أعلن رئيس تركيا رجب طيب أردوغان رغبة بلاده في التعاون مع إسرائيل لنقل الغاز الطبيعي من الشرق الأوسط إلى أوروبا. وتتزامن تصريحات “أردوغان” تلك مع إعلان الولايات المتحدة وقف دعمها لمشروع خط الغاز “إيست ميد” المشترك بين إسرائيل مع اليونان وقبرص لوجود عوائق اقتصادية وبيئية تعرقل إتمامه وتقلص حجم عوائده.
ويشكل الإعلان الأمريكي فرصة ثمينة أمام تركيا لتحقيق طموحاتها الاقتصادية والسياسية على المستوى المحلي والإقليمي والدولي. ولكن في المقابل توجد العديد من العراقيل التي تحد من إمكانية استغلالها. فقد أخذت مشاريع الطاقة بعدا سياسيا واقتصاديا في العلاقات بين دول شرق المتوسط. بحيث أصبحت مجالا لفهم طبيعة التوترات والخلافات البينية والإقليمية. وعلى مدار الأعوام الأخيرة ظهرت بوادر الطموحات التركية بلعب دور حيوي في الخريطة الجيوسياسية لغاز البحر المتوسط. وأبرزها الإعلان الأخير بالتعاون مع إسرائيل وفقا للعديد من الدوافع:
تركيا ودور إقليمي في أمن الطاقة
أسهمت اكتشافات الطاقة على سواحل البحر المتوسط في تنمية طموحات تركيا من حيث ممارسة دور فعال في معادلة الطاقة. حيث اتجهت لعقد شراكات مع موردي الطاقة في المنطقة. على رأسها التعاون الوثيق مع روسيا في مشروع “ترك ستريم”، الذي يمتد 930 كيلومترا عبر البحر الأسود، وكان له الدور الرئيسي في جعل تركيا بمثابة حجر أساس في ضمان أمن الطاقة في الاتحاد الأوروبي، حيث ساهم في نقل 34.8 مليار متر مكعب من الغاز في غضون عامين.
وساعد هذا المشروع في إعطاء دفعة للطموحات التركية. حيث قال أردوغان خلال افتتاح ترك ستريم في يناير 2020: “نريد جعل تركيا مركزا عالميا للطاقة”، كما اتجهت أنقرة للعمل مع دول شرق المتوسط. إذ أبرمت مع حكومة السراج في ليبيا في نوفمبر 2019 اتفاق إقامة منطقة اقتصادية خالصة من الساحل التركي الجنوبي على المتوسط لسواحل شمال شرق ليبيا. وبموجبها حصلت تركيا على التصريح بالتنقيب عن النفط في الحدود البحرية الجديدة.
وفي ظل الظروف العالمية الحالية وما يرتبط بها من تهديد توريد الغاز الروسي لأوروبا. استغلت تركيا الفرصة لعرض خدماتها لنقل الغاز من الشرق الأوسط إلى أوروبا بالتعاون مع إسرائيل وكذلك العراق. وذلك عبر مباحثات مع رئيس إقليم كردستان العراق “نيجيرفان بارزاني”. ومؤخرا أعلن وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي “فاتح دونماز” رغبة بلاده في زيادة إنتاجية خط أنابيب الغاز الطبيعي العابر للأناضول “تاناب” الذي سينقل الغاز الأذربيجاني من بحر قزوين لأوروبا.
تركيا تنافس دول منتدى غاز المتوسط
يرجع إلى اكتشافات الطاقة في شرق المتوسط الدور في ظهور أنماط تعاونية جديدة في المنطقة. والتي كانت ركيزة رئيسية في عدم الاستقرار الإقليمي. حيث تسارعت كل الأطراف في تكوين تحالفات مضادة.
على سبيل المثال منتدى غاز المتوسط، الذي تشكل في 16 يناير 2019 وضم اليونان وإسرائيل وقبرص ومصر وإيطاليا والأردن وفلسطين. والذي واجه معارضة شديدة من تركيا. وفي المقابل اتجهت لعقد اتفاقية ترسيم الحدود مع حكومة السراج فى 27 نوفمبر 2019 في انتهاك صارخ للقانون الدولي.
