بالحكم على التطورات الأخيرة حول أوكرانيا، قد تبدو سياسة الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة تجاه جيران روسيا وكأنها فاشلة. إذ نشرت موسكو أكثر من 100 ألف جندي على الحدود الأوكرانية. وباءت الجهود الأمريكية لتهدئة الوضع إلى الآن بالفشل.

إلا أن هذه الأزمة الأمنية الأكثر خطورة في أوروبا منذ عقود، لم تكن نتيجة فشل واشنطن في تحقيق أهدافها الأساسية في المنطقة. بل وللمفارقة، هي أحد أعراض نجاحها الجامح. فمنذ نهاية الحرب الباردة، سعت الولايات المتحدة إلى تعزيز سيادة ما كان يُطلق عليه “الدول المستقلة الجديدة”. وبالتالي، ضمان عدم ظهور قوة عظمى أوراسية جديدة من تحت أنقاض الاتحاد السوفيتي. كان ذلك يتم بتشجيع هذه الدول على تكوين علاقات أعمق مع الغرب -وإضعاف روابطها مع موسكو. على أمل تعزيز استقلالها.

لقد عملت استراتيجية واشنطن بشكل جيد للغاية. فالعديد من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وخاصة أوكرانيا، اريد الآن الانضمام إلى المعسكر الغربي. بينما روسيا مستعدة لخوض الحرب في سبيل وقف هذا الانضمام. وبغض النظر عن الكيفية التي تدور بها الأزمة الحالية حول أوكرانيا، من المتوقع أن تتصادم روسيا مرة أخرى مع الولايات المتحدة وحلفائها حول وضع هذه الجمهوريات السوفيتية السابقة. ذلك ما لم تتمكن جميع الأطراف من الاتفاق على ترتيب مقبول بشكل متبادل للنظام الإقليمي. وهذه هي البراجماتية الصرفة التي يجب أن تدار بها الأزمة لكسر دائرة الصراع مع روسيا، بحسب تقرير جديد نشرته مجلة “فورين أفيرزلصموئيل تشاراب، كبير العلماء السياسيين في مؤسسة RAND.
وتقدم مبادرة حديثة لمؤسسة RAND ومؤسسة فريدريش إيبرت تقدم أسسًا محدودة للتفاؤل بشأن الأزمة الأوكرانية. وقد جمعت مؤسسات الفكر والرأي مجموعة من الخبراء غير الحكوميين من الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وروسيا، وخمس من دول أوراسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي، وكلفتهم بوضع خطة لتسوية مقبولة للطرفين. فيما أشارت الوثيقة التي أنتجوها إلى إمكانية وجود أرضية مشتركة كافية للهروب من دائرة الصراع تلك.

روسيا ليست الخيار الوحيد المتاح

في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي مباشرة، لم يكن واضحًا على الإطلاق أن الجمهوريات السابقة ستظل دولًا ذات سيادة. إذ أصبحت العديد من وحدات الجيش الأحمر المنتشرة في هذه البلدان وحدات عسكرية روسية بين عشية وضحاها. بينما قاتل العديد منها جنبًا إلى جنب مع الحركات الانفصالية التي حملت السلاح ضد الحكومات المستقلة حديثًا.

كانت الجمهوريات السابقة أيضًا تعتمد اقتصاديًا بشكل كبير على موسكو. وذلك بفضل إرث الاقتصاد السوفيتي المركزي. فسيطرت روسيا في البداية على جميع خطوط أنابيب تصدير النفط والغاز في الاتحاد السوفيتي السابق. بما في ذلك تلك التي تؤدي إلى السوق الأوروبية المربحة. وواجه صانعو القرار في موسكو صعوبة في التكيف مع حقيقة أن نظرائهم في الدول المجاورة أصبحوا الآن متساوين في السيادة بموجب القانون الدولي، وليسوا رؤساء أحزاب إقليمية تابعة لهم.

كانت التداعيات على الولايات المتحدة واضحة: ما لم تسعى إلى تعزيز العلاقات الغربية مع أوكرانيا وبيلاروسيا وجورجيا وكازاخستان والجمهوريات السبع الأخرى غير المطلة على البلطيق، يمكن لموسكو إعادة بناء نوع من الاتحاد عبر الكتلة اليابسة الأوراسية.

