لعل السؤال الذي يتبادر إلى الذهن ونحن نشاهد كأس الأمم الأفريقية في الكاميرون يتمثل في أسباب إصرار دولة تكاد تمزقها الصراعات الأهلية العنيفة ورئيس قد بلغ من العمر عتيا ولايزال يمسك بأهداب السلطة على تنظيم هذا الحدث الرياضي الكبير الذي يأخذ بألباب الأفارقة ومحبي رياضة كرة القدم حول العالم؟ كان من المقرر أن تستضيف الكاميرون البطولة في عام 2019، ولكن الاتحاد الأفريقي لكرة القدم حرم البلاد من حقوق الاستضافة، نظرا لتشككه في الاستعدادات الكافية ومدى توافر البنية التحتية. وعليه فقد أعطى حق تنظيم البطولة لمصر مع منح الكاميرون حقوق الاستضافة لعام 2021. بالطبع كان هناك مزيد من التأخير منذ ذلك الحين. أولاً، أرجأ الاتحاد الأفريقي البطولة إلى يناير 2021 لتجنب موسم الأمطار الغزيرة في الكاميرون. ثم تأجلت البطولة مرة أخرى حتى عام 2022 بسبب جائحة كوفيد19.
بالنسبة للكاميرون، هناك العديد من الدوافع التي جعلت البلاد تُصر على استضافة بطولة ناجحة يُشار إليها بالبنان. لقد مرت 50 عامًا منذ أن استضافت هذه الدولة الواقعة في غرب أفريقيا البطولة القارية لكرة القدم على الرغم من أنها فازت بها خمس مرات. ونظرا لأن كأس الأمم الأفريقية يتم تنظيمها كل عامين – وبالنظر إلى غلبة عنصر الشباب على سكان الكاميرون – فإن القليل منهم لايزال يتذكر وقائع بطولة عام 1972. هناك شعور واضح بالفخر الوطني لاستضافة الكاميرون كأس الأمم مرة أخرى. إنها منافسة تجري في سياق مختلف تماما عن الأوضاع السياسية والاجتماعية التي كانت سائدة في عام 1972. الاختلاف الأكبر هو زيادة عدد الفرق المشاركة، من ثمانية فرق (ستة لاعبين فقط كانوا يلعبون في أندية خارج أفريقيا)، إلى بطولة تضم 24 فريقًا (مع وجود أكثر من 400 لاعب في أندية أوروبية بالإضافة إلى آخرين في الولايات المتحدة والصين وكوريا الجنوبية والهند وقطر والمملكة العربية السعودية).
إن استضافة بطولة ناجحة أمر مهم على عدة مستويات، إنه قرار سياسي الطابع بامتياز. بدأ أسطورة كرة القدم الأفريقية صامويل إيتو رئاسته للاتحاد الوطني لكرة القدم وهو عازم على استخدام كرة القدم كعامل توحيد لأبناء الأمة المنقسمة. من الناحية الاقتصادية، كانت جميع الشركات في الكاميرون تتطلع إلى زيادة الإيرادات وتحقيق انتعاش اقتصادي. ومن جهة أخرى، يُعد هذا مهمًا بشكل كبير من منظور سياسي – نظرًا للاضطرابات الداخلية المستمرة والقضايا الأمنية والافتقار إلى الوحدة الوطنية. ثمة نزاع اجتماعي سياسي يمكن إرجاعه إلى نهاية الإرث الاستعماري الفرنسي والبريطاني وتشكيل الكاميرون كدولة مستقلة. يتعلق هذا الانقسام بالمناطق الناطقة بالإنجليزية، والتي يشكل سكانها 20٪ من إجمالي السكان، ويشعرون بالتهميش والاستغلال من قبل الدولة والأغلبية الفرانكفونية. تحولت المظالم المتراكمة في الآونة الأخيرة إلى مطالب سياسية وإضرابات وأعمال شغب.