كذلك خط غاز ايست ميد بين إسرائيل وقبرص واليونان لنقل غاز شرق البحر المتوسط إلى أوروبا مرورا بإسرائيل إلى جنوب قبرص، وكريت، واليونان، إلى إيطاليا، بطول 1900 كيلومتر، والذي واجهته تركيا بمعارضة شديدة، وشكل إعلان بايدن مؤخرا وقف دعم المشروع سياسيا وماليا فرصة ثمينة أمام تركيا لكي تحل محل اليونان وقبرص في التعاون مع إسرائيل وأن تصبح محور رئيسي في نقل الغاز من الشرق الأوسط إلى أوروبا.
مغازلة الولايات المتحدة
اتخذ الرئيس الأمريكي “جو بايدن” فور توليه نهج أكثر حدة مع أردوغان، حيث أعلن أن الولايات المتحدة تصنف مذبحة الأرمن بمثابة إبادة جماعية، ومنذ ذلك الحين، وقعت تركيا تحت وطأة العقوبات الامريكية، على خلفية شرائها أنظمة دفاع روسية الصنع من طراز S-400، كما أخرجت تركيا من برنامج إنتاج مقاتلات F-35″”، إضافة إلى مطالبة نواب الكونجرس بتوقيع مزيد من العقوبات على تركيا بفعل دورها في توسيع نطاق الصراعات في الشرق الأوسط كما في ليبيا وسوريا، وكذلك لدورها التوسعي نشر طائرات الدرونز التركية كما في أثيوبيا وأذربيجان.
وفي ظل ما تعانيه تركيا من أزمة اقتصادية عميقة نتيجة تراجع قيمة الليرة التركية، تحاول تركيا مهادنة أمريكا بالظهور كشريك في إدارة أزمة الطاقة الراهنة في أوروبا، حيث تجري الولايات المتحدة مباحثات مع موردي الطاقة من الخليج والشرق الأوسط لأجل توريد الغاز إلى أوروبا نظرا للصراع القائم بين روسيا والغرب والضغوط الروسية بالتلويح بوقف إمدادات الغاز إلى أوروبا، بالإضافة إلى أن التعاون مع حليف الولايات المتحدة في الشرق الأوسط سيساعد في تخفيف العقوبات الأمريكية على تركيا.
تركيا تدفئ العلاقات مع إسرائيل
أثارت اتفاقيات أبراهام بين إسرائيل ودول (الإمارات والبحرين والمغرب والسودان) مؤخرا قلق تركيا من تكوين جبهة عربية إسرائيلية في مواجهة المصالح التركية في المنطقة، حيث ساهم منتدى غاز المتوسط ومشاريع الطاقة بين إسرائيل ودول شرق المتوسط في تهميش تركيا وتقليص نشاطها في المنطقة، وكذلك اتفاقيات التعاون العسكري بين إسرائيل والمغرب والبحرين على التوالي في تعميق المخاوف التركية لاسيما في الشرق الأوسط، لذلك وجدت تركيا سياسات الطاقة مدخل تعاوني خصب لإقامة علاقات مع إسرائيل في ظل الزيارة المرتقبة للرئيس الإسرائيلي “إسحق هرتزوج” خلال شهر، وذلك بعد زيارته للإمارات في شهر يناير.
وطبقا لتصريحات رئيس مركز إستراتيجية الطاقة والأبحاث السياسية في تركيا (TESPAM) “أوغوزان أكينر”: “إن تطوير المرحلة التالية من حقل نفط وغاز ليفياثان الإسرائيلي العملاق يعتمد على إيجاد سوق مربحة ومفيدة لتكلفة تطويره، وهذا السوق يمكن العثور عليه في تركيا، لأنه الأقرب جغرافيًا وسيكون الأكثر فعالية من حيث التكلفة، مما يوفر إمكانية النقل إلى أوروبا”.
ممارسة نفوذ داخل الاتحاد الأوروبي
تحاول تركيا منذ عقود الدخول إلى الاتحاد الأوروبي، ولكن يواجهها العديد من التحديات الإقليمية والأيدولوجية، إضافة إلى اختلاف المواقف السياسية بين تركيا والدول الأوروبية وحدود الدور الإقليمي، كما لم تساعد ورقة اللاجئين في تحقيق الأهداف التركية، وتحاول تركيا استغلال فرصة تهديدات الطاقة التي تواجه الدول الأوروبية في الظهور بشكل تعاوني، والمساهمة في ضمان إمدادات الطاقة، كذلك، عرض أردوغان لعب دور الوساطة بين روسيا وأوكرانيا وعرض استضافة كلا من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين” ونظيره الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي”.
