غيّرت الطائرات المسيَّرة بدون طيار المعادلة بشكل واضح في منطقة الشرق الأوسط، فمع تنامي قدراتها القتالية والتدميرية. بشكل مكنها من حسم معارك عديدة مؤخرا لم تعد “الدرونز” أداة حرب فقط. متجاوزة ذلك الدور لتتحول إلى وسيلة تستخدم لإعادة رسم خريطة المصالح والتوازنات الأقليمية للدول المالكة لهذه التكنولوجيا.

ساعدت”الدرونز “بعض الدول خلال الآونة الأخيرة، في فرض نفسها كلاعب رئيسي في محيطها الإقليمي. وفي مقدمة هؤلاء تركيا وإيران، حيث ساعدت طهران في كسر عزلتها. وتحولها من حالة الدفاع إلى الهجوم، بعدما نقلت هذه النوعية من الأسلحة إلى وكلائها في المنطقة محدثة قلقا بالغا لدى إسرائيل ودول الخليج والولايات المتحدة.

خريطة نفوذ تركيا حيث تصل “مسيّراتها”

اعتمدت تركيا في العمل على توسيع دائرة نفوذها العسكري وتأثيرها السياسي في الرقعة الجغرافية الممتدة من شمال أفريقيا حتى منطقة القوقاز على الدرونز. بشكل جعل امتلاكها لهذه التكنولوجيا وتصديرها، عاملا مهما في قدرتها على تغيير قواعد اللعبة، ومنحها نفوذا دوليا أوسع.

فهذه الطائرات المحلية الصنع قامت بدور جوهري في حسم العديد من المواجهات العسكرية خاصة التي دارت رحاها في ليبيا. ورجحت كفة حكومة الوفاق في طرابلس، بعدما كانت قوات شرق ليبيا بقيادة المشير خليفة حفتر المدعوم إماراتيا وقتها على أبواب العاصمة.

وشكل الهجوم المنظم الذي قامت به الطائرات التركية المسيرة ضد قاعدة “الوطية” التي تبعد عن طرابلس العاصمة نحو 80 كيلومترا. عاملا رئيسيا في حسم الكثير من القضايا الميدانية وسمح للقوات الحكومية بالسيطرة عليها لاحقا.

الدعم التركي لحلفائها في ليبيا بـ”المسيّرات”، حتى توقيع اتفاق وقف إطلاق النار. منح تركيا مكاسب كثيرة، ومكنها من إبرام اتفاقية لترسيم المياه الاقتصادية مع الحكومة الليبية المعترف بها دوليا حينها. في خطوة أربكت بها أوراق الصراع في منطقة شرق المتوسط بعدما كانت اليونان أقرب لإحكام الخناق عليها.

وظفت تركيا “الدرونز” في تحقيق المزيد من المكتسبات على المستوى الإقليمي وأخذت ترسم توازناتها في المنطقة حيث تصل طائرتها المسيرة. فوضعت قدما بشكل رسمي عند الحدود الغربية المصرية. محاولة امتلاك أوراق ضغط في معركتها مع القاهرة في إطار الأزمة السياسية بين البلدين بسبب دعمها لجماعة الإخوان التي تصنفها القاهرة تنظيما إرهابيا. كما مكنتها من امتلاك ورقة ضغط جديدة في إطار ملفات التجاذب السياسي مع روسيا. بعدما وجدت موسكو ضالتها في الأزمة الليبية لتكون قاعدة انطلاق لها في أفريقيا.

وهناك في إقليم ناغورني كاراباخ، المتنازع عليه بين أذربيجان وأرمينيا استطاعت تركيا حسم المعركة بالدرونز لصالح حليفها الأذري. ومكنته من استعادة 40% من أراضي الإقليم التي فقدها خلال تسعينيات القرن الماضي. لتحقق تركيا مكسبا استراتيجيا جعلها بمثابة فرس رهان لحلفائها في المنطقة.

ورقة رابحة على موائد التفاوض  

أخذت بعد ذلك أنقرة، من “المسيرات” ورقة رابحة على موائد التفاوض في الأزمات الإقليمية الكبرى. بعدما خلقت لنفسها موطئ قدم في تلك الأزمات، لتلاعب خصومها عن قرب على رقعة الشطرنج في الشرق الأوسط تحت قاعدة “التنازلات المتبادلة”. فهناك في منطقة القرن الأفريقي التي تبعد عنها آلاف الكيلو مترات، حطت الدرونز التركية “بيرقدار” عبر صفقة بقيمة 95 مليون دولا بتمويل إماراتي. لدعم حكومة آبي أحمد في إثيوبيا في مواجهة قوات إقليم تيجراي، لتقلب الحرب رأسا على عقب. وتخلط أوراق المنطقة برمتها، في الوقت الذي كانت أيام رئيس الوزراء الإثيوبي معدودة أمام تقدم قوات الإقليم المتمرد.

