كيف بدأت القصة؟ في عام 2010 صدرت النسخة الأولى من مسلسل “عايزة أتجوز” الذي يحكي عن صيدلانية ترغب في “الاستقرار”. فيما تسعي جاهدة للحاق بقطار الزواج قبل وصولها إلى الثلاثين. مع ضغوط عائلتها عليها لقبول أول عريس يطرق بابها. ما يعرضها لمواقف كوميدية. وتحكي البطلة طول الوقت عن معاناتها مع الرجال المتقدمين لخطبتها. قصة فتاة كل ما يشغل بالها هو “البحث عن شريك” -“استقرار”- سيتحقق. كانت هذه الفتاة تمثّل قطاعا عريضا من جمهور واسع في مصر كطبقة إجتماعية وشريك وأسرة بسيطة وطموح حالم وادع بسيط.. كيف تحولت الأمور إلى “البحث عن علا“؟
هو عمل فني أصدرته نتفليكس منذ أيام كامتداد لمسلسل “عايزة أتجوز”. واختارت شبكة نتفليكس الاستثمار فيه بجزء آخر مع كاتبته الأصلية غادة عبد العال. فيما أسندت نتفليكس المهمة -بجانب غادة- للسيناريست مها الوزير -المشرفة على كتابة مسلسل “لعبة نيوتن”.
إذًا نحن أمام عمل نسائي تأليفا وتمثيلا يصب في قالب غادة عبد العال. حيث وجهة النظر النسائية الشخصية والعامة التي تطلبها الفتاة التي تبحث عن شريكها “استقرارها” كخطاب واضح معالمه قديمًا سيتحول تدريجيًا من الخطاب الذي مثّله “عايزة أتجوز” إلى خطاب “البحث عن علا”.
تغير اسم المسلسل ربما ليس لصالح بطلته علا عبد الصبور. بل لخطاب أوسع تستهلكه وتراهن عليه نتفليكس كل مرة دون مؤامراتية.
من “عايزة أتجوز” إلى “البحث عن علا”
ينتهي مسلسل “عايزة أتجوز” بتأكيد النقطة الأكثر محورية: عدم الاستعجال في اختيار شريك الحياة مهما كانت الضغوط والسعي الإنساني المستمر نحو الاستقرار الذي يحققه وجود شريك. بعد اثني عشر عامًا ستأتي علا عبد الصبور “النتفليكسية” مرتكزة على نجاحها الأول المضمون وتعود بعلا خطوات للوراء. تبحث في قلبها عنها في رحلة “البحث عن علا” التي يبدو أنها لم تكن تعيش كل السنوات السابقة.
إذا كانت وجهة نظر نتفليكس إحداث تغيّر جذري بين علا عبد الصبور “عايزة أتجوز” وبين علا عبد الصبور “البحث عن علا”. لماذا اختارتها من الأساس؟ لماذا قررت أن تنتج نسخة أخرى للمسلسل والسعي في كل مقابلة وكل حوار يخص العمل أنه “ليس نسخة أخرى بل عمل مختلف”. أعتقد أن التساؤل التأسيسي يبدأ من هنا.
لا تغامر نتفليكس في إنتاجاتها العربية كثيرًا. تتحرك وفق تصور سابق لأهمية قضاياها الشخصية الأكثر عالمية على حساب محلية القضايا التي تتناولها. إذا كان علينا أن ننتج سينما عربية. سننتج نسخة أخرى من فيلم إيطالي أثبت نجاحه. هكذا تم في “أصحاب ولا أعز“. وإذا كان علينا أن ننتج مسلسلا سنبحث عن أي من الأعمال المصرية التي خلقت قاعدة جماهيرية أثبتت نجاحها وتمتلك المقومات الأساسية التي يمكن اللعب من خلالها.
علا التي خلقتها غادة عبد العال تمثل قطاعا واسعا من طبقة بسيطة. ستتحول لتقدم دراما الكومبوندات. في مشهد تأسيسي سنشاهد أسرة مصرية لا يشغلها أي تقلب اقتصادي. منزوعة الروح لا يجمعها أي شيء أصيل. أب منهك مستهلك لا يملك أي تعبير بأداء سيئ من هاني عادل وطفل صغير لا يرفع رأسه عن ألعاب هاتفه وفتاة تتحسس مراهقتها بإثبات فهمها لكل شيء حولها.
فتاة صغيرة تجسد علا الصغيرة أو علا التي كان على القدر أن يعيد خلقها هكذا. ذكية وحرة وعنيدة.
تقديم جديد لشخصيات “البحث عن علا”
بالكليشيهات ذاتها التي جاءت منها الأم “سوسن بدر” المتسلطة والبواب “الحشري” خفيف الظل وأم الزوج الكارهة للزوجة التي قاسمتها ابنها يتم تقديم الشخصيات سريعًا في وجبة مكثفة لمسلسل 6 حلقات. لا يحتمل العمل أي مط أو تطويل. سنشاهد الزوج يطلب دون مقدمات الانفصال لأنه لم يعد يحتمل.
تعتمد نتفليكس في إنتاجاتها العربية على الخطاب. ثمة خطاب هو محور كل شيء بجانبه أشياء جامدة باهتة الجمال تتعمد عدم لفت الأنظار. بموسيقى مهجنة من كل منطقة أغنية في “أصحاب ولا أعز” كما في “البحث عن علا”.
شخصيات لا تمثل سوى قطاع صغير جدًا عربيًا على مستوى الطبقة والفكر يمكن بها الحديث عن قضايا تخص نتفليكس أكثر من غيرها بالشكل الذي تراه. إنتاج يتحكم في كل شيء ربما أكثر من “تحكمات السبكي”.