العلاقات بين تركيا وروسيا
في ظل خلافات طويلة بين روسيا ودول أوروبا بشأن سياسات نقل الغاز الروسي اتجهت روسيا للبحث عن شركاء جدد في ملف الطاقة. إذ استبدلت مشروع ساوث ستريم بمشروع ترك ستريم مع تركيا. وذلك بهدف إنشاء طريق تصدير بديل للاتحاد الأوروبي في إطار جهود موسكو لخفض الشحن عبر أوكرانيا. والذي مثل فرصة كبيرة تلتقي مع طموحات أردوغان.
أي إن تركيا صارت شريكا رئيسيا لمساعدة روسيا في تقليل اعتمادها على أوكرانيا. ففي عام 2020 تم إرسال نحو 12 مليار متر مكعب من الغاز عبر خطوط الأنابيب التركية بدلاً من خطوط الأنابيب الأوكرانية رغم المعارضة السياسية الأمريكية.
وبالتالي فإن أغلب المحاولات البديلة لمد أوروبا بالغاز بدلا عن روسيا ستواجه بضغوط روسية. خاصة أن روسيا تملك أوراق ضغط على تركيا وتسيطر على تطوير وتصدير الغاز من كردستان العراق. بالإضافة إلى أن موقعها في سوريا يمكنها من إغلاق خط أنابيب من حقول الغاز الإسرائيلية للشواطئ الجنوبية لتركيا.
علاقة إسرائيل بدول منتدى غاز المتوسط
ترتبط إسرائيل بالعديد من الالتزامات مع دول منتدى غاز المتوسط خاصة اليونان وقبرص، وبالتالي فإن اتجاهها للتعاون مع إسرائيل في مجال الطاقة يضع علاقتها مع دول المنتدى على حافة الخطر.
الصراع بين قبرص وتركيا
هناك خلافات تاريخية بين تركيا واليونان وقبرص حول المناطق الاقتصادية الخالصة وملكية حقول الغاز في المتوسط، ولا يمكن إتمام خط الغاز المقترح بين إسرائيل وتركيا بدون المرور من قبرص التي بطبيعة الحال، قد لا تمنحه الحق القانوني نظرا للعلاقات المتوترة مع تركيا إضافة إلى أنه يهدد مكانة قبرص كمحطة ترانزيت لمد أوروبا بالغاز.
الصراع البحري بين لبنان وإسرائيل
يشكل الصراع البحري بين لبنان وإسرائيل حجر عثر في أمن الطاقة، حيث تخوض البلدين نزاع في منطقة رقم 9 التي تمتد على حوالي 860 كيلومتر مربع حول منطقة في البحر الأبيض المتوسط، مما يهدد خطوط الترانزيت الممتدة من إسرائيل إلى أوروبا.
التداعيات المحتملة
تغييرات في دور الدول الفردية في نقل الغاز
تشكل أزمة الطاقة الحالية مدخلا رئيسيا لتغيير العديد من المفاهيم الخاصة بدول الترانزيت ذات الصلة بمشاريع الطاقة. على سبيل المثال أسهم مشروع ترك ستريم في وضع أنقرة على خريطة الجيوسياسية للغاز في أوروبا. كذلك التوترات بين روسيا والغرب تهدد من قيمة أوكرانيا كمحطة لنقل الغاز إلى أوروبا.
أزمة الطاقة الحالية هي أحد المآلات الرئيسية للتوترات بين روسيا ودول الغرب، وفي الوقت ذاته تشكل متغير جديد في تهديد العلاقات مع الدول الحلفاء لاسيما بين روسيا وتركيا أو بين إسرائيل واليونان وقبرص.
تنويع مصادر الطاقة
تشكل تحديات الغاز الروسي بالنسبة للدول الأوروبية حاليا وقدرته على تهديد حركة الحياة في أوروبا باعثا رئيسيا لإعادة التفكير في خيارات أخرى تنهي احتكار شركة غازبروم لموارد الطاقة. مثالا الغاز المسال أو مصادر الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر. لا سيما وأن الإدارة الأمريكية الجديدة أعطت الأولوية لمشكلة التغير المناخي بالعودة لاتفاق باريس للمناخ وكذلك وفقا لتوصيات قمة غلاسكو.