انخرطت القوات الحكومية والانفصاليون الناطقون بالإنجليزية في أعمال عنف وحشية بشكل متزايد وسط عمليات انتقامية وانتهاكات بشعة لحقوق الإنسان من قبل طرفي الصراع. بالإضافة إلى ذلك، اعتقلت السلطات الحكومية نشطاء المعارضة الذين يسعون إلى الانفصال التام عن الكاميرون تحت شعار دولة جديدة تسمى “أمبازونيا”. ويمثل ذلك تحديا كبيرا فيما يتعلق بالوحدة الوطنية والأمن. أعلن بول بيا الحرب ضد الانفصاليين في عام 2017. وقد تسبب الصراع في خسائر فادحة: قُتل أكثر من أربعة آلاف مدني، وفر حوالي 800 ألف كاميروني من منازلهم. وعليه سوف يتم تسييس الحدث على المستوى الوطني. إذ إن كرة القدم هي “تاج عموم الرياضة” في الكاميرون. لقد أصبحت كرة القدم أكثر من مجرد كونها رياضة الساحرة المستديرة، إنها في حقيقتها سياسة. يرى كثير من الكتاب والشراح أن كرة القدم تلعب دورًا بارزًا جدًا في بناء القومية والوحدة في الكاميرون. لذلك ليس من المستغرب أن تستخدم الحكومة كرة القدم كعنصر جاذب لكسب شكل من أشكال الاستقرار عندما تكون قوتها وشرعيتها على المحك.
جدلية الكرة والسياسة
طبقا للميثاق الأولمبي، الذي دافع عنه البارون بيير دي كوبرتان، مؤسس الألعاب الأولمبية الحديثة، فإن السياسة تتعارض مع الرياضة. وقد دافع عن هذه الفلسفة خلال حقبة الحرب الباردة، العديد من كبار الرياضيين في العالم بحسبان أن الرياضة والسياسة لا يجتمعان. ومع ذلك، فإن فلسفة كوبرتان تحجب الجدل المحتدم حول مدى تسييس كرة القدم والرياضة عموما واستخدامهما لتحقيق أغراض سياسية. لنأخذ على سبيل المثال، قرار تنظيم كأس العالم 2010 في جنوب أفريقيا. تم وصف الفترة التي أقيمت فيها المسابقة على أنها تجسد روايات الصعود الأفريقي. قام أبناء مانديلا ببناء وتحديث المطارات والفنادق ووسائل النقل العام لاستيعاب جحافل المشجعين القادمين إلى جنوب أفريقيا بينما أبهرت المشاهدين المناظر المتلفزة للملاعب المبنية حديثًا والتي تقابلها إطلالات كيب تاون الرائعة على المحيط. كان الهدف الأول في البطولة الذي سجله منتخب “بافانا بافانا” في شباك منتخب المكسيك لحظة اعتزاز وفخر وطني. بعد ذلك، تساءل الكثيرون عما إذا كانت الفوائد تفوق التكلفة. هل يبرر هذا الشعور الوطني، والأهمية الرمزية لمثل هذا الحدث الذي يتردد صداه في جميع أنحاء القارة والعاالم، إنفاق الموارد النادرة على الملاعب، التي تُركت بعد ذلك كرموز شاغرة بعد أن انفض مولد كأس العالم؟
في فيلم إنفكتوس (الشمس التي لاتقهر) الذي قام فيه الرائع مورغان فريمان بدور نيلسون مانديلا تظهر أهمية رياضة الرجبي التي كانت بمثابة “أفيون البوير”. لقد كانت ذات طابع سياسي واضح في جنوب أفريقيا. كان مانديلا هو الصوت الوحيد الذي يرى ضرورة أن يدعم حزب المؤتمر الوطني الأفريقي لعبة الرجبي كوسيلة لتقديم غصن زيتون إلى الأفريكانر البيض. إذا كانت كرة القدم هي لعبة الجماهير الأفريقية المفضلة فإن رياضة الرجبي والكريكت ارتبطت بتقاليد الرجل الأبيض في أفريقيا. لم يكن مستغربا أن تستضيف جنوب أفريقيا كأس العالم للرجبي في عام 1995، وهي اللعبة التي كانت بالنسبة للكثيرين رمزًا للأفريكانر زمن التفرقة العنصرية. كان الفوز بكأس العالم 1995 بحضور مانديلا، مرتديًا قميص الفريق وتهنئته شخصيًا بعد ذلك، عامل توحيد لأبناء الأمة المنقسمة. أعطى دولة قوس قزح والعالم لحظة أمل في المصالحة العرقية. واجه مانديلا صعوبة كبيرة في تسويق رياضة الرجبي للعديد من أنصاره. خلال حضوره فعاليات المسابقة، تعرض لصيحات استهجان من قبل حشد من حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في كوازولو عندما ارتدى قبعة الفريق. ولكنه قال بثبات: “هؤلاء الأولاد منا ونحن منهم اليوم، فلنحتضنهم”.!
