قبل سنوات كنت شاهدا على الموقف التالي؛ طلب أحد الزملاء الصحفيين من زميل متدرب شاب أن يعيد التأكد من معلومة معينة وردت في خبر معد للنشر، وإذا بالصحفي الشاب يقول بلهجة مستهجنة ساخرة: “ليه؟ عشان المصداقية بقى وكده؟”(!!!)
علامات التعجب من عندي بالطبع، إذ لا أنسى ذهولي يومها من رد الزميل الشاب، لا لأن الصحافة بريئة من عدم المصداقية، فهي -للأسف- ملوثة بها في الكثير من المواضع، و-للأسف مرة أخرى- ازدادت معاناتها في السنوات التالية> ولكن غرابة الموقف جاءت من نقطتين: الأولى، تلك الجرأة التي اعتبر بها الزميل الشاب أن المصداقية في حد ذاتها أمر غير ضروري إلى حد أن يسخر الصحفي نفسه منه (تخيل أن يقول طبيب: عشان المريض يخف بقى وكده؟). والنقطة الثانية، أن ذلك الزميل كان لا يزال شابًا في بداية طريقه، لم يُتح له الوقت بعد حتى “يفقد مبادئه” أو “يخسر أحلامه” أو غير ذلك مما يتحجج به من يتخلى عن أصول المهنة، أي مهنة.
نحن لا نعرف كيف يعمل وعينا، فضلًا عن “لا وعينا”، لهذا فقد قذفت إليّ ذاكرتي بهذا الموقف القديم، فور أن قرأت خبر محاولة اعتداء الأهالي على المعلمة وداد، رئيسة لجنة الامتحانات بإحدى المدارس بالدقهلية، وذلك لمجرد أن الأستاذة الفاضلة أدت وظيفتها، ومنعت الطلاب من الغش أثناء الامتحانات.
يظهر مقطع فيديو على الإنترنت تلك المحاولة الجماعية الغاضبة للاعتداء، والتي تدخلت لوقفها السلطات وألقت القبض على 6 أشخاص، مما يؤكد ضخامة محاولة الاعتداء ومدى جدية “الغضب”!
نقلت الصحافة عن المعلمة أنها طالبت أولياء الأمور بتربية أبنائهم على الصدق والاجتهاد لا على الغش والاحتيال. وأكاد أتخيل الأهالي يهتفون بصوت ذلك الزميل الشاب القديم وبنبرته الساخرة “ليه؟ عشان الأمانة بقى وكده؟”.
يحيلنا ذلك إلى أنه بعد أسابيع تحل الذكرى الأولى لرحيل المفكرة نوال السعداوي، التي وإن كانت قد عرفت بالدفاع عن المرأة وتبني قضايا النسوية ونقد الخطاب الديني، فإن أحد أبرز موضوعاتها كان نقاش ازدواجية الأخلاق.
إن كل هؤلاء؛ الذين حاولوا الاعتداء على المعلمة، والزميل الشاب الذي سخر من المصداقية، وحتى معدّي البرنامج الذين فبركوا استضافة الدكتور مجدي يعقوب في إحدى القنوات الفضائية وأحضروا شخصا يقلد صوته! كل هؤلاء يعتقدون أن لديهم أخلاقا ويؤمنون أنهم يمتلكون شرفا. بل وقد يزايدون على غيرهم في الحلال والحرام وقيم الأسرة وسمعة مصر. الأمر الذي يثبت أنه من الممكن أن تنشأ واجهة كاملة من الأخلاق، مزينة بالمثاليات، ومحمية بمواد القانون ونصوص الدستور، بينما يعجز أهلها عن تمييز حتى أبسط الأخلاقيات الإنسانية، كالخطأ البديهي في الغش، أو التزوير، أو الصدق. وأن يبلغ انعدام التمييز ذلك حدا، أن لا تكون الجريمة فيه أمرا مخزيا يتم في الخفاء، لا بل تنقلب الأخلاق و”تزدوج”، حتى يجعر الخلق مطالبين بـ “حقهم” في ارتكاب تلك الجريمة، كما فعل من حاولوا الاعتداء على المعلمة، أو أن يسخر الصحفي الشاب بصوت عال من المصداقية، معتقدا أن الآخرين سيشاركونه سخريته واستغرابه واندهاشه، ما ينبيْ عن حقيقة بسيطة، هي أن ذلك الشاب نشأ في بيئة لا تعتبر الكذب خطيئة، تماما كأولياء الأمور الذين نشأوا في أجواء لا ترى الغش عارا.
من هنا، كان صوت المعلمة المحتجة على الغش هو الصوت الغريب، المثير للاستنكار، كأنك تقلب بيت صلاح عبد الصبور “متى نشأ في وادينا الطيب هذا القدر من الأوغاد”، ليصير العكس هو الحال، كيف نشأت بيننا تلك المعلمة التي تتكلم عن ضرورة الصدق والاجتهاد؟ وكأنها تؤمن حقا بما يدرسه التلاميذ في الكتب.