لم يمض سوى ثلاثة أسابيع، على انتشال جثمان شروق -ذات الثلاثة عشرة عاما- آخر ضحايا حادث معدية منشأة القناطر. بعد سبع ليال جرفت خلالها مياه النيل جثمانها لأكثر من ثمانية كيلو مترات بعيدًا عن مكان الحادث. لحقت الصغيرة بسبعة فقراء من رفاقها ورفيقاتها -لم يزد عمر أكبرهم عن سبعة عشرة عامًا- واراهم الثرى. بمقابر قريتهم “التفتيش” التابعة لمركز أشمون بمحافظة المنوفية.
شهر واحد فقط، على وقوع الكارثة، كان كفيلا بأن تخلو مئات الجرائد والمواقع الإخبارية المصرية، من أي تتبع لسير القضية. والتي حُبس على ذمتها سائق السيارة التي كانت تقل الراحلين الثمانية. وصاحب المعدية وثلاثة من العاملين عليها، وجهت لهم النيابة العامة تهمة التسبب في وفاة ثمانية أشخاص.
إلا أن الأزمة الحقيقية لم تكن في التوقف عن المتابعة الإعلامية لسير القضية، بل في سير القضية نفسها.
المتهمون الحقيقيون
في مشهد شديد الإبداع كتابة وإخراجًا وأداءً، يقف مصطفى خلف المحامي (أحمد زكي) أمام المحكمة ليلقي مرافعة عاطفية بليغة. يطالب المحامي في مرافعته بمثول من وصفهم بالمتهمين الحقيقين في حادثة اصطدام قطار بأتوبيس لتلاميذ إحدى المدارس. لتقرر المحكمة استدعاء وزير التربية والتعليم، ووزير النقل والمواصلات، ورئيس هيئة سكك حديد مصر. لسؤالهم فيما نسب إليهم من مسؤوليتهم عن مصرع 20 تلميذًا كان يقلهم الأتوبيس.
عَبر مشهد المرافعة، عن جوهر وفلسفة فيلم “ضد الحكومة” والذي كتب له السيناريو والحوار بشير الديك. عن قصة الكاتب الصحفي وجيه أبو ذكري، وأخرجه رائد الواقعية الجديدة، عاطف الطيب. حمل المشهد “بكائية” جيل مهزوم ينعي حلمه. جيل آمن بـ”ناصر” وتجربته. ليصحو مصطدمًا بقانون السبعينيات -الذي صاغه رفاق ناصر وتلامذته- هذا القانون الذي جرد الفقراء من حقوقهم.
محاكمة السياسات
بعد عشر سنوات من عرض فيلم ضد الحكومة، وفي الساعات الأولى من صباح 20 فبراير/شباط عام 2002. وقعت حادثة مروعة هزت المجتمع المصري. اندلعت النيران في إحدى عربات القطار رقم “832” الذي كان متجهًا من القاهرة إلى أسوان، عند قرية ميت القائد بمركز العياط. امتدت النيران لتلتهم سبع عربات من عربات القطار، لتخلف الحادثة 350 قتيلًا، تفحمت أجسادهم من شدة النيران التي وصلت بحسب اللجان الفنية إلى 1000 درجة.
وجهت النيابة إلى 11 عاملًا بالسكة الحديد، ما بين مهندسين وفنيين ومسؤولي ورش وسائق ومشرفي القطار وأفراد خدمته. تهمة الإهمال والتسبب في مصرع مئات الركاب. أُحيلت القضية إلى محكمة جنايات الجيزة في شهر أبريل من نفس العام.
عمال السكة الحديد
مرافعة أخرى، لكنها هذه المرة ليست مشهدًا سينمائيًا، بل واقعًا أشد درامتيكية ومرارة. وقف الأستاذ أحمد نبيل الهلالي المحامي، أمام الدائرة (20 جنايات) بمحكمة جنايات الجيزة، للدفاع عن عمال السكة الحديد الأحد عشر. والذين وجهت لهم المحكمة تهم: “القتل والإصابة الخطأ، والإضرار غير العمدي بأموال هيئة السكة الحديد”.