ذهبت تركيا بمسيراتها بعيدا ولكن هذه المرة إلى إثيوبيا حيث استثماراتها الضخمة في البلد الذي يعد أحد ركائز منطقة القرن الأفريقي. وهناك أيضا حيث أحد الملفات التي تهم القاهرة والسودان وهو سد النهضة. الذي قد يستخدمه الرئيس التركي رجب أردوغان ككارت في إطار مفاوضاته الاستكشافية مع مصر لتحقيق مكاسب سياسية.

كما وجدت أنقرة مجددا في الأزمة الأوكرانية الروسية، فرصة جيدة. لإعادة رسم الخطوط الفاصلة بين مناطق النفوذ المتماسة مع موسكو في كثير من المناطق، وسرعان ما أبرمت صفقة مع” كييف”. زودتها خلالها بأسطول من طائرات “بيرقدار” المسيرة. وهو ما دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتحذير نظيره التركي من عواقب هذه الخطوة.

استطاعت أنقرة بحسب جيمس جيفري الذي شغل منصب الموفد الأمريكي المكلف بالملف السوري. أن تحول دون وصول النفوذ الروسي إلى عدد من المناطق الاستراتيجية، خاصة في ليبيا وسوريا. مشددا أن “هذا ليس بالأمر الهين”.

تسعى تركيا لتغيير قواعد اللعب في المنطقة المحيطة وإعادة صياغة العلاقات في ظل تطلع دول الخليج بحسب “أردوغان”. إلى توسيع ترساناتها من الطائرات بدون طيار، وسط هجمات متواصلة من الجماعات المرتبطة بإيران في المنطقة، فيما يشير تقرير لموقع المونيتور الأمريكي” أن توفير تركيا هذه التكنولوجيا التي قد تغير قواعد اللعبة، يمكن أن يعطي لأنقرة نفوذا أوسع”.

المسيرات الإيرانية دائرة نار حول إسرائيل ودول الخليج

على نفس النهج سارت إيران مع اختلافات متعلقة بشكل وطريقة تداول تكنولوجيا الطائرات المسيرة، ففي حين تزود أنقرة حلفاءها بـ”الدرونز” عبر صفقات سلاح رسمية مع الحكومات، شرعت إيران في تزويد وكلائها من الجماعات والمليشيات في مناطق النزاع بالشرق الأوسط بتلك التكنولوجيا لينوبوا عنها في مواجهة خصومها، بالدرجة التي تجعلها متحكمة في إيقاع أزمات المنطقة وفق مصالحها.

فباتت إيران تضغط عبر هجمات الدرونز التي يشنها وكلاؤها على دول الخليج تارة. وناقلات النفط الأجنبية في مياه الخليج تارة أخرى، لتتحكم في مؤشر مفاوضات الاتفاق النووي من جهة، ومن جهة أخرى ترسل رسائل التحذير بشأن أية خطط تسعى لمواجهة عسكرية شاملة معها من جانب إسرائيل أو أي طرف آخر.

دائرة النار التي رسمتها إيران حول خصومها في المنطقة، أشار إليها بشكل واضح وزير الدفاع في جيش الاحتلال الإسرائيلي بيني جانتس في وقت سابق بقوله إن طهران “تقوم بتدريب ميليشيات من العراق، واليمن، ولبنان، وسوريا على استخدام طائرات مُسيرة متقدمة، في قاعدة تدعى كاشان داخل أراضيها”.

والعام الماضي حذرت مجموعة أبحاث “كونفليكس أرمامنت”، من وصول أجزاء من الطائرات الإيرانية بدون طيار إلى نحو 8 دول.

وفي تقرير سابق ذكرت صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية، إنه في العام 2012،تم إسقاط طائرة إيرانية من طراز (أبابيل 3) جنوب كردفان بالسودان، وقد تم العثور على جهاز جيروسكوب لتحديد الاتجاهات مماثل في (أبابيل 3) بالعراق تم توفيره لمجموعة مدعومة من إيران، كما عُثر على مكونات أخرى في البحرين، وكذلك تم إسقاط طائرة بدون طيار من طراز شهيد 141 الإيرانية في إسرائيل فبراير 2018، كانت حلقت من سوريا، وفي 2016 عثر على طائرة بدون طيار من طراز (شهيد 123) بعد سقوطها في أفغانستان إثر حادث تصادم “.

