الشعب هو مصدر السلطات وليس الدولة، وأن بناء الدولة الوطنية كان دائمًا وسيله لتقدم الشعب وخدمه مصالحه بديلا عن حكم القبيلة أو فوضى غياب الدولة ومؤسساتها.

وقد حضر الشعب في الخطاب الرسمي المصري طوال العهد الملكي والعهود الجمهورية بصور مختلفة، حتى وصل لحده الأقصى في عهد عبد الناصر خاصة بعد الاجراءات الاجتماعية التي اتخذها واستفاد منها غالبية الشعب.

ولا يزال كثير من الناس يتذكرون جملة عبد الناصر الشهيرة “الشعب هو القائد المعلم” حيث امتلئ خطاب الرجل بمفردات تتحدث عن الشعب الذي يقاوم الاستعمار، وإن إسرائيل متآمرة على الشعب المصري والعربي، وأن الاشتراكية تبناها النظام لصالح الشعب، وأن القوى المستفيدة من هذا النظام هو تحالف قوى الشعب العامل.

ورغم أن نظام عبد الناصر لم يكن نظامًا ديمقراطيًا، ولكنه كان شعبيًا بامتياز، اعتبر أن سياساته هي من أجل الدفاع عن مصالح الشعب وليس الدولة ولا النظام، حتى لو واجه بعض أركان هذا النظام توجهاته الشعبية وسعى لتقويضها.

وجاء عصر الرئيس السادات، وتبنى الرجل سياسات رأسمالية تراجع فيها الحديث عن الاشتراكية والعدالة الاجتماعية واختفى منها خطاب تحالف قوى الشعب العامل وغيرها من مفردات عصر عبد الناصر. إلا أنه حرص دائمًا في كل محطاته الكبرى أن يكون الشعب هو محور خطابه وحديثه سواء عقب نصر أكتوبر أو عقب توقيعه على اتفاقية السلام مع إسرائيل، ولا يزال كثيرون يتذكرون الدلالة الشعبية لحوار السادات العلني في مجلس الشعب المصري مع اللواء أحمد بدوي قائد الجيش الثالث الميداني في ذلك الوقت، وسؤاله أمام كاميرات الإذاعة والتليفزيون عن ما إذا كان قد حافظ على “أبنائه من ضباط وجنود الجيش الثالث” أثناء الثغرة؟ وكانت إجابة “القائد المحارب” بالإيجاب، وأنه قام بواجبه كما يمليه شرف العسكرية المصرية.

وحرص الرئيس السادات عقب توقيعه على اتفاقية كامب دافيد أن يعود في سيارة مكشوفة ليثبت للعالم كله وخاصة من رفضوا الاتفاقية أن الشعب المصري، أو قطاع مؤثر منه، يؤيده في تلك الخطوة، وأن حرصه على حضور الشعب في معادلة سياسية حرجة كان موجودًا وحاضرًا.

وقد تراجع الاهتمام بالشعب في الخطاب الرسمي في عهد مبارك دون أن يختفي، فقد ظلت هناك مؤسسات سياسية وسيطة حتى لو اعترض عليها كثير من الشعب، كما بقيت ظاهرة نائب الخدمات الذي يؤيد النظام وينضم لحزب الدولة الحاكم من أجل تقديم خدمات لأبناء دائرته من أفراد الشعب سائدة، وكان هناك نواب يستجوبون الحكومة وينتقدونها دون أن يستطيعوا تغيرها ولكنهم لعبوا أدوارًا في نقد الأداء العام ومحاولة تصويبه احترامًا للشعب أو إرضاء -ولو شكليًا- له.

ولأن الرئيس مبارك بقي في السلطة ثلاثين عامًا وكانت هناك أطراف داخل حكمه ترتب لمشروع التوريث، فحدث ما لم يتوقعه كثيرون وهو اندلاع ثورة 25 يناير التي نجحت في إجبار الرئيس مبارك على التنحي عن السلطة ودخل الشعب كشريك مباشر في معادلة الحكم، وانتقل الأمر من حالة رؤساء يحبون الشعب (أو يتجاهلونه) إلى مرحلة يطالب فيها الشعب باختيار حكامه.

إن جوهر رسالة يناير كانت هي المطالبة بحكم الشعب بنفسه واختيار ممثليه، وكان وصول الإخوان للسلطة وانتقال مشروعهم من حالة الاستضعاف إلى التمكين سببًا في اعتبار البعض أن المشكلة في أن الشعب اختار وحكم نفسه بنفسه وليس أخطاء في إدارة المرحلة الانتقالية وقبول جماعة دينية عقائدية في المسار السياسي لتصبح مسؤولة عن عملية انتقال ديمقراطي. وهو أمر لا يمكن أن يقوم به الإخوان أو أي تنظيم ديني آخر.

يقينًا فشل المرحلة الانتقالية التي أعقبت ثورة يناير ووصول الإخوان للسلطة أعطى مسوغات لخطاب “المشكلة في الشعب” لصالح تقديس الدولة، وانتقل جانب من الخطاب الرسمي من الحديث عن أزمة النخب المدنية والسياسية وكارثة حكم الإخوان إلى أزمة الشعب الذي لا يزال غير مؤهل للديمقراطية. كما شهدنا لأول مرة في تاريخ مصر وربما في العالم بعض الإعلاميين يسبون الشعب علنًا ويعتبرونه مصدر الأزمات والمشاكل.

والحقيقة، أن حضور الشعب في الخطاب الرسمي والإعلامي تراجع لصالح الحديث عن الدولة حتى بدا الأمر وكأن حماية الدولة هدف في حد ذاته وليس وسيلة لهدف أكبر وأسمي وهو حماية الشعب، فالمؤامرات تستهدف الدولة وليس الشعب، والمخاطر تهدد الدولة وليس الناس.

صحيح، أن مصر تعرضت دولتها الوطنية لمخاطر وتحديات، ولكنها دولة راسخة من شبه المستحيل أن تسقط، في حين أن الأخطار الكبرى عادة تأتي من تأزم أوضاع الشعب، لأن الدولة لا تسقط إلا في حال انهارت أوضاع الشعب الاقتصادية و السياسية، أو تم تأميم الدولة ومؤسساتها لصالح النظام السياسي.

الحفاظ على الدولة وإصلاح مؤسساتها شرطان أساسيان لتحقيق التقدم والاستقرار، ولا يمكن الحفاظ على الدولة دون “إصلاح مؤسسي” يخدم الشعب ويحقق طموحاته.

إن قضية حضور الشعب تتجاوز مسألة الخلاف حول البدء في عملية الانتقال الديمقراطي أو تأجيلها كما يرى الخطاب الرسمي، إنما يجب أن يحضر الشعب في مناقشه مشاكله اليومية من صحة وتعليم ومواصلات، وأن نسمع رأيه في تطير أحياؤه لا تغيبه، فالهدف هو صون الشعب والحفاظ على كرامته وتحقيق عزته وتقدمه، والدولة أداة لتحقيق هذه الأهداف.