في 26 يناير الماضي، وصل رئيس الجمهورية، عبد الفتاح السيسي، إلى العاصمة الإماراتية أبو ظبي، حيث استقبله بحفاوة بالغة ولي العهد، الشيخ محمد بن زايد، الذي أبلغه الرئيس وقوف مصر إلى جانب شقيقتها عقب تعرضها لهجمات صاروخية من قبل جماعة أنصار الله اليمنية وهو ما وصفه المتحدث الرئاسي بـ”العمل الإرهابي الذي تقترفه ميليشيا الحوثي”. وبعد عدة أيام من تلك الزيارة، نشر موقع انتليجانس اونلاين الفرنسي، المتخصص في شؤون الاستخبارات، أن فريقا عسكريا مصريا قد وصل إلى محافظة شبوة اليمنية حيث “ألوية العمالقة” المدعومة إماراتيا، وذلك لتقديم الدعم في الحرب الدائرة هناك، من جهة، والاطمئنان على سلامة الملاحة في مضيق باب المندب من جهة أخرى. وبين القاهرة وأبو ظبي وشبوة، غاب الحديث عن أديس أبابا، حيث يستمر العمل في أخطر مشروع على أمن مصر القومي بإصرار وتعنت من الحكومة الإثيوبية المدعومة بقوة وعزم غير مفهومين من قبل دولة الإمارات، الشقيقة.

في بيانه المطول عن الزيارة، أشار متحدث الرئاسة المصرية عن النقاط التي تمت مناقشاتها، والتي شملت تضامن مصر مع الإمارات في مواجهة التهديد الحوثي، ودعم مصر لكل ما تتخذه الإمارات من إجراءات للتعامل مع أي عمل إرهابي يستهدفها وذلك في إطار موقف مصر الراسخ من دعم أمن دولة الإمارات العربية المتحدة واستقرارها والارتباط الوثيق بين الأمن القومي المصري وأمن الإمارات الشقيقة. ولم تكد تمر ساعات على مغادرة طائرة الرئاسة المصرية للعاصمة الإماراتية حتى هبطت طائرة رئيس الوزراء الاثيوبي، آبي أحمد، حيث تم استقباله بحفاوة وترحيب لا يقل عما وجده الرئيس السيسي.

وبين بيان طويل من قبل الرئاسة المصرية، وبيان اماراتي أطول عن العلاقة المتطورة بين أبو ظبي وأديس أبابا، وعن أمن شبه الجزيرة العربية والارتباط الوثيق بأمن القرن الأفريقي، غاب تماما ملف أمن مصر المائي الذي تهدده أديس أبابا، بل على العكس تماماً، فقد تزامن وصول طائرة آبي أحمد لأبو ظبي مع نشره مقالة باللغة العربية على صفحات جريدة الخبر الجزائرية تحدث فيها عن سد النهضة، معيدا كل المهاترات والكلام الإنشائي والبلاغي عن أهمية السد دون التطرق لأي حديث عن حقوق مصر المائية والضمانات القانونية لها، بل وتبع مغادرته تصريحات إعلامية من وزير الخارجية الإثيوبي وسفير أديس أبابا في الخرطوم تحمل تحريضاً صريحا ضد مصر ومحاولة للوقيعة بينها وبين السودان.

خلال الأشهر الماضية، وبينما كانت العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا، على مرمى حجر من قوات “جبهة تحرير تيجراي” المعارضة، في حرب أهلية شديدة الوطأة، استنفرت أبو ظبي كل جهودها الحربية والدبلوماسية لنجدة آبي أحمد. فتزامنا مع الجهود السياسية الإماراتية في واشنطن والمحافل الدولية لتخفيف الضغوط في مواجهة المجازر التي ترتكبها قوات آبي أحمد ضد المدنيين، كان الجسر الجوي العسكري بين أبو ظبي وأديس أبابا يضخ آلاف الأطنان من الأسلحة والمعدات، حتى بلغ عدد الشحنات العسكرية المحصاة إلى قاعدة هرار ميدا الجوية الإثيوبية وحدها في فترة وجيزة 120 شحنة جوية من معدات متطورة وطائرات دون طيار حديثة وغيرها من الأسلحة الفتاكة التي قلبت موازين الحرب تماما، وفق مراكز البحث والاستخبارات العسكرية حول العالم.

