يمكن وصف المسار التفاوضي المتوقف حاليا بين دول نزاع سد النهضة الأثيوبي الثلاثة بجملة واحدة كنا نسمعها في الدراما المصرية: يبقى الوضع على ما هو عليه وعلى المتضرر اللجوء للقضاء. لكن الوضع هنا ليس على حاله حيث إن عملية بناء السد تسير على قدم وساق، فقد اكتمل نحو 80% تقريبا وفقا للبيانات الرسمية الأثيوبية. كما أن هناك استعدادات لتشغيل أول توربينيين لإنتاج الكهرباء فضلا عن تجريف المنطقة المحيطة بالخزان تمهيدا للملء الثالث. في كل مرة يخرج رئيس الوزراء الأثيوبي يزف البشرى بخطاب شعبوي من أجل تعبئة وحشد بني قومه الذين أرهقتهم الصراعات وأثقلت كواهلهم مصاعب الحياة. وفي المقابل لا تكف مصر عن تحذيراتها المعلنة بأن مياه النيل تمثل خطا أحمر إن تم تجاوزه فلها الحق في الدفاع عن نفسها بأي وسيلة ممكنة. ويبدو أن تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية في كل من السودان ، بسبب الانتقال الديموقراطي المتعثر وأثيوبيا بسبب الحرب في التيجراي يزيد من تعميق الخلافات حول سد النهضة.

تناقض الرؤى وموت السياسة

ما فتئت الرواية الأثيوبية تُصر على أن تنظيم السد لتدفق مياه النيل الأزرق من شأنه أن يحمي السودان من نقص المياه ، ويمكنه من إدارة سدوده الكهرومائية بشكل أفضل وتجنب مخاطر الفيضانات المدمرة. وقد تمكنت أديس أبابا بالفعل من كسب ود كثير من قطاعات النخبة الحاكمة في السودان، ولاسيما زمن حكم البشير، على اعتبار أن السد يصب في نهاية المطاف في مصلحة السودان. وتحاول كل من مصر والسودان  منذ سنوات دون جدوى إقناع إثيوبيا بالموافقة على اتفاق ملزم قانونًا يحكم ملء وتشغيل سد النهضة وبروتوكولات التعامل مع حالات الجفاف والجفاف الممتد في المستقبل. على أن أثيوبيا التي ترفع شعار “المياه مياهنا والسد سدنا” ترى أن تعهداتها بعدم إلحاق الضرر الجسيم بدولتي المصب يُعد كافيا، حيث إن تعاملها مع مواردها الطبيعية هو في جوهره مسألة تتعلق بالسيادة الوطنية.

ومع ذلك فإن الرواية المصرية الرسمية والشعبية ترى أن مياه النيل هي مسألة حياة أو موت، وهي تمس مفهوم الأمن القومي في الصميم.طبقا لدراسة حديثة متعددة التخصصات، فإن الأثر البيئي والاقتصادي لسد النهضة الذي يبلغ حجم خزانه 74 مليار م3 سوف يؤثر سلبا على تدفق المياه السنوي لمصر من النيل الأزرق، اعتمادا على سيناريوهات ملء الخزان لمدة 3 أو 7 أو 10 سنوات والتي تعد قيد الدراسة حاليًا. ومن المحتمل أن يؤدي ذلك الفقد في المياه إلى خسائر في الأراضي الزراعية في مصر وما يترتب عليه من متغيرات الاقتصاد الكلي مثل إنتاج الغذاء ، واستيراد وتصدير المواد الغذائية ، والتوظيف، وتكلفة المعيشة، والناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد. وعليه ما لم تتخذ الحكومة المصرية إجراءات للتخفيف من حدة الجفاف وتداعيات ملء وتشغيل سد النهضة فإن التكلفة الاقتصادية والاجتماعية سوف تكون باهظة وربما تؤدي إلى توتر وعدم استقرار إقليمي.

