قبل أعوام تم نشر تحقيق صحفي مصور أعدته قناة abc العالمية. قدمت خلاله قصة الفتاة التي خدعها شاب أطلقت عليه القناة وقتها “محتال تندر”.

وتصدرت القصة آنذاك مواقع التواصل. فيما طالب المتابعون بسجن الفتى الذي خدع الفتاة التي أحبته. وخرجت حملات تضامن مع الفتاة كعادة أي صراخ إلكتروني انتهى بعد أيام من ذلك للحديث حول حادثة جديدة.

ثم أعادت شبكة نتفلكس القصة للحديث في مواقع التواصل بشكل أوسع من الداخل الأمريكي هذه المرة بإنتاج أحدث أفلامها “محتال تندر” التسجيلي الذي تتبعت فيه القصة بشكل أوسع وأكثر تجاوزًا لوضع النظر حول فكرة تطبيق المواعدة “تندر”. إذ قابلت فيه الفتاة حبيبها المحتال. فضلا عن أزمة الثقة التي يخلقها أو يسببها ذلك في العالم عمومًا.

في الحوار عن الفيلم تعود للساحة نقاشات لا تزال ساخنة تلك التي تدعي دمار العلاقات الإنسانية الحقيقية التي خلقتها مواقع التواصل التي زيفت التواصل بشكل أو بآخر. ليس كوصاية تخرج من بعض كبار السن الذين لم يعايشوا تلك المواقع كفاية ولم يروا منها غير مساوئ تتجاوز أهميتها الحقيقية. لكن كذلك من بعض الشباب الذين أحرقهم لهيب خداع نتج عن الدخول في علاقات عن طريق فيسبوك وتويتر وإنستجرام وتندر وغيرها.

محتال تندر وتدمير الرومانسية

عبر التقرير الذي نشره موقع هافينغتون بوست الإنجليزي حول الأشياء التي نفتقدها جميعا عن الحب في التسعينيات. يتساءل: هل دمرت التكنولوجيا الرومانسية؟

من خلال ما نشهده هذه الأيام يمكن الجزم بأن فترة التسعينيات كانت أيام الرومانسية الأخيرة. إذ كانت تمثل العقد الأخير من الحب دون إنترنت.

الشباب في وقتنا الحاضر والذين اعتادوا استخدام وسائل الاتصال قد لا يمكنهم استحضار المشاعر التي كانت لدينا عندما نفتقد شخصًا ولا يمكننا الاطمئنان عليه. وأصبح الشعور بالاشتياق والشغف الذي كان ينتج عن طول المسافات أمرا مستحيلا في عالمنا اليوم. إذ يمكنك الاتصال بمن تريد بضغطة زر.

أحد الدروس التي يمكن أن نتعلمها حول الرومانسية في سنوات النضج هو أنه بينما كان الحب أمرا معقدا لم تسهم التكنولوجيا في حل تلك التعقيدات بأي حال.

وتعرف صحيفة نيويورك تايمز ذلك أيضًا حين تقول أن فترة التسعينيات كانت الأفضل.

ونحن لا يمكننا التوقف عن الحنين إليها وخاصة إلى الثمانينات. ولكن تظل فترة التسعينيات هي الأكثر حضورًا في ذاكرة غالبيتنا.

شهدت فترة التسعينات بداية التقدم في العصر الحديث ولكنها حافظت بدرجة كبيرة على بساطة الماضي التي لا تُضاهى. ويبدو أن العديد من مشكلات العصر الحديث لم تكن موجودة في ذلك الوقت. وهناك أدلة تجريبية تدعم القول بأن فترة التسعينات كانت أفضل عقد. خاصة بالنسبة للولايات المتحدة. فالاقتصاد الأمريكي ازدهر خلاله. إذ انخفض معدل البطالة بشكل كبير وارتفع متوسط دخل الأسرة. أما عالميا فقد انهار الاتحاد السوفييتي وأنهت جنوب أفريقيا الفصل العنصري ووقعت إسرائيل وفلسطين اتفاق أوسلو.

ثمة تنافسية أو ربما مزايدة نوعًا ما لدى بعضنا على الآخر في هذا الحوار دون غيره بادعاء أفضيلة المشاعر لدى حقبة على غيرها لا يمكن حسمها في النهاية.

لكن يمكن تجديد سردها في كل مرة تجعلنا نتساءل: لماذا هناك مقارنة أساسا إذا كان لدى كل جانب ما يميزة وما يعيبه؟

في الفيلم التسجيلي “محتال تندر” يمكننا الوقوف على تلك العيوب وتحليلها أكثر.

محتال تندر.. الرجل والمظاهر

يبدأ الفيلم بالوضوح ذاته الذي تخلقه الأفلام التسجيلية بإعادة الفتاة للحوار الذي قالته في المقابلة التليفزيونية القديمة لكن بشكل أكثر تفصيلًا وتقاطعات مونتاجية تخيلية حول بناء العالم الذي قابلت فيه الفتى. حول مقابلتها لشباب يتجاوز عددهم الألف من خلال تندر. وأحلامها حول كل شاب منهم: وسيم وكثير السفر ولديه أصدقاء. يستطيع أن يضحكها. تختاره في كل مرة يحمل المواصفات ذاتها.

