مع نهاية ستينيات القرن الماضي، كتب النظام الناصري شهادة وفاة جماعة الإخوان المسلمين، فالتنظيم عمليا كاد أن ينتهي ويتحول بفعل الحصار والضربات المتلاحقة إلى جثة هامدة في انتظار تشييع جنازتها، لتصبح هامشا على متن تاريخ مصر الحديث.

ما تبقى من الجماعة في مصر في ذلك الحين لم يكن سوى أعداد محدودة من الأفراد، فالذين وقعت عليهم الأحكام في قضايا 1954، 1965 انفضوا عنها، ومن بقى منهم على إخوانيته وخرج من السجون مطلع السبعينيات توجه مباشرة إلى بلاد النفط.

لم يبق كتاب واحد للإخوان ولا حتى المأثورات، ولم تكن هناك أسرة ولا شعبة ولا قسم ولا غيره ولا أحد يمكن أن يتلفظ بكلمة إخوان، بحسب ما سرد القيادي الإخواني السابق السيد عبد الستار المليجي في كتابه «تجربتي مع الإخوان.. من الدعوة إلى التنظيم السري».

ظلت الجماعة على هذا الحال، إلى أن قرر الرئيس الراحل أنور السادات بث الروح فيها من جديد، فالرجل الذي انقلب على سياسات وتوجهات سلفه جمال عبد الناصر، وضع مخططا لمجابهة «المتربصين بنظامه» من الناصريين واليساريين يقضي بإعادة انتاج تنظيم الإخوان والسماح لهم بممارسة نشاطهم، تماشيا مع الرغبة الأمريكية في حصار الزحف اليساري المدعوم من السوفييت في مناطق نفوذهم الجديدة بإطلاق التيارات الدينية الأصولية من القمقم.

في هذا التوقيت تواصل المسئول المخابراتي السعودي كمال أدهم مستشار الملك فيصل، والذي كان وثيق الصلة بالمخابرات الأمريكية مع الرئيس المصري وصارحه بضرورة إحياء النزعة الإسلامية، فيما أقنعه مستشاره محمد عثمان إسماعيل بأن لا سبيل لضرب المناوئين لحكمه إلا بوضع الإخوان مجددا على الخريطة السياسية والسماح لهم بالعمل.

بعدها كلف السادات صديقه محمود جامع بفتح خطوط اتصال مع قيادات الإخوان الهاربة وطمأنتهم تمهيدا للعودة إلى مصر، بالتوزاي صدرت قرارات بإطلاق سراح قادة التنظيم المحبوسين في السجون وقرارات أخرى بعودة الجنسية المصرية للكوادر المهاجرة والتي تم سحبها منهم في العهد الناصري.

ومع الوقت توطدت علاقة السادات بمرشد الجماعة المُفرج عنه عمر التلمساني، وتوالت اللقاءات بين الرئيس والمرشد بترتيب من العراب محمد عثمان إسماعيل، إلا أن كيان الجماعة التنظيمي لم يكن قادرا على تحقيق ما أراده الرئيس المؤمن، فالجماعة كانت أشبه بـ«بيت خرب هجره أصحابه منذ فترة وعندما عادوا لم يكونوا يملكون القدرة على تجديده وترميمه».

في هذه الأثناء نشطت الجماعة الإسلامية الطلابية التي انطلقت من كلية طب جامعة القاهرة وحققت نجاحا ملحوظا في جذب المئات من الشباب المتدين إليها، ثم انتقل نشاطها شيئا شيئا فشيئا إلى جامعات مصر، وعمل قادة الإخوان المفرج عنهم على استيعاب هؤلاء الشباب.

نجح القيادي الإخواني كمال السنانيري في ضم الجسد الرئيسي للجماعة الإسلامية الطلابية التي كان يتزعمها في ذلك الوقت طالب كلية الطب عبد المنعم أبو الفتوح ومن خلفه عصام العريان وثناء أبو زيد وحلمي الجزار وغيرهم، فيما رفضت مجمومة الصعيد الانضمام إلى التنظيم واستمرت تحمل اسم الجماعة الإسلامية بزعامة كرم زهدي وناجح إبراهيم، أما مجموعة الإسكندرية فأسس عدد منهم ما عرف فيما بعد بـ«المدرسة السلفية» وبرز في قيادتها محمد إسماعيل المقدم وياسر برهاني وأحمد فريد وسعيد عبد العظيم.

