استطرادًا للحوار السجالي حول احتمالات عودة جماعة الإخوان المسلمين للمشاركة في مستقبل مصر في ظروف وبشروط مختلفة، فإن لدي بعض الملاحظات والأفكار أود الإسهام بها.

تذكرون أن من بدأ بإثارة القضية هنا على موقع “مصر 360” هو الصديق والزميل النابه الجاد أنور الهواري. وعقب عليه كل من الصديق والزميل العزيز النابه أيضًا محمد سعد عبد الحفيظ، والأستاذ هيثم أبو زيد الذي لم أحظ معه بعد بالتعارف المباشر. وتذكرون كذلك أن الهواري أوضح الظروف والشروط التي يراها ضامنة أو مرجحة لعودة الجماعة إلى دور مستقبلي، بعد أن شرح وشرّح تاريخها وأفكارها وخطاياها، وأن عبد الحفيظ جزم باستحالة مثل هذه العودة لاستحالة تحقق الظروف والشروط المذكورة، وأن أبو زيد يشاطره هذه الرؤية.

هذا التباين ظهر أيضًا منذ بعض الوقت على صفحات “المصري اليوم” بين الدكتور سعد الدين إبراهيم، الذي كتب يقول إننا سنكون واهمين إذا اعتقدنا أن جماعات الإسلام السياسي انتهت بلا رجعة، وبين الدكتور زياد بهاء الدين الذي يرى أن الغالبية الشعبية في مصر لفظت جماعة الإخوان إلى الأبد.

طبعًا، السؤال المطروح مهم، ومن المؤكد أنه يشغل كثيرًا من الباحثين والمعلقين ومراكز التفكير والمؤسسات هنا وفي الإقليم وفي العالم. بل ويشغل بال قطاعات واسعة من الرأي العام في مصر، وفي عموم المنطقة، فضلًا عن أنه يشغل الجماعة ومناصريها بدرجة أكثر حدة، وما الانقسامات المتكررة والآخذة في التوسع بين قيادييها وسائر أعضائها إلا تعبير عن هذا الانشغال المكثف.

من جانبي، لا أملك إجابة واضحة ونهائية على ذلك السؤال، إلا أنني أستطيع رصد المتغيرات الحاكمة التي تؤدي حصيلة التفاعل بينها (أو جدلية الصراع فيما بينها) إلى ترجيح إجابة علي أخرى، وهي كالتالي:

1- تطورات الأوضاع الداخلية في مصر رسميًا وشعبيًا أو مجتمعيًا.

2- مآلات الصراع داخل الجماعة نفسها، وعلاقتها ببقية فصائل الإسلام السياسي.

3- أحوال الإقليم ومسار الصراعات أو التسويات الكبرى فيه.

4- مدى احتياج الولايات المتحدة الأمريكية وحليفاتها الأوروبيات لدور للإسلام السياسي في السياسات المحلية والإقليمية والدولية.

من الواضح أن تفاصيل كل متغير من هذه المتغيرات الأربعة، وتفاعلها معًا يحتاج إلى ورقة أو عدة أوراق بحثية، ولذا لا مفر من الإيجاز والتركيز، اللذين أرجو ألا يكونا علي حساب الوضوح.

ونبدأ بالداخل المصري، حيث لا ينكر أحد ما تحقق من إيجابيات علي صعيد الاستقرار الأمني، وانتظام نمط الحياة اليومية، بعد طول اضطراب، وكذلك التحسن النوعي في بعض جوانب البنية الأساسية. وأيضًا خفوت الشقاقات الطائفية، كما لا يكابر أحد أن تجربة الجماعة مع ثورة يناير وفي السلطة كانت نقطة تنوير لشباب يناير، والأجيال الشابة التالية، مفادها أن هذه الجماعة المنحدرة من الماضي البعيد ليست هي الإجابة الملائمة لأسئلة المواطنة والكرامة والعيش، التي هي أسئلة وهموم الحاضر والمستقبل.