هذه المرة يحقق الرجل كل تلك المواصفات حين تدخل على صفحته الشخصية. جذبها مظهره وكثرة تنقله بين الدول. طائرات خاصة وملابس مصممين أزياء تُصنع له وحده وفنادق فاخرة جعلها تمرر الموافقة على الاتصال به لتبدأ أقسى علاقة عاطفية يمكن أن تدخلها في حياتها دون أن تدري.

رغم كون الفيلم تسيجليا يسرد حقائق حول محتال يمكنه النصب على الفتيات الأغنياء. فإنه في النهاية يمكن تتبع تصاعد القصة كفيلم روائي خيالي تمامًا. تدخل الفتاة في قصة غريبة مع رجل شديد الثراء وتسافر معه من بلدها رغم تحذيرات الصديقات وغموض الثروة التي يعتمد عليها.

الفيلم هو جرس تحذير آخر من مواقع التواصل والعلاقات التي يمكن خلقها عبره. تنويعات مختلفة على الأمر نفسه الذي يؤكد محورية الخوف من تلك العلاقات غير المضمونة.

قبل سنوات ازدحم النقاش الفني حول المعضلة ذاتها في مسلسل شعبوي رديء اسمه “المرآة السوداء” الذي كان يصدر الرعب ذاته من “السوشيال ميديا” دون أي احتكام لسياق. فقط في قلبها ما ينتج الرعب، في قلب عالم تشكلت أغلب علاقاته عن طريق تلك المواقع.

أتذكر هنا آخر جلسة تصوير قمت بتصويرها وإصراري على إظهار كتاب يتحدث عن أسباب حب الرجال للمرأة كثيرة العلاقات بالرجال. كان ذلك قبل وجود مواقع التواصل. والذي يظهر كيف أن هؤلاء الرجال جزء أصيل في المأساة التي يضعون أنفسهم داخلها.

في كل مرة يمكن الخروج من سياق الوسيط إلى أهمية ومحورية نظرة الإنسان نفسه.

محتال تندر 2
محتال تندر 2

نتفليكس والخوف من مواقع التواصل

الفتيات اللاتي يقمن بالتعرف على الرجل الثري قبل أن يخدعهم بطرق أكثر احترافية يمكن مشاهدة الفيلم والذهول منها تمامًا. هن اللاتي يقررن من البداية الدخول في علاقة بمصلحة مسبقة. هذا قد يحدث عن طريق مواقع التواصل كما عن طريق غيرها.

تتحوّر إنتاجات نتفلكس لخلق الخوف من المواقع التي يعيش من خلالها البشر مجبرين الآن. تتجاهل القصص الكثيرة التي كانت تلك التطبيقات السبب الرئيس في علاقات أكثر تماسكًا.

نتفاجأ بتصدير خطاب مرعب حول مواقع التواصل عمومًا. وتخرج من المعادلة معطيات الشخص ذاته وبحثه الذي قد ينتج عنه الدخول في عالم مجهول سواء عن طريق “السوشيال ميديا” أو الواقع.

في الفيلم، وربما لنكتب عنه نقديًا من داخله، تسهم المواقع ذاتها في إنقاذ الفتاة. كما تسهم المواقع ذاتها في التشهير بالمحتال، وتُعرض لقطات عرضًا سواء في تقرير القناة التليفزيونية أو في الفيلم حول الأشخاص الذين يهاجمون الفتيات اللاتي قررن الدخول في علاقة قوية لهذا الحد مع شخص مجهول تحت تأثير خداعهم بأمواله باعتبار أن تلك ظالمة للفتيات البريئات بشكل مجحف تمامًا.

تقول الفتاة في الفيلم إنها رغم كل ما حدث فإنها لن تتوقف عن البحث عن الحب. أتساءل: هل كانت تبحث عن الحب أساسًا في المرة الأولى؟

لا أعتقد. كانت تبحث عن علاقة يمكن تصديرها باعتبارها سعيدة عبر الخروج والسفر والتقاط الصور. علاقة مزيفة تثبت صدق ادعاءات الأشخاص الذي يهاجمون الحب في زمن التواصل الإلكتروني. وربما لا أعتقد نفسي قاسيًا إذا وقفت قليلًا أمام من هاجم هؤلاء الفتيات حول الحديث عن أطماعهم بالضرورة التي جعلتهم في علاقة شديدة الغموض عكس الفيلم الذي يقدمهن كأبرياء ظلمهم القدر ومواقع التواصل الشريرة.

فيلم “محتال تندر” يثبت مرة أخرى أن الإنسان يبحث عن نفسه. سواء على مواقع التواصل أو في الواقع كبدهية أساسية. وعلى أثر ذلك يمكن اعتبار مواقع التواصل مجرد وسيلة أكثر إمكانية للبحث عن شركاء صداقة وعلاقات عاطفية. يمكن للإنسان أن يذهب بها حيث أراد. الفتاة كانت تحلم بالحياة التي اختلقها المحتال المتشرد فكانت أكثر سهولة للاقتناع بعدم المنطقية التي أراها دون مجهود من اللقطة الأولى لظهوره. هذا سيحدث في مواقع التواصل أو في غيرها لكن يبدو أن إنسان نتفلكس أضعف من أن يتحمل مسؤولية قراراته وأطماعه وحده.