لم يوجه الهلالي اتهامه إلى كبار المسؤولين كما فعل “مصطفى خلف” في “ضد الحكومة” بل إلى الدولة ذاتها. معلنها واضحة أن الدولة هي المتهم:
“أرجو ألا يُفهم من كلامي عن الرؤوس الكبيرة الغائبة عن قفص الاتهام، أنني ألقي بعبء المسؤولية عن الكارثة على مديري الإدارات أو على رؤساء الهيئات الحاليين والسابقين أو حتى على الوزراء المتقاعدين. إطلاقا فالمتهم الأول فى قضيتنا الغائب عن القفص هو الدولة بالتحديد. الدولة بسياستها الاقتصادية. الدولة بفلسفتها الاجتماعية”.
هكذا كشف الهلالي عن المتهم الذي يقف وراء الكوارث الاقتصادية والاجتماعية والمسؤول عن كافة حوادث الفساد والإهمال ونقص الإمكانات. إنه السياسات الاقتصادية والاجتماعية، تلك التي تقلص الإنفاق على الخدمات تنفيذًا لشروط صندوق النقد الدولي وبرامج التثبيت والتكيف الهيكلي. منحازة انحيازًا كاملًا ضد الفقراء.
حتى فيما خصصته الدولة من ميزانية لأعمال الصيانة والتطوير للسكة الحديد آنذاك، فقد كشف الهلالي عن انحياز طبقي صارخ. حيث تم تجديد 200 عربة بالدرجة الأولى والثانية من أصل 600 عربة. و200 عربه درجة ثالثة من أصل 2422 عربة. يقول الهلالي في مرافعته:
“الفلسفة الاجتماعية للحكومة جعلتها تجدد 33.5% من عربات أهل الصفوة. بينما انحصر التجديد فى 8.5% من عربات المواطنتين الذين يعيشون تحت خط الفقر”.
تندرج مرافعة الأستاذ أحمد نبيل الهلالي، في حادثة حريق قطار الصعيد، تحت ما يُطلق عليه علماء الشريعة والقانون “فقه الأولويات”. أوضح الهلالي أن الأزمة ليست في نقص الإمكانات، بل في التقصير في توفير تلك الأمكانات. أو بمعنى أوضح توجييها لخدمة أقلية على حساب حياة الأغلبية من الفقراء.
فهل يمكننا أن نتبع نفس المنهج في مناقشة أزمة العبارات والمعديات النيلية؟
ليس مجرد حادث عابر
لم يكن حادث معدية منشأة القناطر (معدية القطا) مجرد حادث عابر أو نادر الحدوث. ربما اكتسبت فقط الواقعة زخمًا، ساهم الإعلام الاجتماعي بشكل كبير في إحداثة. كون ضحايا الحادثة أطفالًا، إضافة لكونهم أطفال عاملين، بكل ما تحمله عمالة الأطفال في مصر من مآسٍ. ولو أن هذا الزخم كالعادة، لم يترجم في صورة ضغط من شأنه أن يوجد حلًا لأزمة المعديات النيلية. أو حتى محاسبة المسؤولين الحقيقيين، إلى أن تلاشت أخبار الحادثة شيئًا فشيئًا، في زمن “الترند”.
بقراءة سريعة لحوادث المعديات في آخر 10 سنوات يمكننا أن نتبين حجم الكارثة.
في يناير من العام 2016، راح 15 شخصا ضحية غرق معدية قرية سنديون بمركز فوه، التابع لمحافظة كفر الشيخ، بنهر النيل. قال رئيس مركز ومدينة فوه حينها إن رخصة المعدية منتهية من شهور وإنها غير صالحة فنيًا للعمل.
وفي الخامس والعشرين من شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2018. انقلبت معدية كانت تحمل مواطنين وسيارات، في مياه ترعة الرياح التوفيقي. بين محافظتي البحيرة والمنوفية، بالقرب من مركز كوم حمادة. راح ضحية الحادث 5 أشخاص بينهم ثلاث سيدات، وأصيب 17 شخصًا.