شارك أبو الفتوح ورفاقه في إعادة التأسيس الثاني لجماعة الإخوان ورمموا بيت التنظيم الخرب ونفخوا فيه الروح، وبدأت الجماعة من خلال تلك الكوادر النشطة في عملية التسلل إلى المجتمع (جامعات ومساجد ومدارس وجمعيات أهلية ونواي أعضاء هيئة التدريس ونقابات وبرلمان) حتى صاروا نجوم شباك.

لم يقطع سلف السادات الطريق أمام تمدد التنظيم، واختار أن يلعب معهم «الجيم» على طريقته، فالرجل الذي شاهد حادث المنصة كان حريصا على أن تكون هناك تيارات دينية أكثر اعتدالا من التنظيمات الأصولية التي حملت السلاح واغتالت رأس الدولة، إلا أنه رسم خطا واضحا لحركة الجماعة إن تجاوزته لاحقها بالضربات الأمنية حتى لا يذكرها بأنها تقوم بدورها في لعبة النظام، ومع تصاعد موجات الإرهاب في العالم استخدمهم مبارك كفزاعة ونجح في إقناع القوى الدولية والإقليمية أن فتح الباب أمام الحرية والديمقراطية والتعددية لن يأت إلا بالجماعات الدينية إلى الحكم.

خلال العقود الثلاثة التي سبقت ثورة 25 يناير شهد الإخوان انتعاشة لم يشهدوها منذ اندلاع ثورة 23 يوليو 1952، خلال تلك الفترة ورغم أن جيل السبعينيات هو الذي لملم شتات التنظيم، إلا أن أعضاء النظام الخاص أو من أُطلق عليهم «القطبيون» هم الذين كانوا يسيطرون على مفاصل الجماعة.

ورغم أن من يقال عنهم إصلاحيون أو تيار العمل العام من جيل السبعينيات في الجماعة هم من تصدروا المنصات الإعلامية والعمل السياسي والنقابي إلا أن الكلمة الأولى والأخيرة كانت لمكتب الإرشاد الذي يسيطر عليه رجال النظام الخاص السري الذين «لا يستطيعون العمل في ظل أي قانون أو لا ئحة.. إنهم أمة همجية بمفهوم الدولة الحديثة يرفضون القانون أو العهد أو الدستور أو العدالة كل هذه المعاني تمثل أعداء بالنسبة لهم»، بحسب الإخواني المنشق عبد الستار المليجي في كتابه السابق الإشارة إليه.

ويشير المليجي إلى أن أزمة جماعة الإخوان تتمثل في وقوعهم في قبضة التنظيم السري وتهميش جيل السبعينيات وهو ما وضع الجماعة في مواجهة مع الدولة والمجتمع كما وضعها في مواجهة مجموعات من داخل الصف ترفض طريقة إدارة الجماعة باعتبارها سرية ومحظورة، «صارت الجماعة كالأم التي تأكل أولادها».

وأشار المليجي في كتابه إلى اتهامات مالية تتعلق بغسيل الأموال، وهي تهمة تتصل بالشرف الاقتصادي والسمعة المالية، مسلطا الضوء على شبهات اختلاط أموال الدعوة (الاشتراكات والتبرعات) بأموال أعضاء النظام الخاص الذين قادوا الجماعة إلي المجهول .

ظل الصراع غير المتكافئ بين ما يسمى تيار العمل العام الذي يمثله جيل السبعينيات وبين التيار القطبي والذي يمثله أعضاء النظام الخاص وتلاميذهم الجدد، قائما إلى أن حسمه المرشد السابع للجماعة محمد مهدي عاكف لصالح الفريق الأخير.  فالرجل الذي تولى مسئولية الجماعة من سلفه مأمون الهضيبي عام 2004، سلمها بالقطعة إلى نسيبه محمود عزت رجل التنظيم الحديدي، وخيرت الشاطر المتحكم في بيت مال الجماعة.