إذا كانت السياسة هي فن الممكن وتقوم على مبادئ التوفيق والتفاوض والتسوية السلمية والحلول الوسطية فإننا في حالة سد النهضة يمكن أن نعلن بكل صراحة عن موت السياسة وغلبة العقائد والأساطير التي يؤمن بها أحفاد منليك في بلاد الحبشة. غالبًا ما يستشهد المؤرخون ورجال الدين في إثيوبيا باقتباسات من وثائق العصور القديمة، بما في ذلك الكتاب المقدس للادعاء بأن الله قد أعطى مياه النيل لإثيوبيا فأصبحت ملكا خالصا لهم: “وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة. ومن هناك ينقسم فيصير أربعة روافد.  اسم الأول فيشون و هو المحيط بجميع أرض الحويلة حيث الذهب..:  و اسم النهر الثاني جيحون و هو المحيط بجميع أرض كوش . واسم النهر الثالث دجلة و هو الجاري شرقي آشور و النهر الرابع الفرات” (التكوين 2: 11-14). ولا يخفى أن ذلك مايفسر السردية الأثيوبية المسيطرة على مر العصور حول النيل الأزرق (أو آباي بالأمهرية) . وربما يعزى فشل دبلوماسية المياه  منذ عام 2011 وحتى اليوم إلى سعي أثيوبيا إلى الهيمنة  الإقليمية وتغيير خريطة توازنات القوى السائدة في منطقة حوض النيل.

مبدأ منليك وسياسات فرض الهيمنة

ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا يتمثل في كيفية فهم السلوك الخارجي عبر العصور ليس فقط في العهد الإمبراطوري ولكن على امتداد فترة الحكم العسكري ثم حكم ميليس زناوي وأخيرا حكم آبي أحمد. إنه ببساطة السير على نهج مبدأ منليك باني أثيوبيا الإمبراطورية بشكلها الحالي بين عامي 1890 و 1906سواء من خلال الغزو أو الدبلوماسية.  بعد انتصاره الأسطوري على الإيطالين في معركة عدوة 1896 دخل منليك بسرعة في اتفاقيات مع فرنسا وبريطانيا وحتى الدولة المهدية في السودان في محاولة لضمان سيادة إمبراطوريته. في الحصول على اعتراف من القوى الأوروبية، نجح مينليك في تحقيق ما لم يستطع أسلافه – وفي الواقع العديد من القادة الأفارقة الآخرين في عصره – تحقيقه. ساهم هذا النجاح بشكل كبير في الصورة الأسطورية تقريبًا لإثيوبيا على أنها مثال للاستقلال الأفريقي. لكن ما يتم تجاهله عمومًا هو أن الإمبراطورية الإثيوبية الحديثة عززت نفسها كدولة عن طريق التوسع والغزو في نفس الوقت الذي كانت فيه القوى الأوروبية منخرطة في ما يُسمى التدافع من أجل أفريقيا. لم يكن مستغربا أن تكون الحدود الجغرافية والعرقية للدولة مرنة ولم يتم تحديدها بشكل صارم. في الأراضي التي تم ضمها كان التناقض بين وكلاء الإمبراطورية والسكان المحليين حادًا للغاية. لم يُبذل أي جهد في عهد منليك لإدماج الشعوب الخاضعة بشكل فعال في النظام السياسي الموسع باستثناء فرض ثقافة ومؤسسات الهضبة المهيمنة، الأمهرة والتغراي بالقوة. بالنسبة للكثيرين، لا سيما خارج المرتفعات، كان هذا عقبة أمام تطوير إحساس محدد بوضوح بالهوية الوطنية.

أعاد ميليس زناوي وهو من التيغراي تقاليد منليك، الذي كان ملكا للشوا قبل تبوأه عرش الإمبراطورية، حيث رأي أن مياه أثيوبيا تُعد بمثابة الذهب الأزرق الذي يمكن مبادلته بعوائد اقتصادية من دولتي المصب. وعليه فقد بدأ العمل سرا في مشروع سد النهضة الذي أطلق عليه اسم “المشروع إكس” منذ عام 2009.  وعلى الرغم من تبدل الأدوار مع مجىء آبي أحمد إلى السلطة فقد ظلت مسألة تسييس السد وتوظيفها سياسيا من أجل حشد التأييد والدعم الشعبي من خلال استمالة المشاعر الوطنية تمثل القاسم المشترك للسياسة الأثيوبية على الرغم من تغير الحكومات. تم استخدام تكتيكات منليك التي تتسم بالحيلة تارة والخديعة تارة أخري.

