“الله اختاركم لتكونوا شهداء على الناس فاسعدوا بهذا الدور العظيم وأبشروا. تمتلئ قلوبنا فخرا وعزة بكم. أنتم الذين تقدمون أرواحكم فداءً لأوطانكم. والله إن إخوانكم الذين رحلوا عنكم اليوم فى يوم الفرقان لهم مع شهداء بدر الأوائل. وكأين من نبئ قتل معه ربيون كثير (والربيون هم أصحاب الأنبياء)، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله”.
لم تكن هذه الكلمات للقيادي بجماعة الإخوان -محمد البلتاجي- على منصة رابعة في 17 يوليو/تموز 2013 سوى لحظة قصوى من الانفلات السياسي والتنظيمي، بلغت ذروتها مع الاحتجاجات الشعبية ضدهم ونبذهم مجتمعيا. بينما كانت الأرض تهتز تحت أقدامهم. وتبعث بمؤشرات جمّة على إخفاقهم المرير. أو بالأحرى انحسار الإسلام السياسي بعد أقل من عام في تجربة حكم مصر.
صعد خطاب المظلومية بصورة مبكرة على منصة رابعة، التي جمعت في مشهدية مكثفة حالة التيه الإسلامي سياسيا وتاريخيا. وبينما لم يكن صدام الجماعة مع السلطة أمرا مباغتا أو عرضيا، فإن ثمة متغيرات عديدة حركيا ومحليا وإقليميا تحكم طبيعة ومآلات الصراع الأخير والمحتدم.
عمدت الجماعة على مدار تاريخها إلى صناعة تاريخ مواز يواجه الرواية الرسمية للسلطة. والتي كانت في مرات، مثلا، بمثابة حليف سياسي لها قبل أن تنتقل إلى الطرف النقيض وتتحول إلى خصم. وبالتالي أسهمت سردياتها ومراوغاتها المتخمة بها أدبياتها في التشويش على تناقضاتها والتعمية على تلفيقيتها وانتهازيتها. ومن ثم تجسير العلاقة بينها وبين حواضنها المجتمعية من ناحية وتأميم التصدعات داخل التنظيم من ناحية أخرى عبر هذه الحيل والمبررات الأيديولوجية.
الإخوان ومفهوم المِحَن
الجماعة التي تعرضت إلى أشد “المِحَن” في تاريخها الممتد لنحو تسعة عقود، في ستينيات القرن الماضي، تحفل أدبياتها بإدانة النظام الناصري، باعتباره وقف على الطرف النقيض من قيم الحرية وأسس الديمقراطية. الأمر الذي تحول لخطاب مظلومية عنيف. رغم أنها كانت الرديف السياسي للسلطة -وقتذاك- وليس مجرد جزء ضئيل أو هامشي من المشهد الذي تعارضه.
ومن بين هذه المواقف التي تبرز تعدد (تناقضات وإعادة توظيف) خطابات الإخوان، رفض استعادة نشاط الأحزاب السياسية وكذا تجميد دستور عام 1923، بحسب ما طالب سيد قطب. ووصف كل من يطالب بالحياة الدستورية والانتخابات البرلمانية بأنهم “خفافيش خرجت من القبور”.
اقرأ أيضًا: أين تكمن مشكلة الإخوان بالضبط؟!
كتب صاحب “معالم في الطريق” في مجلة “روزاليوسف” في سبتمبر/أيلول 1952: “هذه الأحزاب ليست صالحة للبقاء وستتفتت وتنهار سواء طلب الجيش ذلك أم لم يطلب. لقد استوفت أيامها وعاشت بعد أوانها”.
كما كتب في أغسطس من العام ذاته في جريدة الأخبار: “الرجعية اليوم تتستر بالدستور. وهذا الدستور لا يستطيع حمايتنا من الفساد إن لم تمضوا أنتم (يقصد الضباط الأحرار) فى التطهير الشامل الذي يحرم الملوثين من كل نشاط دستوري ولا يبيح الحرية إلا للشرفاء”.
