ظللتُ أردد أن معرض الكتاب (عايز فلوس)، وفي آخر دوراته في «مدينة نصر»، قبل أن ينقل إلى موقعه الحالي تأكد لي أنه (عايز فلوس وصحة)، ومن ساعتها لم أذهب إلى المعرض الذي  دخلته أول مرة من خمسين سنة، مكثت طوال تلك الفترة الطويلة أرتاده بانتظام، وفي كل مرة كنت أخرج منه بمجموعة كتب، ودوريات، ومنشورات، ما يزال الكثير منها يزين مكتبتي إلى يومنا هذا.

لست أعرف كيف تكون حياتي لو أني لم أتعلم القراءة، خاصة وأنا ابن قرية منسية مرمية على طريقٍ ضيقٍ يصل بين مدينتي «قطور» بالغربية و«دسوق» بكفر الشيخ، لكني أعرف على وجه اليقين هذه المتعة التي كنت سأخسرها، لو لم يكن في قدري أن أتعلم القراءة مبكرًا في كُتَّاب القرية قبل أن ألتحق في القاهرة بالمدرسة الابتدائية.

وما زلت أذكر متعتي حين كنت أتبارى مع صبية العائلة ممن هم أكبر مني في قراءة لافتات المحلات: «بقالة الاشتراكية، أجزخانة الوحدة العربية، شارع همفرس»، وبعد أن حصلت على الابتدائية وجدت كنزي في سلسلة قصص «المكتبة الخضراء للأطفال»، وكذلك قصص«مكتبة الكيلاني»، ومعها مجلات دورية كنت أحصل عليها من بائع الكتب القديمة مثل «سمير» و«ميكي» و«سوبرمان».

لم ألبث طويلًا في هذه المرحلة حتى انطلقت بعدها في القراءة الأعمق، ونحيت كل ما فات جانبًا، وكان من حظي أن ابن عم لي يكبرني بنحو خمس عشرة عاما يدرس العلوم الأزهرية، كان يقرأ عليًّ ما يحفظه القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، ومن متون أمهات الكتب، وما تزال تلك السور والأحاديث في تلافيف الذاكرة إذا أسترجعتها تعود نديَّة كأني حفظتها بالأمس، كان أول بيت حفظته في شرح «ألفية ابن مالك» من كثرة تكراره: (كَلامُنَا لَفْظٌ مُفِيدٌ كاسْتَقِمْ، وَاسْمٌ وَفِعْلٌ ثُمَّ حَرْفٌ الْكَلِمْ)، وبيتًا آخر ما يزال يتردد على ذاكرتي بدون مناسبة يتعلق باقتران جواب الشرط بالفاء إذا كانت جملة الجواب: (اسميَّةٌ طلبيَّةٌ وبجامدٍ.. وبما، ولن، وبقد، وبالتسويف).

**

أحببت أكثر ما أحببت في حياتي أربعة أشياء: القراءة، والسفر، والسينما، وصوت «فيروز»، أما القراءة فكانت بالنسبة لي هي مفتاح الحياة، هي التنزه في عقول الكُتَّاب، وكانت تمنحني القدرة على السفر (بدون تأشيرة ولا تذاكر، ومن غير أن أتحرك من مكاني) تأخذني إلى عوالم من الأفكار، والأحداث، والمدن، والتورايخ، ومساحاتٍ من الخيال، وأخرى من الحقائق، في حين كان السفر يمنحني القدرة على قراءة الأماكن والناس والعادات وختلاف الثقافات.

وكانت السينما تمنحني ذلك كله في زمن قياسي، (ساعتان على الأكثر)، تجمع لي بين خلاصات القراءة وخبرات السفر وجماليات الفنون، أما صوت «فيروز» فهو الصاحب الذي لم يفارقني منذ مراهقتي حتى اليوم، ظل يؤنس وحدتي في أي حالة من حالاتي النفسية، محبًا كنت أم ساخطًا، حزينًا أم تحملني الفرحة على جناحيها، محبطًا أم تطير بي فراشات التفاؤل.

**

كانت الكتب لها حضور ظاهر في بيتنا، تملأ  أرفف المكتبة التي تحتل مساحة حوائط البيت، وكانت القراءة تؤنس وحدتي، وتفك رموز انطوائيتي في تلك السن، وكان «معرض الكتاب» الذي يأتي في أجازة نصف العام الدراسي، بمثابة فرحة، مزدوجة بالنسبة لصبي مثلي لم يكن الخروج والفسح من الأشياء المتاحة ولا المباحة، وكانت زيارة «القبة السماوية» واحدة من طقوس زيارة المعرض حين كان في «الجزيرة» منذ نشأته حتى انتقل منها إلى أرض المعارض في «مدينة نصر»، ومن بعد إلى مكانه الحالي الذي لم يتسن لي زيارته.