جاء هذا الدعم الإماراتي السخي لآبي أحمد وسط توتر غير مسبوق بين الأخير ومصر واندلاع نذر حرب ألمح إليها الرئيس المصري في 30 مارس الماضي قائلاً “إن مياه النيل خط أحمر لمصر، وإن المساس بنقطة واحدة من تلك المياه سيؤدي إلى “حالة من عدم الاستقرار في المنطقة لا يتخيلها أحد”. وهو ما قوبل بدعم عربي مساند للقاهرة في مواجهة التهديد الوجودي لها إلا من جانب الإمارات التي أصدرت بيانا في اليوم التالي من حديث الرئيس دعت فيه الدول الثلاث إلى نبذ الخلافات، في إشارة لا تخطئها عين إلى الموقف السلبي تجاه القضية ومساواة المصالح المصرية والإثيوبية على حد سواء من وجهة نظر القيادة الإماراتية.

من منطق البرجماتية وإعلاء المصلحة يرى البعض مبررا في الموقف الإماراتي تجاه القضايا القومية والوطنية المصرية بدءًا من سد النهضة إلى خط إيلات عسقلان النفطي الذي يضرب مصالح مصر الاقتصادية مباشرة. وهو ما يدفعنا إلى السؤال عن المصلحة المصرية تجاه تلك المواقف. خاصة وإن كانت تلك المصلحة تتعلق بتهديد وجودي لمصر التي يعتبر نهر النيل أساس وجودها وبقائها وليست مصالح اقتصادية أو سياسية قابلة للتفاوض، وبجانب المؤشرات والعلامات المتكررة على الإضرار العمدي بأمن مصر القومي.

في 23 مارس من عام 2015، وقع الرئيس عبد الفتاح السيسي اتفاقية مع رئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايلي مريام ديسالين، ورئيس جمهورية السودان السابق، عمر حسن البشير، إعلان مبادئ سد النهضة، ورغم الاحتفاء الإعلامي المصري الشديد بهذه الخطوة تبين لاحقاً بأن تلك الاتفاقية هي التي أدت إلى إضفاء شرعية قانونية ودولية للسد قامت إثيوبيا باستخدامهما ضد مصر في المفاوضات والمحافل الدولية مثل الاتحاد الأفريقي وصولاً إلى مجلس الأمن. وهو بالضبط ما حذر منه وقتها دكتور أحمد المفتي، عضو اللجنة الوطنية السودانية لسد النهضة وخبير القانون الدولي، والذي قال بشكل واضح وصريح بأن هذا الإعلان قد تمت صياغته من خبراء إثيوبيين ليحقق مصالح بلادهم وحدها ولا يضمن لمصر أو السودان الحق في نقطة مياه واحدة.

المثير والمريب، أن بعد شهر من توقيع تلك الاتفاقية الكارثية، كشفت صحيفة نيوزويك الأمريكية الشهيرة بأن عرّابها وصاحب الدور الأبرز في إتمامها هو محمد دحلان، مستشار ولي العهد الإماراتي، الأمير محمد بن زايد آل نهيان، والذي هو أيضا عراب اتفاقية التطبيع بين أبو ظبي وتل أبيب. ومع وضع قطع الفسيفساء هذه جنب إلى جنب تظهر آلاف من علامات الاستفهام حول الدور الإماراتي في التهديد الوجودي لمصر المتمثل في سد النهضة.

لقد اتسمت العلاقات المصرية الإماراتية في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي بتقارب غير مسبوق، دفع الكثيرين إلى اتهام مصر بالتبعية لأبو ظبي، وهو حكم غير دقيق من وجهة نظري التي تثبتها مواقف مصر المخالفة لأبو ظبي في العديد من الملفات. ولكن رغم ذلك فإن تلك العلاقة تحتاج إلى وقفة ومراجعة مصرية، عكس ما يبدو من التحركات المصرية في الملف اليمني بإرسال مجموعة خبراء عسكريين إلى الجانب الإماراتي والذي ربما يستتبعه ضرر من قبل القوات الحوثية التي لطالما أكدت على حرصها بعدم التعرض لمصالح مصر.

إن الحديث عن الإخوة بين الشقيقة الكبرى مصر وأشقائها، والبيانات الصحفية المتخمة بكلمات الحب والود، والصور والمراسم والمقابلات الحميمية لا يجب أبدا أن تكون معيارا لتحديد شكل العلاقات السياسية والاستراتيجية. وإن لم تتطابق تلك الشكليات مع التحركات والمواقف العملية في اتجاه أمن ومصلحة مصر فلا قيمة لها، وهو ما يوجب الوقوف مع النفس ومراجعة كاملة للعلاقة مع الشقيقة الصغرى.