من قديم قالت الفلاسفة: الحكم على شيء فرع عن تصوره.. ومن أمكنه علمه وإحاطته وإدراكه من تكوين تصور دقيق مطابق للواقع عن جماعة الإخوان، حكم وهو مطمئن باستحالة اندماج الجماعة في المجتمع المصري ولا في أي مجتمع اندماجا طبيعيا، لأن الشروط المطلوب تحققها قبل هذا الاندماج تعني باختصار ألا يصبح الإخوان إخوانا.. مع الانتباه إلى أن الجماعة لم تعرف الحياة الطبيعية مع المجتمع في أي مرحلة من تاريخها.

يمكن رد كل العوامل المانعة من اندماج الإخوان في المجتمع إلى سبب أساسي واحد يتمثل في محورية “التنظيم” ومركزيته في رؤية الإخوان للعالم.. فالجماعة في حقيقتها ليست إلا تنظيما.. والتنظيم عندها ليس مجرد وسيلة كما عند الأحزاب والحركات في العالم.. بل هو هدف بذاته، مركزي وجوهري وثابت.. تنظر الجماعة بمنظاره إلى الأفراد والمؤسسات والدول.. بل وتنظر من خلاله إلى الأفكار والمواقف والنظريات.. فالجماعة حين تقول إنها تريد إقامة حكم إسلامي، فإن هذا يعني عندها في الصورة النهائية وصول المنتمين إلى تنظيمها إلى السلطة، فالحكم الإسلامي بنظر الإخوان لا يقوم عبر غيرهم بأي حال.

في المسألة الإخوانية، جاء التنظيم أولا، ثم وضعت له الأفكار والأدبيات، واختلقت له أسباب المشروعية والميلاد والنشأة والنمو والاستمرار، وكل هذا بنظر الإخوان يأخذ حكم الوجوب الشرعي. والفكر في الإخوان يأتي لاحقا لتكريس القداسة التنظيمية، وفقا لمسار يقول: الإسلام غائب، والشريعة معطلة، والأمة ضعيفة، والظلم مسيطر، والفواحش منتشرة، والفساد يعم العالم.. ولابد من إعادة النظام الإسلامي من جديد، وفرض أحكام الشريعة، وذلك لا يكون إلا بإقامة دولة، ثم خلافة، وهذا لا يكون إلا بعمل ضخم متشعب متراكم، وهذا العمل لا يكون إلا بتنظيم سري يضم أفرادا وفق قواعد للانتقاء.. وإذا كان شرع الله غائبا، فإن استعادته فريضة، وإذا كانت هذه الاستعادة لا تتم إلا بتنظيم سري.. فوجوده فريضة، والحفاظ عليه واجب، وتركه إثم، ومحاولات إضعافه حرب على الإسلام، وما يصيب أفراده محن للابتلاء والتمحيص.

ومثلا، تستخدم الجماعة قوله تعالى في سورة الفتح “إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما”، وكذلك الحديث الشريف، من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية، دليلا شرعيا على وجوب بيعة المرشد العام، وعلى ضرورة الثبات مدى الحياة على هذه البيعة، حتى لا يقع العضو في نكث ما عاهد الله عليه.. وهكذا تستسهل الجماعة أن تضع قادتها في مكانة الرسول، وحتى لو لم تصرح بذلك في وضوح، فإن هذا المعنى يترسب حتما في قلب وعقل كل عضو يُدعى إلى بيعة المرشد، ثم يجد أن إجراءات هذه البيعة تبدأ بآيات تقول: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله.

إن فكرة “الإسلام الشامل” التي جعلها المؤسس حسن البنا في صدارة أصوله العشرين استلزمت في العقيدة الإخوانية تنظيما شاملا، يعمل في “مظاهر الحياة جميعا”، فلا تنفك فيه الدولة عن الوطن، ولا الحكومة عن الأمة، ولا السياسة عن الاقتصاد، ولا الثقافة عن الثروة، ولا الدعوة عن الجهاد.. كما أن الجماعة علمت أعضاءها أن ينظروا إلى قيادة التنظيم باعتبارها قيادة ربانية تقوم مقام القيادة النبوية، وتستحق كل ما استحقته القيادة النبوية من طاعة وثقة وولاء لا يترتب عليه في الحقيقة إلا إيمان عملي بعصمة هذه القيادة.. وفي ضوء هذه الخلفيات يمكن فهم موقف الإخوان من مطالب “فصل العمل السياسي عن العمل الدعوي” أو “فصل النشاط التربوي عن النشاط الخيري”.. إذ كيف لجماعة قامت لاستعادة “الإسلام الشامل” أن تقبل بالعمل في جانب واحد من جوانب الإسلام الذي تعتقد أن له كلمة في كل حركة أو سكنة في الحياة.