كرة القدم وبناء الأمة
قام الرعيل الأول من الزعماء الأفارقة بتوظيف كرة القدم، هواية شعوبهم الساحرة، لأغراض سياسية صريحة خلال فترة ما بعد الاستقلال. يمكن رؤية هذا بوضوح في الدور الذي قامت به هذه اللعبة في مسيرة التحرر الوطني بالجزائر. في عام 1958، شكلت جبهة التحرير الوطنية، كجزء من حملتها من أجل الاستقلال، فريقًا لكرة القدم من الثوار الذين تجولوا وحققوا انتصارات في شمال أفريقيا وأوروبا الشرقية والصين وذلك من أجل دعم المقاومة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي. كانت كرة القدم بمثابة شعار الوطنية والاستقلال. كما اعتبر الرئيس المؤسس لغانا كوامي نكروما كرة القدم أداة لبناء الأمة وتحقيق الوحدة الأفريقية، معتمدا على أنها أداة لتكريس الهوية الأفريقية المشتركة في أواخر فترة الاستعمار وما بعد الاستعمار مباشرة. لم يكن نكروما الزعيم الأفريقي الوحيد بعد الاستعمار الذي استخدم كرة القدم للمساعدة في تعزيز الهوية الوطنية في أعقاب الاستقلال. كينيث كاوندا في زامبيا وفيليكس هوفوي بوانييه في ساحل العاج وسيكوتوري في غينيا وبول بيا في الكاميرون، وحتى الزعماء العسكريين أمثال جوزيف موبوتو في زائير وعايدي أمين في أوغنده، سعوا أيضًا إلى استخدام الرياضة كعامل ترابط وتوحيد في عملية بناء الأمة.
حفزت كرة القدم ظهور القوميات الأفريقية الناشئة وعززت أواصر الصداقة بين الدول. إنها يمكن أن توحد الناس على الرغم من الاختلافات الدينية والعرقية والجنسانية واللغوية. في عام 1957، كانت هناك ثلاث دول مشاركة فقط في كأس الأمم الأفريقية: مصر والسودان وإثيوبيا. كان من المقرر أصلاً مشاركة جنوب أفريقيا، لكن تم استبعادها بسبب سياسات الفصل العنصري التي كانت تتبعها الحكومة في ذلك الوقت. وقد جمعت أول دورة ألعاب إفريقية في برازافيل عام 1965 حوالي 2400 رياضي من 24 دولة أفريقية بالإضافة إلى فرنسا. ومع ذلك، يمكن للرياضة في أفريقيا، أن تكون عامل توحيد وتقسيم في آن واحد. تجسدت هذه العنصرية المؤسسية زمن الحكم الاستعماري في جميع أنحاء القارة وقوانين الفصل العنصري في جنوب أفريقيا التي قسمت الرياضة بدقة على أسس عرقية.
دبلوماسية كرة القدم
إن تداعيات كرة القدم محسوسة في عالم السياسة. على سبيل المثال، أثناء التأهل لكأس العالم لكرة القدم 2006، استخدم النجم ديدييه دروغبا، قائد المنتخب الوطني لكوت ديفوار، شهرته لحشد الدعم الشعبي لحل النزاع المسلح في بلاده. في البث التلفزيوني المباشر، بعد لحظات من قيادة منتخب بلاده في نهائيات كأس العالم، جثا دروجبا على ركبتيه وتوسل إلى الفصائل المتحاربة لنزع سلاحها. في غضون أسبوع، تمت الاستجابة لهذا النداء حيث تم وقف إطلاق النار وإجراء انتخابات، وهي مهمة فشل القادة الأفارقة والدبلوماسيون المتمرسون في تحقيقها.
في جنوب أفريقيا عام 1992، استندت الموافقة على استمرار المفاوضات نحو دستور جديد، جزئيًا، على الرياضة. صوت مواطنو جنوب أفريقيا البيض على ما إذا كانوا سيستمرون في المفاوضات حيث شاركت جنوب أفريقيا في كأس العالم للكريكيت لأول مرة منذ أكثر من عشرين عامًا. زعم البعض أن الحصول على موافقة البيض على المفاوضات كان له علاقة بدعم فريق الكريكيت أكثر من الأفكار المتعلقة بتقاسم السلطة.