عشرات الأعوام التي تم خلق فيها أسرة لا نفهم سياق هذا الحزن المقيم الذي نتج عنه أزمة قلبية مفاجئة للزوج. كما لا نفهم سياق التوهة التي ستعيشها “علا” التي سيصبح مسار العمل الفني في قلبه لتحاول البحث عن ذاتها الحقيقية التي لم تجدها في تلك الأسرة.
البحث عن علا ولزوم ما لا يلزم
في معمعة التحول المفاجئ ستذهب “علا” لصديقتها التي قاطعتها بسبب زوجها. الرجل نفسه الذي سيذهب لإقامة علاقة مع فتاة منفتحة. الطبيب النفسي المنسحق أمام والدته القادم من طبقة أعلى يمنع زوجته من فتاة “مش مظبوطة”. تفصيلة لا يمكن تمريرها سوى على مضض تمامًا مثل اللازمة ثقيلة الظل التي تحملها “علا” طوال الحلقات الست لكل من يخطئ في نطق اسم ابنها “سَليم” عندما يقول “سِليم”. تفصيلة لا تقدم أي شيء سوى “روشنة” المخرج هادي الباجوري ورسالته المبطنة اللذيذة إلى زوجته ياسمين رئيس وابنها “سَليم” “مش سِليم”.
عندما تنفصل عن زوجها لا تواجه أي مشكلة كمطلقة مصرية لا تعمل منذ سنوات. في لحظات تجد أحد نجوم مجاله الذي يساعدها أيضًا دون سياق. كما نجد قروضا يمكنها أخذها. شتات عقلي كامل تتحرك خلاله الممثلة هند صبري. وقصة حب مع أرمل يقدم دوره أحمد طارق نور -ابن رجل الأعمال الشهير- يا إلهي! دور بطولة رئيسي في أول مرة يقف فيها أمام الكاميرا؟!
تضييق أزمة “دراما الكومبوندات” على اعتبار أزمات الإنسان المعاصر هي أزمة عاطفية بالأساس لإنسان لا يجد من يحنو عليه هو تبسيط مخل للأزمة. والنقاشات التي تخص مطلقة مصرية كان يمكن أن تكون أكثر عمقًا من التسطيح الذي شاهدناه. والذي أكاد أوقن أنه لا يخص السيناريست مها الوزير كما لا يخص مشروع غادة عبد العال الأصيل الذي لفت الأنظار إليها قبل سنوات فقط لشدّة صدقه.
نتفليكس تحتكم إلى “تأليه الوحدة”
الخطاب النيوليبرالي غير المسؤول الذي يؤله الوحدة. ينتصر إليها في ذاتها. ربما هو ما احتكمت إليه نتفلكس. الأخطاء لا تغتفر مهما أظهر الطرف الآخر ندمه. والعلاقات الجديدة لا يمكننا الوثوق بها أبدًا. والإنسان عليه أن يحب نفسه أكثر من أي شيء.
“علا” الحقيقية هي الفتاة التي تبتعد عن كل شيء حولها لم يكن يمثلها من الأساس. تقف سعيدة وهي تترك يدا تقدم لها حبا جديدا. كما تترك يدا قدمت لها حب عشرات السنوات لم تخلده الكاميرا على قدر تخليدها للحظات يأسهم العابر المتوقع.
“البحث عن علا” جوهر خطاب يمجد رمزية الوحدة وشاعريتها على معاناة تكوين أسرة بكل ما في الأمر من مجهول وخطورة. في مقابل سعادة تدّعي العمق لفتاة تقرر أن تقف في المركب وحيدة بمظلومية فارغة أن الجميع يقف ضدها.
تحياتي للإنسان المعاصر شديد الروشنة الذي يقترب من عبادة ذاته. لا يمكنه تقديم أي تنازلات أمام أي حب قديم أو عابر يطلب الإقامة. كل حركة في العلاقة العاطفية المعاصرة مراقبة بالكاميرات وحصار الحديث عنها على مواقع التواصل. من يخطئ يمكن استبعاده دون رجعة في مسلسل لم نر فيه أي نموذج ناجح لعلاقة عاطفية سعيدة. بينما سنشاهد مطلقات “شيرين رضا ويسرا” سعيدات بحياتهن تمامًا.
شعارات مستمرة يتلقاها الإنسان المعاصر “الغلبان” حول الحرية والفردية تُنتزع من سياقها. تحول متلقيها من جهله بالأمر إلى وضعه في جهل مركب. يسمع مصطلحات لا يضعها في سياق واضح. نرى أزمات هجينة مهجنة وعلاقات تُبتر لأسباب مخجلة وخوف دائم من عمل علاقة ناضجة تتحمل العراك والمشقة وتقلبات الإنسان عمومًا.
لماذا غيرت نتفليكس “عايزة أتجوز” إلى “البحث عن علا”؟
لأن الأخيرة تمثل كل شيء تؤمن به على حساب سذاجة الفتاة الأولى التي كانت ترهن استقرارها العاطفي على آخر. بينما الإنسان النتفليكسي المعاصر عليه أن يراهن على ذاته ويبحث عنها فقط.
في الأوقات الضحلة التي نعيشها سيساعد هذا الخطاب على سعي الناس كل لحظة لإثبات ذواتهم عن طريق العمل. الشيء الوحيد الذي يمكن التفاخر به واحتقار الأسرة التي تعطل تمامًا هذا الشيء. والمشاعر المعقدة التي تنتج عنها. دون أي مؤامراتية يمكن تمرير ذلك عن طريق فتاة سعيدة في وحدتها حتى لو كان طوب الأرض يعلم مدى قسوة ما ستعانيه هذه الفتاة في وحدتها ليلًا.