دخل الرئيس الأمريكي بيل كلينتون منصبه في عام 1993، وفقًا لكبير مستشاريه لروسيا ستروب تالبوت، ولديه قناعة بضرورة إقناع الجميع في المنطقة بأن”روسيا ليست الخيار الوحيد المتاح”، وأن الولايات المتحدة ملتزمة بمساعدة الدول المستقلة الجديدة.

كتب مستشار الأمن القومي السابق زبيجنيو بريجنسكي في مجلة الشؤون الخارجية في العام التالي، عن الهيكل الفكري لهذا النهج: “يجب أن يكون الهدف المركزي لاستراتيجية كبرى واقعية وطويلة الأجل هو تعزيز التعددية الجيوسياسية داخل الاتحاد السوفيتي السابق”.

دخل الرئيس الأمريكي بيل كلينتون منصبه في عام 1993، ولديه قناعة بضرورة إقناع الجميع في المنطقة بأن "روسيا ليست الخيار الوحيد المتاح".
دخل الرئيس الأمريكي بيل كلينتون منصبه في عام 1993، ولديه قناعة بضرورة إقناع الجميع في المنطقة بأن “روسيا ليست الخيار الوحيد المتاح”.

ما فعلته الولايات المتحدة في مواجهة روسيا

ضغطت واشنطن من أجل خطوط أنابيب جديدة من شأنها في نهاية المطاف كسر احتكار روسيا لتصدير الطاقة. وبالتالي تزويد البلدان المنتجة وبلدان العبور بتدفقات إيرادات مستقلة. كما قدمت الدعم السياسي والمالي للتجمعات الإقليمية للجمهوريات السابقة.

وجلبت أيضًا جيلًا جديدًا من الضباط العسكريين من هذه الدول للدراسة في المؤسسات التعليمية العسكرية الأمريكية. ذلك على أمل أن يعودوا إلى الوطن بنظرة عالمية أقل تمحورًا حول روسيا من نظرائهم الأكبر سنًا الذين درسوا في موسكو. وكذلك دعمت جهود الاتحاد الأوروبي لتشجيع هذه الدول على تبني المعايير التنظيمية والفنية للكتلة، على الأقل جزئيًا. في سبيل أن تحل محل المعايير التي تستخدمها المنظمات الإقليمية التي تقودها روسيا.

وبكل المقاييس، كانت هذه الجهود ناجحة بشكل كبير. وعلى الرغم من استمرار المشاعر المؤيدة لروسيا في زوايا معينة من عواصم معينة. إلا أن احتمالية تنازل أي جمهورية سوفيتية سابقة طواعية عن سيادتها إلى موسكو أصبح بعيد المنال.

وقد ساعد واشنطن في ذلك أن روسيا ليست نموذجًا سياسيًا أو اقتصاديًا جذابًا لقادة المنطقة. فحصتها من واردات وصادرات معظم الجمهوريات السوفيتية السابقة راكدة أو تتضاءل باطراد. كما انكسر احتكارها لتصدير المواد الهيدروكربونية منذ عقود. وأصبح السفر إلى أوروبا الآن بدون تأشيرة لمواطني جورجيا ومولدوفا وأوكرانيا. فيما تلقت بيلاروسيا، وهي أقرب حليف لروسيا اسميًا، عددًا أكبر من تأشيرات منطقة شنغن في الاتحاد الأوروبي للفرد، مقارنة بأي دولة رئيسية أخرى في عام 2019.

اقرأ أيضًا: بوتين ولعبة الروليت الروسية.. كيف ستؤثر الحرب في أوكرانيا على العالم؟

شراسة روسيا في مواجهة انجراف الجيران نحو الغرب

لكن الجهود الرامية إلى تعزيز سيادة واستقلال هذه الدول كان من الصعب أحيانًا التمييز بينها وبين الجهود المبذولة للحد من نفوذ روسيا في المنطقة. ففي كلتا الحالتين، لم تتوقع الولايات المتحدة الشراسة التي ستقاوم بها روسيا انجراف جيرانها نحو الغرب. كما أظهرت موسكو لأول مرة من خلال غزو جورجيا في عام 2008.