وفوق كل ذلك، فإن تجربة الإخوان في السلطة أصابت عموم أو غالبية أو قطاع كبير من المصريين بقلق عميق علي نمط حياتهم العادية، من خروج ودخول وملبس ومأكل وترفيه وممارسات دينية. وهذه كلها تسلب جماعة الإخوان فرص العودة، ولكن لا ينكر أحد أيضًا حالة الفراغ السياسي المقلقة، وإغلاق المجال العام بالتعويل علي الإدارة البوليسية والبيروقراطية للشأن السياسي، إلى جانب تأزم الأوضاع الاقتصادية، سواء على مستوى معيشة أغلبية المواطنين، أو على مستوى أزمات ديون الدولة خارجيًا وداخليًا، وتعثر التنمية الصناعية، وتراجع الاهتمام بالتعليم العام والخدمات الصحية، بما يضني الطبقة الوسطي، ويحد من اعتدالها الفطري، فضلًا عن انعدام اليقين على المدى المتوسط والطويل قياسًا إلى أعمار البشر، بمن فيهم القادة والرؤساء، وقياسًا إلى ما يصيب كل النظم المغلقة من صراعات وإجهاد.

فهذه كلها إذن عوامل تهيئ بيئة للقلق والتوتر تنمو فيها الحركات الاحتجاجية العلنية والسرية.

وأما ما يتعلق بالجماعة وتنظيمها؛ فمن الواضح إلى الآن أنها لم تكتسب فضيلة المراجعة الجادة، والاعتذار عن الأخطاء والخطايا شعورًا بالمسؤولية السياسية أمام المواطن الذي تسعى لحكمه، إذ أن كل ما تسرب عن مراجعاتها يبقى في إطار الشأن الداخلي، وكأنها -أي المراجعات- تخصهم وحدهم، فلا أحد يعلم يقينًا ما إذا كانو قد تخلوا عن عقيدة الأممية الإسلامية والخلافة، وأستاذية العالم التي تعني التركيز على استراتيجيات (وهي في الحقيقة أوهام) لا تضع حقوق المواطنة المصرية في حسبانها، بل وتضحي بمصالح ومستوى معيشة المصريين في سبيل ما يسمونه بـ “مجد الإسلام”. وكأننا نعيش عصر صلاح الدين الأيوبي وخلفائه وصولًا إلى المماليك الذين اتخذوا مصر قاعدة اقتصادية للحرب ضد الصليبيين، دون أن يفهم من ذلك أننا ندين تلك الحقبة، التي كانت لها معايير و ومصادر للشرعية السياسية تختلف كل الاختلاف عن معايير عصر الدولة الوطنية، ودون أن يعني ذلك رفض فكرة التعاون والتضامن الإسلامي والمسؤولية المشتركة على قدم المساواة بين جميع الشعوب المنتمية إلى أسرة واحدة نحو التحديات الكبرى، والعدوان على حقوق أي شعب أو جماعة (فلسطين مثلًا)، ويسري ذلك أيضًا علي التضامن العربي أو الإفريقي. إلخ.

كذلك ليس لدينا علم بمراجعة وتصحيح مبادئ التنظيم المغلق والسمع والطاعة، وما إذا كان الإخوان هم جماعة المسلمين أم جماعة من المسلمين، ودور السلطة السياسية في مراقبة سلوك المواطن من الناحية الدينية، فضلًا عن معتقداته، و لا عن موقفهم من الثقافة والفنون وحرية التعبير إلخ.

وبالإجمال ليس لدينا يقين بتغير مفهومهم للسياسة من المطلق إلى النسبي، ومن الفرض أو الإكراه إلى التفاوض والتسويات والحلول الوسط، ومن الانفراد والتمكين إلى التعددية والمشاركة. بديهي أن كل تلك المآخذ تتصادم مع استحقاقات العصر الذي نعيشه، ومع مفهوم دولة القانون الوطنية.

وفيما يتعلق بالإقليم، فإن تحسن العلاقات المصرية الواضح مع قطر، والنسبي مع تركيا جاء على حساب الجماعة.