ومن أهم العقبات التي تحول بين الإخوان والاندماج في المجتمع، شعورهم العميق بالتفوق العقائدي والاستعلاء الديني والاختلاف إيمانيا عن بقية طوائف الشعب.. وقد شاع في الدراسات الحركية التي صدرت خلال العقود الثلاثة الماضية أن كتابات سيد قطب كانت وراء ترسيخ هذه الأفكار الاستعلائية بين أفراد تنظيم الإخوان.. والحقيقة أن محاولات تمييز الإخوان عن أفراد الشعب أقدم كثيرا مما كتبه سيد قطب، ويكاد يكون عمرها من عمر الجماعة، ويتحمل حسن البنا النصيب الأكبر منها.

وفي الثلاثينات، وعند انتقال المركز العام للجماعة من شارع الناصرية إلى ميدان العتبة الخضراء، وافق المرشد المؤسس على مقترح لمحمود عبد الحليم عضو الهيئة التأسيسية للإخوان، بأن تكون شارة الجماعة “قطعة معدنية مستديرة في مساحة القرش محدبة السطح، يطلى سطحها بالميناء الزرقاء، ويرسم عليها سيفان متقاطعان، يحملان مصحفا بلون أحمر، ويكتب تحت تقاطع السيفين كلمة “وأعدوا”، وتعلق هذه الشارة بدبوس بثبت في ظهرها”.. كما قرر البنا أن يلبس كل فرد في تنظيمه “دبلة” من الفضة لها عشرة أضلاع، كُتب على ضلعين منهما كلمتا “الإخوان المسلمون”.. ويروي محمود عبد الحليم في المجلد الأول من موسوعته “لإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ” أن الشارتين “انتشرتا انتشارا عظيما في القاهرة والأقاليم… وصارتا مميزتين للإخوان وسط المجتمع.. وكان هذا المظهر بمثابة نزول بالدعوة إلى الميدان”.

وبالطبع لم يكن التمييز شكليا، وإنما كان مصحوبا بترسيخ كل معاني التفوق على الشعب، فيخاطب حسن البنا أفراد تنظيمه قائلا: “الإخوان دعوة عامة محيطة لا تغادر جزءا صالحا من أية دعوة إلا ألمت به وأشارت إليه”.. ومبكرا قسم البنا الناس إلى أربعة أقسام بحسب موقفهم من الانتماء لتظيمه، فمن قبل الانضمام لجماعته “مؤمن”، ومن لم يحسم موقفه من عضوية الإخوان “متردد”، ومن أعرض عن جماعته لأسباب مصلحية “نفعي”، ومن ورفض الانضمام لتنظيمه، فهو “متحامل”.. لا أحد يجمع بين الإخلاص والعلم يمكن أن يرفض الانخراط في تنظيم البنا.. هكذا تنطق أدبيات الجماعة.

ويمكن لمن يفكر في مستقبل الإخوان، أن يدرك مقدار تماهي الأفراد في التنظيم، واعتباره ممثلا لوجود الإسلام، أو طليعة للبعث الإسلامي كما يعبر سيد قطب في معالمه.. كما يمكن له أن يدرك مدى صعوبة حل هذا التنظيم بقرار ذاتي من الجماعة.. ونظريا فإن فكرة الحل تثير عددا من الأسئلة المشروعة: 1- من صاحب قرار الحل؟، 2- ما هي آلياته؟ 3- ما مدى قبول القيادات الوسيطة والقواعد له؟ – 4- ما موقف إخوان الخارج منه؟.. إلى أين تؤول أمواله واستثماراته وروابطه في مختلف دول العالم؟

يرى الإخوان أن التنظيم هو الجماعة، وأن حله يعني انتهاء الوجود الإخواني على الأرض.. وفي المقابل، فإن طبيعة الدولة الحديثة، أيا كان شكل النظام السياسي في هذه الدولة يرفض أن يندمج فيه تنظيم سري تكفيري انتقائي، لا أحد يعرف عدد أعضائه، ولا مصادر تمويله، ولا أوجه إنفاقه، ولا شبكة اتصالاته.. مع حمل أفكار مرحلية، تتعامل مؤقتا مع معطيات الواقع انتظارا للحظة التمكين والهيمنة.

لقد صار الإخوان بأفكارهم وتنظيمهم جزءا من ماض لا يمكن استعادته، كما لا يمكن استعادة الخلافة والرق وملك اليمين.. وإذا كانت الجماعة تعلق فشلها وصداماتها المستمرة مع مختلف الأنظمة المصرية والعربية على شماعة الاستبداد السياسي، فإن الدولة الديمقراطية أيضا لا تقبل دمج تنظيم بهذه الصفات، ولا تسمح بمنح آلية من آلياتها هي “الانتخابات” لتنظيم لا يؤمن أصلا بتداول السلطة، لأن رئاسة الدولة في أفكاره مجرد مرحلة ستتبعها مراحل تنتهي بالخلافة وأستاذية العالم.. الديمقراطية تمنح آلياتها للديمقراطيين، وليس لمن ينظرون لانتخابات المرة الواحدة.. كان “التنظيم” أكبر مظاهر قوة الإخوان ونفوذهم.. وهو اليوم أكبر عقبات دمجهم وعودتهم.. وسيتمسكون به إلى أن يصير مقبرتهم.