هذه البراجماتية والتعاطي الانتقائي، والمرحلي، مع التاريخ الذي انخرطت الجماعة في أحداثه وشاركت في تفاصيله تبدو محاولة دؤوبة ومتكررة للانسلاخ والتبرؤ من السياسة لتضحي الـ”الجماعة الربانية”. تحديدا في لحظات الارتباك أو الشتات والإخفاق وغياب تحالفاتها مع القوى الأخرى. فيظل الخطاب الأخلاقي والتبشير الديني هدفا نضاليا عندما تعجز عن طرح ممارسة سياسية جادة، عملية أو نظرية. وفضلا عن غياب برنامج سياسي أو مفهوم نظري للدولة لدى الإخوان فإن الرهان يكون على مقولات أسلمة المجتمع و”إعادة الإسلام للتاريخ” وبعث تصورات راديكالية ويوتوبية تحصر “العصبة المؤمنة” في جيتوهات إسلامية مغلقة. فثمة معضلة رئيسية لدى الإسلام السياسي تتمثل في إخفاقه التاريخي عن تحديد نطاق ما هو سياسي وديني وأخلاقي وشخصي.
الهيمنة الثقافية لدى الإخوان
وبنفس درجة محاولات الجماعة الهيمنة الثقافية لتعميم الإسلام كمرجعية نظرية سياسية وتحويله أداة وظيفية بالسيطرة على المجال العام والمجتمع المدني امتنعت عن بناء أي خيال سياسي واقعي. وحاولت السيطرة على الدولة الحديثة بهياكلها ومؤسساتها بغية أسلمتها على طريقة الثورة الإيرانية دون الوضع في الاعتبار اختلاف الشروط السياسية والتاريخية. ووضعت كل أرصدتها في الشحن والتعبئة الدينية.
وفي كتابه “تجربة الإسلام السياسي” يوضح المفكر الفرنسي أوليفيه روا أن جماعات الإسلام السياسي التي تشكلت في ظل الحداثة وتشكل الدولة. تعد “وليدة العالم الحديث سواء على الصعيد النظري أو الاجتماعي. واستعاروا نطاقهم المفاهيمي من أقرانهم الماركسيين الملتزمين وأفعموها بمصطلحات قرآنية”. وبالتالي ظلت هذه القوى كحركة احتجاج اجتماعية تعتبر في امتلاك السلطة من الناحية التقنية ضرورة وهدفا لاستعادة المجتمع المسلم.
لكن الاستعلاء الديني التقليدي والمتكرر لدى الإخوان فقد مصداقيته وتآكلت مصادر شرعيته المجتمعية. حيث إن القاعدة الاجتماعية للإسلام السياسي التي يصنفها المفكر الفرنسي جيل كيبل في كتابه “جهاد.. انتشار وانحسار الإسلام السياسي” في “الطلبة وصغار الموظفين وصغار العاملين بالقطاع الخاص وحديثي التمدن”، تلاشت صلاتها العضوية مع التركيبة الجاهزة والمتخيلة لبناء المجتمع المسلم النقي. وفقاً للدعاية السياسية والأيديولوجية للإخوان. وبخاصة مع التحولات التي جرت عام 2013.
خطاب رابعة الإخواني
وبالعودة لخطاب المظلومية على منصة رابعة يقول البلتاجي: “أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين”. ويردف في السابع والعشرين من يوليو 2013: “لا أحد يستمع لكلام المنافقين الذين يقولون (علام نقتل أنفسنا). بل نقف بفضل الله أعظم مواقف التاريخ. إخوانكم الذين استشهدوا اليوم أرسلوا لكم خطاباً يستبشرون بما ستصنعون من بعدهم”.
يتجلى مفهوم المظلومية بشكل حاد من خلال منصة رابعة. إذ تبدى خطاب المحنة المقدسة عبر مستويات بحسب الباحث المصري في فلسفة التاريخ الدكتور سامح إسماعيل.
يقول “إسماعيل” لـ”مصر 360″: “في المستوى الأولي جاء الخطاب الشعبوي الدارج يختلط بجملة إرهاصات مفارقة في مقاربة مع خط القداسة التاريخي الممتد منذ عصر النبوة. وقد ظهرت الملائكة وتناثرت البشارات هنا وهناك في “رابعة” بما يؤشر على اقتراب لحظة الخلاص الحتمي. وكان من المهم توظيف هذا التعالق النصي في سياق الحدث المرتبط بمحنة هي اختبار يلزمه حشد وتجييش وصبر حتى لحظة الانتصار”.