لم أعرف فـي حياتي ساعات أجمل ولا أسعد من تلك التي قضيتها في الطواف على المكتبات في أرض المعارض، ثم تلك الساعات التي تعقب رجوعي إلى البيت فأسارع إلى كتبي الجديدة أشمها، وأتصفح صفحاتها، بلهفة اللقاء الأول بين حبيبين جمعت بينهما لوعة الشوق.

**

كنتُ أقرأ بعشوائية، كل ما يقع تحت يدي بالصدفة، أو ما يشدني غلافه أو أسم مؤلفه، أو سمعت أو قرأت عنه في كتاب آخر، لم أتعلم أهمية القراءة الممنهجة إلا مع دخولي الجامعة، ساعتها أحسست أن قراءتي كانت محصورة في مساحة محدودة من المعرفة، عندها كسرت تلك الأسوار، وتنوعت قراءاتي وانفتحت أمامي عوالم كنت فد أغلقت أبوابها من قبل.

في تلك المرحلة بدأت قراءاتي في الماركسية والفلسفة، والدين المقارن، وسائر العلوم الاجتماعية، وحده علم الاقتصاد، الذي لم يكن يروق لي القراءة في كتبه،  وكان من المواد الثقيلة على قلبي حين درست مادته في كلية «الحقوق» على يد أستاذنا «رفعت المحجوب»، رغم أني حصلت على تقدير جيد حدا، فقط لأني كنت قد نشنت على ثلاثة أسئلة متوقعة ذاكرتها واستطعت أن أجيب عليها، وكانت فرحتي عارمة حين صدقت توقعاتي لحظة اطلعت على ورقة الأسئلة.

**

«قل لي ماذا قرأت، أقل لك من أنت».. لست أعرف ما إذا كانت هذه العبارة من أقوال أحدهم رسخت في ذاكرتي أم أنها من بنات أفكاري لكن ما أعرفه جيدا أنها تعبر بصدق عن تجربتي الشخصية، فقد كان من نعم الله عليًّ أني أدمنت القراءة منذ بدأتُ أفك الخط وأركب الحرف فوق الحرف ليصير كلمة.

مقولة أخرى أعرف أنها من بنات أفكاري فقد كنت دائما أردد: «أدبتني الكتبُ، وعلمتني الحياة»، فقد كان لأثر القراءة في حياتي فضل كبير على توجهاتي منذ البدايات الأولى، وكما في كل زمان ومكان كان الأهل والأقارب والمختلطون معنا يسألون السؤال الدائم للأطفال: «تحب تطلع إيه لما تكبر؟»، ما أذكره أن إجابتي تراوحت بين أكثر من إجابة، مرات كنت أقول: نفسي أطلع مهندس في السد العالي، وكان السد العالي وقتها هو مشروع مصر القومي الذي تحالفت ضده القوى الكبرى في العالم لكي توقف بناءه، وفشلوا وفشلت كل مؤامراتهم ضد مصر والسد وحركة التنمية المستقلة التي تسارعت خطاها في الستينيات من القرن الماضي.

**

وفي مرات أخرى كنت أقدم إجابة أخرى على السؤال فأقول: (عايز أطلع عباس محمود العقاد) وكنت قد اقتحمت القراءة في مجالات أكبر من سني بتشجيع من ابن عمي، وكانت مكتبته عامرة بالكتب في كل مناحي الثقافة والفكر والدين، وكان اسم العقاد يذكر مع صعوبة عباراته وتعقيد أفكاره، خاصة وأني بدأت أولا بقراءة أشعاره فلم أفهمها ولم أستسغ منها بيتا واحدا، ونشأ داخلي نوع من التحدي الصبياني فتركت شعره الذي تصورته أسهل من كتبه، وبدأت بقراءة أحد عبقرياته، أظنها «عبقرية عمر»، وللحق فقد شدتني إليها جدا، وقربتني بشدة من شخصية وعبقرية الفاروق، كنت أتجاوز الصفحات التي يصعب عليَّ فهمها إلى غيرها مما أفهمه حتى انتهيت منها، وقد صرت عقاديًا مولعا به وبكتابته، وكنت أكتب اسمي الثلاثي أسفل اسم العقاد الثلاثي هكذا: عباس محمود العقاد ثم محمد محمود حماد وأحس بطربٍ وفخر شديدين للوزن الواحد والقافية المشتركة بين الاسمين.