قبل البدء بعملية الملء الثالث وتوقف المفاوضات خرج آبي أحمد في  في 20 يناير 2022 ببيان من صفحتين يدعو فيه إلى تهدئة المخاوف المصرية والسودانية بشأن سد النهضة. ومع ذلك لم يقدم البيان أي تغييرات حقيقية في موقف إثيوبيا طويل الأمد بشأن سد النهضة ولم يقدم مقترحات جديدة لكسر الجمود الذي  هيمن على أكثرمن عقد من المفاوضات بين الدول الثلاث بشأن السد. والأغرب من ذلك أن يظهر السفير رضوان حسين وزير الدولة للشئون الخارجية في أثيوبيا على وسيلة اعلام سودانية ليكرر الرواية السائدة أن أثيوبيا ماضية في إتمام بناء السد غير عابئة باعتراضات كل من مصر والسودان. ولم يخل حديث الوزير الإثيوبي من تلميحات لإحداث الوقيعة بين كل من مصر والسودان.

الوساطة المستحيلة

على الرغم من تناقض الرؤى بين الأطراف الثلاثة وتوقف المفاوضات، فإنه من غير المحتمل حدوث صراع  عسكري في المستقبل القريب. كما أن السودان الذي يشهد تعثرا في ولادة الحكومة التوافقية الانتقالية يبدو أكثر تصالحا مع أثيوبيا، وهو ما أكدته زيارة نائب رئيس مجلس السيادة الحاكم الجنرال محمد حمدان دقلو لأديس أبابا واستقباله بترحاب شديد من قبل الزعامة الأثيوبية. وعليه في الوقت الحالي، يمكن أن نشهد تجميدا للنزاع ولو إلى حين، وسوف تكون الجهود الدولية حاسمة لتحقيق اختراق مفيد لجميع الأطراف. ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لم يتمكنا من الاتفاق على استراتيجية متماسكة فيما يتعلق بأزمة سد النهضة.

ويبدو أن نقطة الاتفاق المشتركة هي العمل من أجل تجنب الحل العسكري. برز ذلك واضحا في توكيد قائد القيادة المركزية الأمريكية كينيث ماكنزي أثناء زيارته لمصر في 10 فبراير 2022 أن واشنطن مستعدة لمساعدة مصر بكل الوسائل الممكنة لحل أزمة سد النهضة الإثيوبي بشكل دبلوماسي.

على أن فشل المحادثات التي كانت تقودها الولايات المتحدة والبنك الدولي في ظل رئاسة دونالد ترامب، بعد أن سجلت نجاحًا أوليًا، جعلت إثيوبيا تنظر إلى الولايات المتحدة على أنها وسيط متحيز ولاسيما بعد دعوة الرئيس ترامب الصريحة للقيادة المصرية بتبني الخيار العسكري لتدمير سد النهضة. بعد ذلك، اعتبرت أديس أبابا قرار واشنطن تجميد ما يقرب من 130 مليون دولار من المساعدات الأمريكية لإثيوبيا بمثابة إجراء انتقامي.

