجأة”.