واصلت الدرونز الإيرانية التحليق حتى وصلت إلى إثيوبيا، لدعم حكومة آبي أحمد في مواجهة متمردي تيجراي وأورومو، وهو ما كشفه تقرير بريطاني مؤخرا، أشار إلى تنفيذ مسيرة إيرانية الصنع هجوما على عرقية الأورومو بمنطقة أوروميا في السادس من يناير الماضي.

تهديدات الدرونز الإيرانية أولوية قصوى لبايدن

وفي تقرير لموقع أكسيوس الأمريكي، فإنَّ مسؤولين إسرائيليين وأمريكيين أجروا محادثات مؤخرًا بشأن مكافحة انتشار الطائرات الإيرانية المسيّرة، بين وكلاء طهران في العراق، واليمن، وسوريا، ولبنان، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة وإسرائيل تتابعان بقلق بالغ انتشار هذه التكنولوجيا لدى جماعات قد تستهدف قواتهما في المنطقة.

وبحسب مسؤولين إسرائيليين اطّلعوا على المباحثات، فقد اقترح الجانب الإسرائيلي منطقة حظر جوي للطائرات الإيرانية في المنطقة وذلك في إطار تعاون إقليمي يشمل الدول العربية التي تواجه تهديدًا مماثلًا.

ويقول المسؤولون الإسرائيليون إنَّ انطباعهم هو أنَّ إدارة بايدن ترى أن تهديد الطائرات الإيرانية على القوات الأمريكية في المنطقة يمثل أولوية قصوى، وتخشى من حدة المخاطر إذا انتشرت هذه التكنولوجيا.

وسيلة جديدة لتوسيع نفوذ التنين الصيني

الصين هي الأخرى انتبهت إلى أهمية “الدرونز ” كأداة من أدوات الدبلوماسية وليس الحرب. فبعدما وظفت في وقت سابق الأداوات الاقتصادية والديون لتوسيع نفوذها في أفريقيا بمحازاة النفوذ الأمريكي. التفتت مؤخرا لرغبة الكثير من الدول في اقتناء تكنولوجيا المسيرات، لتمر بكين من هذا الباب. وتظهر طائرتها بدون طيار الشهيرة” وينق لونق” على مسارح العمليات في عدد من المناطق. منها ليبيا رفقة قوات الجيش الوطني في شرق ليبيا. وذلك قبل أن تسجل آخر ظهور لها وفقا للتقارير الدولية في ساحة المعارك في إثيوبيا بين الحكومة وقوات إقليم تيجراي .

أحدث الصفقات في مجال الدرونز أبرمتها الصين مؤخرا مع الجزائر لاقتناء سرب طائرات قتالية من دون طيار عالية الدقة من نوع “سي أتش 5”

وتأتي الصفقة الجديدة للجزائر والتي سيتم شحنها قبل نهاية السنة. بعد أشهر من الإعلان عن تسلم المغرب نهاية سبتمبر الماضي. أول دفعة من الطائرات التركية المقاتلة من دون طيار “بيرقدار تي بي 2”. بالإضافة إلى حديث عن تعاون إسرائيلي – مغربي لصناعة طائرات من دون طيار من طراز “كاميكاز”.

كما أن صفقة الطائرات الصينية المسيّرة، تزامنت مع تردّي الأوضاع في منطقة الساحل. مع تصاعد الاعتداءات والهجمات الإرهابية على الحدود الجنوبية للجزائر، و”تفشي” ظاهرة الانقلابات. مثل ما حدث في مالي وما يحدث في بوركينا فاسو، بالإضافة إلى التوتر الذي يطبع العلاقات بين دول المنطقة. لا سيما في ظل تصاعد المطالب بضرورة رحيل القوات الفرنسية. ما يجعل الوضع مهدداً بالانفجار في أية لحظة.

اختصارا يمكن القول إن الطائرات المسيرة بدون طيار، باتت تمثل مستقبل أدوات الدبلوماسية في العالم بشكل عام، ومنطقة الشرق الأوسط التي تعج بالصراعات بشكل خاص، وهوما دفع العديد من الدول إلى السعي لامتلاك تلك التكنولوجيا ضمن خططها لتوسيع خياراتها من أدوات السياسة العالمية.