في ظل عدم الحسم الأمريكي حيث تغيرت أولويات إدارة بايدن إلى احتواء كل من الصين وروسيا كما عكسته الأزمة الأوكرانية فقد اتخذت الجهات الفاعلة العالمية والإقليمية الأخرى مبادراتها الخاصة. ونظرا لسيطرة أجواء ومصالح أقرب لحالة الحرب الباردة فقد يؤدي ذلك إلى تفاقم الاستقطاب الدولي وديمومة هذا النزاع المائي. من المرجح أن تكون الوساطة الأفريقية التي يقودها الاتحاد الأفريقي غير مجدية ولاسيما بعد تجربة رئاسة جنوب أفريقيا التي كانت أشبه بسياسة البطة العرجاء ورئاسة الكونغو الديموقراطية التي لم تحرك ساكنا. وعليه، فإن انتخاب ماكي سال رئيس السنغال في الدورة الحالية لن يغير من الأمر شيئا. لقد أثبت شعار “حلول أفريقية لمشكات أفريقية” أنه يعبر عن مثالية حالمة بعيدا عن تعقيدات الواقع وتبعات التدخلات الدولية. من جهة أخرى فقد دعمت جامعة الدول العربية مصر حيث دعت مجلس الأمن الدولي إلى تبني قرار يدين موقف إثيوبيا المتعنت وحماية الأمن المائي لمصر والسودان. ومع ذلك فإن ذلك يُضفي مزيدا من المشكلات في مسيرة العلاقات العربية الأفريقية ولن يُسهم في إفراز وساطة مقبولة من جميع الأطراف.

وعلى الرغم من أن بعض القوى الإقليمية مثل تركيا وإسرائيل وبعض الدول العربية قد يكون لها مصالحها الخاصة، فإن عدم قدرة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على تسوية النزاع قد يمنح  أيا من روسيا أو الصين التي عينت مبعوثا لها في القرن الأفريقي الضوء الأخضر للقيام بدور الوساطة. على الرغم من أن هذا يعني أيضًا أن كلا الدولتين يحاولان تعزيز نفوذهما مع إثيوبيا وربما دعم موقفها –ولومن طرف خفي- بشأن أزمة سد النهضة. صحيح أن موسكو وبكين لهما علاقات قوية مع القاهرة  ولاسيما منذ وصول الرئيس السيسي إلى السلطة، فإنهما قد يفضلان تعزيز العلاقات مع إثيوبيا، بالنظر إلى أن مصر لا تزال حليفًا موثوقا للغرب. اتضح ذلك في امتناع روسيا والصين عن ممارسة ضغوط اقتصادية ودبلوماسية على إثيوبيا وفضلتا الالتزام بسياسة عدم التدخل والدعوة إلى إلى حل سلمي للنزاع.

وعلى أية حال يبدو من المرجح في ظل العجز الدولي والإقليمي عن توفير وساطة مقبولة لتسوية أزمة سد النهضة أن نشهد منافسة جيوسياسية أو حالة أشبه بالحرب الباردة في منطقة حوض النيل وهو ما يدعو إلى مزيد من الاستقطاب الدولي والإقليمي حيث يسعى الجميع إلى الاستفادة وتعظيم مصالحه.. جميع الدول ذات المصلحة تريد الاستفادة من النزاع واستخدامه لتوسيع نفوذها الإقليمي. وعليه فإن قيام إثيوبيا بالاستعداد لمرحلة الملء الثالث غير عابئة باعتراضات كل من مصر والسودان يمثل انتكاسة لجهود االتسوية السلمية. وعلى الرغم من توكيد القيادة المصرية على ضرورة التوصل لحل تفاوضي من خلال اتفاق قانوني وملزم يضمن حقوق مصر التاريخية ويحفظ حق أشقائنا الأثيوبيين في التنمية، فإن للصبر حدود كما يقولون. إذا ظلت هذه الرؤى المتناقضة دون حل، وإذا ظلت عملية البحث عن وسيط مقبول قادر على الحسم أشبه بالبحث عن الغول والعنقاء والخل الوفي كما يقول العرب، فإن البحث عن طرق أخرى لتأمين أمن مصر المائي  تُصبح أمرا لا مفر منه، وهو ما قد يؤثر سلبا على استقرار وأمن الإقليم وما وراءه. وهذا من شأنه أن يُقوض ويُعيق خطة تنمية الاتحاد الأفريقي التي جسدتها أجندة 2063. وقد ينعكس ذلك سلبا أيضا على أزمة اللاجئين وتيارات الهجرة العالمية. وبالتالي، هناك حاجة إلى تدخل دولي فاعل قبل الوصول إلى سيناريو حافة الهاوية.