كان عهد عاكف هو البداية الحقيقية للانهيار الذي حل بالجماعة وكتب نهايتها لاحقا، فالرجل الذي حول مكتب إرشاد الإخوان إلى «سيرك» بتعبير نائبه محمد حبيب القيادي الإخواني المستقيل، سلمها تسليم مفتاح إلى «أبو نسب» محمود عزت أمين الجماعة والأخير نسق مع صاحب المحفظة المالية خيرت الشاطر الذي كان ينفذ حكما بالحبس في سجن طره منذ 2007 كل المؤامرات والترتيبات التي انتهت بإبعاد مجموعة العمل العام أو من أطلق عليهم التيار الإصلاحي عبر انتخابات داخلية تم تزوير كل مراحلها بحسب شهادة عدد من قادة الجماعة حينها.

تمت الإطاحة برموز التيار الذي لعب دورا كبيرا في طرح الجماعة في الفضاء السياسي العام، سواء بفتحهم قنوات اتصال وحوار مع المخالفين معهم من أبناء التيارات السياسية الأخرى، أو بالتواصل مع ساسة وحقوقيين غربيين.

عملت تلك المجموعة البراجماتية على تقديم الإخوان باعتبارها جماعة سياسية معارضة تؤمن بالديمقراطية وقادرة على التأقلم مع مفردات العصر بتطوراته الجديدة، فلا مانع لديهم من الاتصال بالأمريكان والقبول باتفاقية السلام مع إسرائيل، رغم تزعمهم المظاهرات التي تطالب بفتح باب الجهاد ضدها في الشوارع.

إبعاد هؤلاء لم يُبق في الجماعة سوى «المتردية والنطيحة وما أكل السبع»، بحسب توصيف الشيخ يوسف القرضاوي الزعيم الإخواني التاريخي لمن بقوا في مكتب الإرشاد بعد إخراج عدد من المنتسبين لما يسمى تيار العمل العام عام 2009.

القرضاوي اعتبر في تصريحات لكاتب هذه السطور نشرتها بجريدة «الشروق» حينها أن إبعاد شخصيات مثل عصام العريان وعبد المنعم أبو الفتوح «خيانة للدعوة والجماعة والأمة كلها»، مستنكرا تحجيم دور الإصلاحيين ومن وصفهم بالعناصر القوية.

بعد هوجة الانتخابات الداخلية المزورة التي جرت في نهاية 2009 ومطلع 2010، سيطر التيار القطبي بالكامل على مكتب إرشاد الجماعة، وصار التنظيم بكامله في قبضة عزت والشاطر ومحمود حسين ورشاد البيومي ومحمود غزلان ومحمد مرسي وسعد الكتاتني، وعلى رأسهم من الناحية النظرية محمد بديع المرشد الثامن والذي ينتمي مباشرة إلى التيار القطبي.

قاد القطبيون الإخوان إلى الهاوية، بعد أن تم تجريف الجماعة بالكامل ممن تمرسوا على العمل السياسي والنقابي، والذين كانوا يطلقون على أنفسهم «البناويون» نسبة إلى حسن البنا مؤسس الجماعة، والحقيقة أن أفكار سيد قطب هي امتداد طبيعي لما وضعه البنا من أسس رفع عليها أعمدة جماعته من سرية وجندية وثقة مطلقة في القيادة وسمع وطاعة وعنف مؤجل.. ألخ.

اندلعت ثورة 25 يناير، وخرج الملايين إلى الشوراع للخلاص من حكم نظام مبارك الذي استمر 30 عاما، قادة الجماعة الذين عقدوا مع هذا النظام الصفقات والتفاهمات وقبلوا في مرحلة ما أن يغضوا الطرف عن مشروع التوريث، أعلنوا عدم المشاركة في مظاهرات لا يعلمون عنها شيئا ولا يعرفون من دعا إليها، وعندما وضحت الرؤية وتأكدوا من أن الشعب عقد العزم قفزوا عليها وتصدروا منصات ميادين التحرير، وفي الخفاء التقوا بقيادات الحزب الوطني وبنائب الرئيس حينها عمر سليمان عسى أن يحصلوا على صفقة جديدة.