روسيا تعتمد سياسة ما لا تستطيع تحقيقه بالإقناع، كن مستعدًا لفرضه بالقوة.

يذكر تقرير “فورين أفيرز” أن ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014 وغزو شرق أوكرانيا. ومن ثم حشدها الحالي للقوات على حدود أوكرانيا، أوضح أن الحرب الروسية الجورجية لعام 2008 لم تكن انحرافًا. لا ينبغي أن يكون هناك شك في أن موسكو مستعدة لاستخدام قوتها العسكرية لتجنب أن تكون محاطة بدول مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي.

باختصار، اتضح أن السعي وراء التعددية الجيوسياسية يأتي مصحوبًا بتكاليف وفوائد. ساعدت استراتيجية الولايات المتحدة في منع عودة ظهور الاتحاد السوفيتي الجديد. لكنها لم تخلق بنية إقليمية بديلة يمكن لروسيا وجيرانها قبولها. كما أنها لم تأخذ في الاعتبار رغبة روسيا في استخدام القوة العسكرية لمنع جيرانها من الاقتراب أكثر من اللازم من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.

الأزمة الحالية حول أوكرانيا هي أحدث وأوضح مؤشر على أن استمرار السعي وراء التعددية الجيوسياسية في أوراسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي سيخلق مخاطر كبيرة على دول المنطقة.

قد يجادل البعض بأن المشكلة الجوهرية ليست السياسة الغربية. بل الإمبريالية الجديدة الروسية. إذا استطاعت موسكو أن تقبل أن جيرانها دول ذات سيادة كاملة وتسمح لهم بالتوافق كيفما شاءوا، فلن تكون هناك مشكلة. هذا صحيح بالتأكيد. لكن من الواضح أن موسكو لا ترى الأمر على هذا النحو. وهي غير مستعدة لترك جيرانها يتخذون خياراتهم بأنفسهم. وعلى العكس من ذلك، هي مستعدة لخوض الحرب، وضم الأراضي، ودعم الوكلاء الانفصاليين لضمان أن تكون خيارات هذه الدول محدودة.

قد يأمل المرء في أن يتخذ زعيم روسيا القادم مسارًا مختلفًا عن أسلوب بوتين. لكن الأمل ليس استراتيجية. وفي غضون ذلك، قد يتخذ الجيش الروسي إجراءات في أوكرانيا تقيد يد خليفة بوتين.

موسكو غير مستعدة لترك جيرانها يتخذون خياراتهم بأنفسهم.
موسكو غير مستعدة لترك جيرانها يتخذون خياراتهم بأنفسهم.

البديل المطلوب لكسر دائرة الصراع

يقول التقرير إنه بغض النظر عن كيفية حل هذه الأزمة الحالية، سيستمر الجوار المباشر لروسيا “نقطة مشتعلة”، ما لم تكن روسيا والولايات المتحدة والقوى الأوروبية وبلدان أوراسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي يمكنها أن تتوصل إلى اتفاق واسع حول المعايير والمؤسسات والقواعد التي ينبغي أن تحكم تفاعلات الدول في المنطقة.

وحتى لو كان الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي مستعدين لعرض العضوية الكاملة على دول ما بعد الاتحاد السوفيتي -وهم لم يفعلوا ذلك- فإن الاستمرار في النهج الحالي يهدد بتكرار الاعتداءات الروسية عليهم بشكل أو بآخر.

وهنا، يبرز البديل المتفق عليه بشكل متبادل كونه سيفيد جميع الأطراف. لكن التحدي تخيل ما هو هذا البديل.

في محاولة للقيام بذلك، طلبت مؤسسة RAND ومؤسسة فريدريش إيبرت مجموعة من الخبراء غير الحكوميين من الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا وخمس دول أوراسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي للتوصل إلى ترتيب إقليمي مقبول من الطرفين.