وفي أغسطس/آب من العام 2020، غرقت معدية في نفس الترعة (الرياح التوفيقي). كان على متنها سيارتين إحداها مملوكة لـ”طباخ أفراح بلدي” وكانت تحمل عددًا من العمال المساعدين له. إضافة لعدد من سكان قرية “دمشلي” التابعة لمركز كوم حمادة بالبحيرة. راح ضحية الحادث سبعة أشخاص.
أما عام 2019 فقد شهد حوادث غرق متفرقة لمعديات، في البحيرة وكفر الشيخ، والوراق بالقاهرة. والحوميدية بمحافظة الجيزة، راح ضحيضها العديد من الأشخاص.
محافظة المنيا وحدها شهدت عشرات الحوادث لغرق معديات تحمل مواطنين وسيارات، خلال السنوات القليلة الماضية. أبشع هذه الحوادث كان عام 2014، عندما لقى 20 شخصًا مصرعهم بعدما سقطت سيارة نصف نقل كانت تقلهم، من أعلى معدية. كانت عائدة من شرق إلى غرب النيل. وفي مركز سمالوط وقعت عدة حوادث غرق معديات راح ضحيتها عمال وطلاب وربات منازل.
ليس هذا العرض سوى القليل من حوادث غرق المعديات النيلية على امتداد النيل. تلك الحوادث التي راح ضحيتها مئات المواطنين خلال السنوات الماضية. كان آخرهم ثمانية أطفال فقراء يعملون بإحدى مزارع الدواجن مقابل عشرات الجنيهات.
هل لدى المواطنين بديلًا للمعديات؟
عقب كل حادثة من حوادث المعديات، تخرج بيانات المسؤولين المحليين، بداية من المحافظ إلى أصغر مسؤول. لتعلن في الغالب، أن المعدية ليست مرخصة، وغير صالحة فنيًا للتشغيل.
لكنهم يتجاهلون تمامًا، غياب الرقابة والتفتيش على هذه المعديات من مسؤولي النقل النهري وموظفي المحليات. يُلقون المسؤولية كاملة على صاحب العبارة وعمالها وعلى أصحاب السيارات التي تعبر على متنها. أحيانًا يتهم المسؤولون المواطنين (الضحايا) أنفسهم.
بحسب النائب محمد عبد الله زين الدين، عضو لجنة النقل بمجلس النواب، والذي تقدم بطلب إحاطة للحكومة عقب حادثة غرق معدية منشأة القناطر. يوجد في مصر ما يقرب من عشرة آلاف معدية، بعضها تابع لهيئة النقل النهري. بينما غالبيتها مملوكة لأهالي. وتخدم أكثر من 144 جزيرة تقع على طول نهر النيل.
سيضاعف العدد الذي يشير إليه النائب إذا وضع في الاعتبار المعديات غير المرخصة التي تعمل جهارًا. بحسب المسؤولين أنفسهم. كما سيتضاعف عدد المستخدمين للمعديات النيلية، إذا أضفنا إلى الـ 144 جزيرة. مئات القرى التي يفصلها النيل عن أماكن العمل (المصانع والمحاجر) أو المدارس أو المصالح الحكومية. تعتمد هذه القرى بشكل أساسي على المعديات النيلية، حتى في دفن موتاها حيث تقع مقابر الكثير من تلك القرى على الجانب الآخر من النيل، خاصة في الصعيد.
يمكننا إذن بحسبة بسيطة أن نتبين من أن ملايين المواطنين وآلاف السيارات. يعبرون يوميًا على متن هذه العبارات (المعديات) التي يقول المسؤولون أنفسهم، إن غالبيتها متهالكة. أي أن ملايين المواطنين تتعرض حياتهم للخطر يوميًا. وهم مجبرون على استخدام تلك المعديات لأنها وسيلة النقل الوحيدة المتاحة لهم.