مركزية المحنة
وعلى مستوى آخر يؤدي مفهوم المحنة دورا مركزيا في تكريس قيم الفداء والتضيحة لنيل الشهادة كمفهوم آخر لخلاص أخروي. هو بمثابة الجائزة الكبرى وهو ما ظهر عبر خطاب رابعة وسط حالة زخم شعوري مؤدلج. لكن التفكك وعدم وجود رؤية سياسية حقيقية أودت بكل هذا في لحظة الفض. حيث سارعت الأغلبية إلى الفرار ولم يجد خطاب المفارقة نفعا. فلجأت الجماعة إلى توظيف مظلومية رابعة بشكل انتهازي لاستجداء الدعم والتأييد الخارجي.
إذا، يؤدي مفهوم المظلومية دورا مركزيا آخر في أدبيات الإخوان، لما له من أثر داخلي، يمكن من خلاله زيادة الترابط البيني بين عناصر التنظيم. فالمحنة يلزمها التكاتف والتعاضد كما يمنحها الغطاء الديني بعدا مقدسا. حسبما يوضح الباحث المصري في فلسفة التاريخ. وذلك في محاكاة أشبه بالمقاربة التاريخية لمحنة النبي في مكة أو هزيمة أحد وغيرها كما يتم الترويج عبر خطاباتهم المؤدلجة.
اقرأ أيضًا: بيت «الإخوان» الآيل للسقوط.. وسؤال العودة المستحيلة
وعلى الصعيد الخارجي فإن مفهوم المحنة والدعاية له من شأنه أن يؤدي إلى دعم التنظيم سياسيا واقتصاديا -بحسب إسماعيل. وذلك من قبل قوى إقليمية ربما تتبنى توجهاته أو تحاول توظيفها لحساب مصالحها.
في مذكرات زينب الغزالي “أيام من حياتي” تمتزج المحنة دوما بالبشارة. وترتبط المظلومية بإمكانيات الخلاص. وذلك مع توظيف المقدس والمفارق لجهة إظهار نجاة الفئة المظلومة وتعافيها بعد طول انكسار. ما يكرس حدة البناء الأيديولوجي ويضغط باستمرار على دوافع العنف داخل نفوس عناصر التنظيم حتى إذا ما لاحت نذر النهاية أو تراخت قبضة الدولة فيتحول المظلوم إلى أداة للقتل المقدس.
حائد صد من بكائيات المظلومية
هذه التراتبية بين استدعاء المفهوم وإعادة انتاج معطياته في صيغ متعالية ومقدسة، صنعت نوعاً من حوائط الصد عبر عقود طويلة، منعت تفكك الجماعة وانهيار التنظيم، حتى في أشد الضربات عنفاً. لأنها ببساطة نجحت في اختزان طاقتها، عبر تفعيل حالة الكمون الطويل، حتى تمر الموجة العاتية، ثم يطل التنظيم برأسه من جديد.
بنت جماعات الإسلام السياسي عمقها الجماهيري على “بكائيات المظلومية” نتيجة هزائمها في مواجهة أنظمة الاستقلال منذ الأربعينات من القرن الماضي. وذلك بحسب المفكر التونسي المتخصص في شؤون الإسلام السياسي -عبيد خليقي. موضحاً لـ”مصر 360 أن تلك الجماعات الإسلاموية حين دخلت في مواجهة مباشرة مع الأنظمة كانت تراهن على سقوط الأنظمة. لكن المواجهة كلفتها خسائر في صفوفها. واستثمرت تلك السيرة التي تراوحت بين السجن والنفي والإعدام بسرديات المظلومية حتى تستدر عطف الناس.
وبعد ثورات الربيع العربي بدعم من سرديات المظلومية تمكنت حركات الإسلام السياسي في مصر وتونس وليبيا والمغرب من تجريب الحكم. وأثبتت فشلاً ذريعاً في إدارة الشأن العام وإيجاد حلول افتصادية واجتماعية، بحسب خليقي. بل إنهم أداروا شؤون الدولة بمنطق الجماعة ورعاية الحركات المتطرفة ورفع شعارات دينية. وبذلك سقط من يد جماعة الإسلام السياسي مفهوم المظلومية الذي كان خزاناً جماهيرياً لأكثر من نصف قرن.
ويختتم: “يبدو من الصعب اليوم أن يستعيد الإسلام السياسي مخزونه التنظيمي والعقائدي. فتجربة الحكم والمواجهة مع شركاء الوطن أفقدهم زخمهم الشعبي. كما أن سياسة تجفيف مصادر التمويل وداعميهم الاقليمين نجحت في تجحيم حضورهم ودورهم المستقبلي”.