كما أن نكسات فروع الجماعة في تونس والمغرب وليبيا والسودان يخصم من رصيدها الضئيل أصلًا، والأهم من ذلك، فإن تراجع احتمالات حدوث انفجار للموقف في الخليج سواء بصراع أمريكي إيراني ساخن أو صراع إسرائيلي إيراني سوف يجنب المنطقة كلها انفجارًا شاملًا قد يبعثر أوراق الجميع، ويقتضي صفقات داخلية وإقليمية تهيئ دورًا للجماعة. خاصةً إذا توقف أو تضاءل الدعم الخليجي للنظم المناهضة للإسلام السياسي.

لكن في مقابل ذلك، فإن استمرار الجمود السياسي، وتواصل الكبت، وتعثر التنمية الحقيقية، وتوالي الأزمات من مياه النيل إلى تفوق إسرائيل لدرجة الهيمنة على المشرق يبقي كل الاحتمالات مفتوحة.

وعلى الصعيد الدولي، تعتبر قضية حقوق الإنسان هي كعب أخيل المصري والعربي أمام الجهات الرسمية والقوى المجتمعية الديمقراطية في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، ولسوف يخطئ من يظن أن ذلك الاهتمام بحقوق الانسان مجرد ذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية، فهذا ليس صحيحًا دائمًا، وكنا قد كتبنا هنا أن اهتمام تلك القوى بحقوق الإنسان جاد و غير انتهازي، لأسباب تتعلق بالاتساق مع الذات، وبمواجهة اليمين القومي الصاعد بنزعة فاشية في عموم الغرب، وبمراعاة مشاعر وتوقعات الجماعات المسلمة الكبيرة الحاملة لجنسيات. وبالتالي، لحقوق المواطنة في تلك الدول، وهذا عامل موات لجماعات الإسلام السياسي عمومًا، يضاف إليه ذلك التطور الذي أشرنا إليه توا، وهو صعود اليمين القومي من جديد، بما يعنيه ذلك من دوران قسط كبير من العلاقات الدولية والإقليمية والداخلية حول سياسات الهوية، ويمتد هذا الصعود لسياسات الهوية من الهند وبورما والصين إلى روسيا إلى أوروبا شرقًا وغربًا إلى الولايات المتحدة ذاتها، ما أنتج حالة ترامب مثلًا، وبالطبع فإن جماعة الإخوان وسائر جماعات الإسلام السياسي هي في طليعة من يرفعون لواء الهوية.

إلا أنه في مواجهة ذلك، فإن الإجماع الرسمي والمجتمعي على رفض الارهاب الذي تمارسه تنظيمات إسلامية كداعش وفروعها وخلاياها والقاعدة إلخ، وكذلك رفض الاتجاهات الانعزالية للمسلمين الذين يعيشون في الغرب الأمريكي والأوروبي يضعف فرص قبول هؤلاء لتيارات وتنظيمات من طراز جماعة الإخوان دون مراجعة شاملة وجذرية وموثقة تتفق مع استحقاقات العصر، ممثلة في حكم القانون والمواطنة وحقوق المرأة والأقليات والتعددية وتداول السلطة سلميًا وحرية التعبير والاعتقاد والتجمع والتظاهر إلخ. وهو ما قلنا أعلاه أنه لا توجد مؤشرات يعتد بها على حدوثه من الإخوان فضلًا عن صدوره عنهم.

تلخيصًا لما قيل ففي كل متغير من المتغيرات الأربعة سالفة الذكر ما قد ينبئ بانعدام فرص أي دور مستقبلي لجماعة الإخوان المسلمين في مصر ومن ثم في الإقليم، وفي كل متغير ما قد يفتح للجماعة فرص العودة، والإجابة النهائية ستكون هي محصلة تفاعل كل تلك المعطيات، لكن المعول الأكبر يبقى علي نجاح السلطات القائمة في كل دولة في بناء مجال سياسي يحوز أكبر قدر من الرضا العام، ويطلق قوى المجتمع المدني، ويحمي وينمي الطبقة الوسطي حاضنة قيم الاعتدال، وكذلك النجاح في التنمية الشاملة بدءًا بالتعليم والتصنيع.