إمكانات ضعيفة أم تدير ظهرها للبسطاء
تُطرح عقب كل حادثة من حوادث غرق المعديات، الكثير من الحلول لإنهاء أزمة المعديات النيلية. سواء إحلال وتجديد المعديات، أو تبني هيئة النقل النهري إنشاء معديات حديثة، وتشغيلها لحساب الهيئة. أيضًا من بين هذه الحلول، حلول جذرية باستبدال المعديات بكبارى تربط القرى والجزر وشبه الجزر بالجانب الآخر من النيل. فيما يتحدث المسؤولون المحليون عن توفير موازنات لإنشاء هذه الكباري. لكن في الغالب لا شيء يتم.
فهل تعجز الحكومة عن حل الأزمة أم أنها ليست من أولوياتها؟
في الثامن عشر من شهر نوفمبر من العام الماضي، زار الفريق كامل الوزير، وزير النقل، شركة وسائل النقل mcv)) ممثل شركة مرسيدس العالمية في مصر. أعلن الوزير خلال الزيارة، أن وزارة النقل ستقوم بتدعيم أسطول أتوبيسات شركة الاتحاد العربي للنقل البري والسياحة (سوبرجيب). التابعة لوزارة النقل بأتوبيسات تعمل بالكهرباء، إضافة لأخرى تعمل بالغاز، للعمل بالعاصمة الإدارية وشرم الشيخ والعالمين الجديدة. فيما لم يُعلن عن التكلفة المالية للأتوبيسات ولا التعريفة. لكن الوزير أشار إلى أن الخدمة ستكون “مميزة”.
ولعلنا يجب أن نتساءل ألم يكن من الأولى أن تُستبدل المعديات المتهالكة التي تخدم ملايين المعدومين بأخرى جديدة. أو على الأقل تسهم الوزارة في ترميمها وتطويرها، ولو عن طريق قروض لملاك المعديات تسدد على أقساط. لكن عن أي أولوية نتكلم؟
الفقراء والسياسات الاقتصادية
أما عن مشروع العاصمة الإدارية ذاته، فقد تكلفت المرحلة الأولى فقط، 800 مليار جنيه، منها 60 مليار جنيه للحي الحكومي. بحسب اللواء أحمد زكي عابدين، رئيس شركة العاصمة الإدارية الجديدة.
وبحسب بيان صدر مؤخرًا عن وزارة الإسكان فإنه تم تنفيذ 7004 وحدات بالإسكان المتميز، بتكلفة 4.66 مليار جنيه. وجارٍ تنفيذ 77740 وحدة أخرى، بتكلفة 198 مليار جنيه. ويصل سعر الوحدة في الإسكان المتميز إلى مليون ونصف المليون. بعد تقسيطها. ويصل القسط الربع سنوي إلى 22 ألف جنيه.
هكذا نرى أن السياسات الاقتصادية والاجتماعية، خلال السنوات الماضية قد أدارت ظهرها تمامًا للفقراء. في الوقت الذي تضخ فيه الدولة مئات وربما آلاف المليارات في عاصمة ومدن جديدة ووحدات سكنية مميزة. معروف جيدًا من باستطاعتهم امتلاكها. فإنها تمتنع عن إنفاق عشرات المليارات لإنشاء كباري على النيل بديلة للمعديات لحماية ملايين المواطنين البسطاء.
لكارثة معدية منشأة القناطر، وكوارث المعديات خلال السنوات الماضية، العديد من الأَوْجُهٌ: فساد إداري. وغياب الرقابة المحلية من الجهات المختصة، للتأكد من تراخيص المعديات ومراقبة الحمولات، والتأكد من وجود طفايات الحريق، وأجهزة النجاه. وتوافر أطقم الإنقاذ النهري ومدها بالإمكانات المطلوبة، وتقاعس كبار المسؤولين عن حماية المواطنين والتي تحصد حوادث المعديات أرواحهم. كبار المسؤولين، هؤلاء الذين يجب أن يقفوا وراء القضبان الآن، لا سائق السيارة أو عمال المعدية. لكن تظل السياسات الاقتصادية والاجتماعية وانحيازها ضد الفقراء هي الوجه الأبرز والمتهم الأول في كوارث المعديات.