وكان سهلا عليَّ دراسته في السنة الأولى من المرحلة الثانوية حين قرروا علينا واحدة من تلك العبقريات، وكان مدرس الفصل يستدعيني إلى القراءة بصوت جهوري لكل من العبقرية و«الميثاق» وقد كان مقررا بدوره علينا في نفس السنة.

وصادف أنني قرأت عن «طه حسين» قبل أن أقرأ له، حين ساقني القدر إلى مطالعة كتاب «معارك فكرية» لمؤلفه الأستاذ «أنور الجندي»، وفيه وجدت نقدا شديدا وساخنا وربما لاذعا لأفكار «طه حسين» بأقلام الكتاب الكبار الذين تعرفت عليهم دفعة واحدة من خلال هذا الكتاب الكبير، فشملهم حبي الذي لم يعد يقتصر على «العقاد» وحده، وللحق فقد وجدت قلم «طه حسين» أسلس ولغته أقرب إلى العقل، وربما أكثر تأثيرا في قارئه، لجدة أطروحاته، وبدأت بقراءة «الأيام»، واقتربت من كل كتبه بعد ذلك.

**

كان جل انشغالي في مرحلة ما قبل الجامعة ينصب على قراءة كتب التراث وأعلام العرب والمسلمين، ومع دخول الجامعة مع بداية السبعينيات انفتحت أمامي طاقة القدر الثقافية، واتجهت بوصلة قراءاتي إلى مطالعة وقائع التاريخ القريب، وقد كنا نراه يزيف أمام أعيننا كل يوم، في تلك الأثناء وجدت كنزي المفقود في كتابات «محمد حسنين هيكل»، و«كامل زهيري»، و«طارق البشري» و«عبد العظيم رمضان» وصلاح عيسى»، و«محمد عودة».

التهمنا في تلك الآونة كتاب عبد العظيم رمضان «تطور الحركة الوطنية في مصر: 1918-1945»، ومعه كتاب المستشار طارق البشري: «الحركة السياسية في مصر 1945 -1952ـ» والكتابان من منظورين مختلفين يؤرخان كل بطريقته ومنهجه لفترة تبدأ بنهاية الحرب العالمية الأولى 1918، وتنتهي بقيام ثورة 23 يوليو 1952، ثم كان كتاب «ميلاد ثورة » كأنه يعزف على أوتار وعينا بلحن تمنت قلوبنا وعقولنا أن تسمعه.

وكان حظي أن أتعرف على الأستاذ محمد عودة صاحب «ميلاد ثورة» مبكرا ونحن ما نزال طلابا بالجامعة، وكان هو نفسه جامعة متحركة، فضلا عن ثقافته الموسوعية، وقراءاته المتعددة في شتى مناحي الثقافة وبلغتها الأصلية فقد كان يتقن الفرنسية والإنجليزية كما لو كانتا لغته الأصلية، وكان يطوف بنا على المسارح ودور السينما ومعارض الفن التشكيلي فعوضنا عن عشرات الكتب التي لم نستطع قراءتها. وبعيدا عن ولع جيلي بكتاب «ميلاد ثورة» فهو واحد من أهم وأمتع كتب محمد عودة، وأظن أنه أول الكتب التي حببت إليًّ فكرة إعادة قراءة تاريخنا ووجهني وجهة جديدة في قراءاتي ما تزال تعيش معي حتى يومنا هذا وبعد مرور ما يربو على أربعين عاما.

كانت الأسماء التي كانت تملأ سماء وأرض بلدنا، ونحن لا نزال على عتبة الدنيا نتطلع الى أفضل مستقبل، التي تمثل قدوتنا من نوعية كتاب مثل العقاد وطه حسين وهيكل وأحمد بهاء الدين، ومشايخ مثل محمد الغزالي ومحمد أبو زهرة والشيخ شلتوت، وكنا محظوظين أنا نشأنا في مجتمع يضع في صفوفه الأولى علماء الأمة ومفكريها وكتابها ومهندسيها وبناة نهضتها الحقيقية، وكان إقبال الآباء والأمهات على إلحاق أبنائهم وبناتهم كليات مثل الهندسة والطب والزراعة فقد كان نجوم المجتمع وقادته من هذه الكليات، باختصار كنا محظوظين لأن المجتمع الذي نشأنا فيه كان جادا أكثر، ويعرف هدفه بشكل أوضح، ويمضي في طريقه بثقة أكبر.