وبعد خلع مبارك وبما أنهم التيار الأكثر عددا وتنظيما، خاضوا بترتيب من المقامر خيرت الشاطر الخارج لتوه من السجن معركة الانتخابات البرلمانية ونافسوا على كل مقاعد مجلس الشعب رغم تعهداتهم السابقة بعدم المنافسة إلا على 30% فقط، ثم «نكصوا بعهدهم مع الله والشعب» وشاركوا في معركة الرئاسة والتي تعهدوا بعدم خوضها، بل فصلوا القيادي عبد المنعم أبو الفتوح لأنه أعلن نيته خوض المعركة.

تخيل إخوان النظام الخاص أنهم قادرون على بلع الدولة وأن حلم «التمكين» الذين يسعون إلى تحقيقه منذ نحو 8 عقود صار واقعا وبمقدورهم أن يمسكوه بأيديهم، ولأول مرة في تاريخ مصر المعاصر وصل إخواني إلى أعلى هرم الدولة متقلدا منصب رئيس الجمهورية.  ولأن الرئيس الراحل ابن مخلص لجماعته وأحد كوادر النظام الخاص، سارع إلى الصدام مع الدولة ومؤسساتها، ليس بقرار منه بل بتوجيهات مكتب الإرشاد الذي لم يكن سوى عضو فيه بينما كان يسبقه في التراتبية بديع وعزت والشاطر.

انتهى الصراع الذي استمر 12 شهرا بـ «التهام الدولة للجماعة وكسر ضلوعها وعظامها»، على ما قال الكاتب الصحفي أنور الهواري في مقاله الأسبوع الماضي، ثم تشتت قيادات الجماعة بين المنافي والسجون، أما القواعد، فمنهم من كفر بالتنظيم بعدم ما فاق من السكرة وبعضهم أعاد النظر في الأفكار المؤسسة برمتها، ومنهم من سلم نفسه إلى تنظيمات وجماعات أخرى، ومنهم من دخل السرداب السري انتظارا للعودة.

كان من الممكن أن تستمر الجماعة لمدة أطول لو كان تيار العمل العام هو الذي تصدر المشهد في السنوات التي سبقت ثورة يناير وتبعتها، فهذة المجموعة تملك رؤية براجماتية يجعلهم يحسبون خطواتهم جيدا قبل اتخاذ أي قرار متعلق بالترشح أو التحالف أو الصدام، وهو ما لا يملكه خصومهم داخل الجماعة.

قد يكون من حسن طالع مصر أن من تولى القيادة واتخاذ القرار في جماعة الإخوان خلال أحداث الثورة وما تلاها هم التيار القطبي، فوجود هؤلاء أظهر الجزء الغاطس من جسد التنظيم ودفع الأفكار والأدبيات المدفونة إلى السطح لتنكشف الجماعة الطامحة الطامعة في السيطرة والتكويش أمام المجتمع، ليخرج الشعب إلى الشوارع داعيا إلى إسقاطها وطي صفحتها.

يرى البعض أن الجماعة قد تقوم من عثرتها وتعود بقرار من السلطة، أو كرد فعل على الحصار المفروض على المجال العام والذي يمنع أي عمل سياسي علني من خارج الدائرة التي رسمها النظام. ويتجاهل هؤلاء أن الظروف والمتغيرات التي سمحت للجماعة بالعودة في سبعينيات القرن الماضي قد تغيرت، فالسادات فتح لهم المجال لتحقيق أهدافه، ولم يتمكنوا من الحركة إلا بعد تجنيدهم جماعة كبيرة نشطة في معظم الجامعات، فمن أين لهم الآن بسادات جديد، وأين هي تلك الجماعة الشابة التي تقبل الوقوع في أسر التنظيم الحديدي مرة أخرى؟.