يمكن لكرة القدم أن تمثل مصدرا لدعم الشرعية من خلال توظيفها من قبل القادة السياسيين. على سبيل المثال، سعى الرئيس السنغالي عبد الله واد إلى الاستفادة من شعبية فريقه الوطني لكرة القدم كوسيلة لتعزيز شعبيته. في أول ظهور لها في نهائيات كأس العالم عام 2002، هزمت السنغال فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة. وبهدف ترسيخ موقعه، رحب واد بالفريق بعد عودته إلى أرض الوطن، ودعا بانتظام نجم الفريق، الحاج ضيوف، إلى القصر الرئاسي. في الكاميرون تم توظيف كل من العملاقين صامويل ايتو وروجر ميلا لدعم استمرار بول بيا في رئاسة البلاد. ويُقال إن رئاسة إيتو للاتحاد الكاميروني لكرة القدم تمت بمباركة بيا بشرط ألا تذهب طموحات إيتو السياسية إلى أبعد من ذلك. إذ يُعتقد أن بيا يرعى ابنه فرانك ليخلفه في منصب الرئيس، ولا يحتاج إلى نجم كرة قدم مشهور ليعترض طريقه في توريث السلطة.
مثال آخر على الترابط بين كرة القدم والسياسة هو الانتصار الأخير لجورج ويا، لاعب كرة القدم الليبيري الذي فاز بمنصب رئاسة الدولة. تم الاحتفال بانتصار ويا من قبل المدافعين المناهضين للمؤسسة التقليدية والراغبين في اختراق المشهد السياسي من خلال وجوه جديدة، وكذلك من قبل الشباب المهمشين الذين لعبوا دورًا محوريًا في إدارة حملته. عندما تعرض ويا لانتقادات لعدم حصوله على تعليم كافٍ لإدارة البلاد بعد خسارته في انتخابات عام 2012، عاد إلى الجامعة وحصل على شهادة عليا، ليكون مثالًا نبيلًا للشباب في جميع أنحاء البلاد. غالبًا ما يُقارن جورج ويا بنظيره ديدييه دروجبا، في كوت ديفوار حيث تمكن الرجلين من تغيير وجه بلديهما.
وختاما فإن لكرة القدم وجها آخر قد يُخفق في تحقيق السلام والوحدة المرجوة. كانت البطولة رقم 33 لكأس الأمم الأفريقية في الكاميرون فرصة لإعادة إطلاق عملية السلام أو لتقييم إخفاقات المفاوضات السابقة من أجل بداية جديدة. لكن لاحياة لمن تنادي! تستمر السلطة القائمة في استخدام كرة القدم لأغراض سياسية للترفيه عن الناس وجعلهم ينسون مشاكلهم. يدرك الرئيس بول بيا، 89 عامًا، الذي يهيمن على البلاد والعباد بيد من حديد منذ 40 عامًا، قوة كرة القدم في بلاده حيث لا يزال الكثير من الناس متحمسين لهذه الرياضة التي تقوم مقام أفيون الشعوب بالتعبير الماركسي.
وعلى أية حال فإن تنظيم الأحداث الرياضية الكبرى هو جزء كبير من الإنفاق على هيبة الدولة والحكام. عندما نرى بشكل ملموس ما تجلبه هذه النفقات الضخمة للدول، فإننا نفهم بشكل أفضل أن هذه قضايا سياسية أكثر منها اقتصادية. وبهذا المعنى، فإن الدول الأفريقية ليست استثناء. لقد تم استخدام الرياضة دائمًا لتعزيز صورة القادة وإظهار مستوى نفوذ أو قوة دولة ما. ومع ذلك فإن هذه المناورة لا تنجح دائمًا حتى لو نظمت عدة مسابقات. في حالة الكاميرون سينفض المولد الكروي، لكن المشاكل اليومية الملحة ستظل قائمة. وهذا هو واقع الحال في معظم الدول الأفريقية حيث يُعاني الناس من نقص المياه النظيفة والكهرباء، وضعف البنية التحتية، وعدم توافر المؤسسات التعليمية، وانتشار الحروب والصراعات العنيفة، وانتهاكات حقوق الإنسان، وكلها تُدار من قبل أنظمة سياسية فاقدة للشرعية لا هم لها إلا التمسك بتلابيب السلطة أطول فترة ممكنة !