**

أجمل مناقب «جمال عبد الناصر» عندي أنه كان حسب تعبير الأستاذ «كامل زهيري» لي أنه كان من مشاهير القراء، كان اهتمام عبد الناصر بالثقافة يتبدى أكثر في تنوع قراءاته، التي لم تهمل كتب الأدب بما فيها الروايات العالمية. شهادة مثقف كبير مثل «كامل زهيري» نقيب الصحفيين الأسبق تؤكد لنا أن «أهم مميزات عبد الناصر التي لمستها أنا بنفسي أنه كان قارئا محترفا وعندما ذهبت إليه في بيته وجدت في مكتبته مئات من الكتب الهامة لتاريخ مصر، حتى الكتب التي كان قد استعارها أيام كان طالبا كلها من أمهات الكتب».

لم تكن تلك المرة الأولى التي ألتفت فيها إلى شغف «عبد الناصر» بالقراءة، وحين تعرفت عن قرب بالسفير «محمد وفاء حجازي»، وكيل وزارة الخارجية الأسبق والذي عمل مديرا لمكتب «عبد الناصر» إبان مسئوليته عن وزراة الداخلية في أوائل أيام الثورة، ذكر لي اهتمام «عبد الناصر» بقراءة كتاب «الدولة بين النظرية والتطبيق» من تأليف «هارولد لاسكي»، وقرر بعد أن فرغ من قراءته أن يجري توزيعه على العديد من قيادات الصف الأول من الضباط الأحرار ليقرأوه.

ومن الكتب التي حرصتُ على مطالعتها بترشيح من «جمال عبد الناصر» ثلاثية «تروتسكي»، التي كتبها «إسحاق دويتشر» (1907 – 1967) أستاذ التاريخ السوفيتي في جامعة «هارفارد» وكان الأستاذ «هيكل» هو من أشار إلى أن «عبد الناصر» أعطاه الأجزاء الثلاثة: ( الأول: «النبي الأعزل» والثاني: «النبي مسلحا»، والثالث «النبي منبوذا»، أو «النبي في المنفي»)، يقول هيكل: «أعطاني الرئيس الأجزاء الثلاثة، وقال لي اقرأهم، ووجدت بخطه علامات على الجزء الأول».

**

من ذكرياتي المحببة إلى قلبي عن «معرض الكتاب» حين تعرفت في أحد أجنحته على صديقتي المستشرقة الكرواتية «تاتيانا بَيْتش» التي زارت مصر أواخر ثمانينيات القرن الماضي لتجمع المادة العلمية لرسالة الدكتوراه التي كانت تعدها عن أدب المقاومة الفلسطينية، واختارت الأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني وروايته الشهيرة «رجال في الشمس» نموذجا لهذا الأدب.

بدأ الحوار بيننا عن القضية الفلسطينية وانتهى إلى الأدب العالمي، وكانت حُجة فيه، قارئة له بلغات ثلاث: الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وكانت شديدة الإعجاب بكثير من أدباء العالم، وعلى رأسهم توماس مان، وفيكتورهوجو وآخرين كثيرين، لكنها ظلت تحتفظ بعشقها الخاص لأدب وكتابات «ألدوس هكسلي»، وكانت هي أول من حفزني على قراءة كل أعماله، فقرأت أولا رواية «الجزيرة»، ثم رواية «نقطة مقابل نقطة»، أو «نقطة ونقطة مضادة».

ويمكن أن أنسب الفضل إلى «هكسلي» فيما جرى لي من نقلة في نوعية قراءاتي، وجعلتني كتاباته أكثر اهتماما بالأدب الباحث عن مستقبل البشرية في ظل ما طرأ عليها من تغيرات كبرى، وما ماج في بحورها من أمواج فكرية تلاطمت عبرها حياة البشرية بين مد وجزر. وكان أكثر ما شدني في تلك الفترة من الانكباب على قراءة الأدب العالمي رواية توماس مان «آل بودنبروك»، ثم كانت رواية «1984» للكاتب جورج أورويل، وكثير من الكتاب الآخرين.

**

أصقلتنا قراءات الطفولة والشباب بالكثير من المعرفة ربما لم تتح لنا بعد ذلك، وأثرت حياتنا الكتب حين كبرنا، وهي ما تزال قادرة على منحنا متعة يمكن أن يقاتلنا عليها السلاطين، وكنت تمنيت صغيرا أن أصبح كاتبًا، والفضل الأول يرجع لوجود المكتبة والكتاب في البيت، وكان «معرض الكتاب» يمثل زادًا سنويًا لمكتبتي، ثم تعلمت كبيرا أن الذي يتصدى للكتابة، لابد له أن يشحن وعيه ووجدانه دائما عبر القراءة، وإلا كان كمن يريد أن يركب سيارته ليقود بها على الطريق السريع وهي تكاد تكون خاوية من البنزين.