مقترح شامل لنظام إقليمي مُعدل

وقد توصلت هذه المجموعة إلى مقترح شامل لنظام إقليمي معدل يغطي الأمن والصراعات الإقليمية والتكامل الاقتصادي. على أن تؤسس هيئة استشارية جديدة لمشاركة القوى الكبرى في الأمن الإقليمي. وكذلك وضع معايير جديدة لسلوك الناتو ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها روسيا تجاه غير الأعضاء (مثل عدم التشكيك في شرعية الطرف الآخر والعضوية). إلى جانب عرض الضمانات الأمنية المتعددة الأطراف وغيرها من تدابير بناء الثقة لدول عدم الانحياز. ما من شأنه أن يسهل زيادة التجارة متعددة الاتجاهات داخل المنطقة. وأيضًا إقامة حوار منتظم بين الاتحاد الأوروبي والاتحاد الاقتصادي الأوراسي بقيادة روسيا وغير الأعضاء في تلك الكتل التجارية. وكذلك يسهل وضع قواعد جديدة لتجنب الأزمات المستقبلية.

وقد أشارت المجموعة إلى مقترحها باعتباره سيوفر آليات وعمليات للتحسين الفوري لسُبل عيش الأشخاص الذين يعيشون في مناطق الصراع الإقليمية. ومن ثم التقدم في النهاية نحو التسويات المتفق عليها بشكل متبادل.

كما اعتبرت المجموعة هذا المقترح إنما يعكس حقيقة أن الخلافات حول الأمن والصراعات الإقليمية والتكامل الإقليمي كلها مترابطة.

على سبيل المثال، يجب معالجة النزاعات الانفصالية في جورجيا بطريقة مقبولة للطرفين. إذا كانت تبليسي ستنظر في وضع عدم الانحياز. وعلى العكس من ذلك، ستبقى هذه الصراعات غير قابلة للحل دون التحرك نحو نهج مشترك بشأن نظام الأمن الإقليمي. فالخلافات حول هذه القضايا لا يمكن فصلها. وبالتالي يجب الجمع بين الحلول.

من بإمكانه التنازل؟

ويشير كبير العلماء السياسيين في مؤسسة RAND صموئيل تشاراب، إن المسؤولين الحكوميين الروس والغربيين الذين تمت مناقشتهم حول المقترح الشامل -وقد كُتب قبل الأزمة الحالية- أشاروا إلى أن لديهم القليل من الحافز لتقديم تنازلات. إذ يعتقد كل جانب أن لديه ميزة طويلة الأجل على الآخر في المنطقة. ويمكن للأول أن يعتمد على التوازن الإيجابي للقوة العسكرية. بينما رأى الأخير أن قوته الجاذبة لا يمكن إيقافها. فيما أصيب أولئك الذين ينتمون إلى الدول الواقعة في وسطهم بالذهول. ذلك بسبب الاستقطاب في مناقشات بلدانهم حول هذه القضايا. وأيضًا بسبب عدم قدرتهم الملحوظة على التأثير على قرارات القوى الكبرى.

ينقل تشاراب عن مسؤول أوكراني كبير سابق أنه يخشى ألا يُنظر في المقترح الشامل إلا “بعد وقوع كارثة كبرى”.

وفق تشاراب، قد تكون أوروبا على شفا كارثة كبرى. وبغض النظر عما تفعله الحكومة الروسية بالقوة الهائلة التي جمعتها حول أوكرانيا، أوضح بوتين أن نفوذ روسيا المتضائل في فنائها الخلفي يمثل الآن مشكلة للجميع.

إن استعداد موسكو لاستخدام القوة لمنع جيرانها من الانجراف إلى المدار الغربي يعني أن استمرار السعي وراء التعددية الجيوسياسية في أوراسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي من قبل الولايات المتحدة وحلفائها قد يؤدي إلى مزيد من انعدام الأمن والبؤس لدول المنطقة أو حتى إلى دولهم. ومن ثم مزيد من الصراعات.

ويرى تشاراب أن التعددية داخل الدولة تعمل عندما تكون هناك مؤسسات وقواعد تحكم المنافسة بين المصالح المتباينة. وفي أوراسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي، هناك الكثير من المنافسة الجيوسياسية. لكن لا توجد مؤسسات أو قواعد متفق عليها تحكم تلك المنافسة. وإلى أن تتوصل روسيا والولايات المتحدة وأوروبا والدول العالقة فيما بينها إلى إجماع حول نظام إقليمي معدل، ستظل أوراسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي مصدرًا لعدم الاستقرار والصراع.