لا تزال الممارسات الأمنية ومحاولة إحكام القبضة العسكرية على زمام الأمور هي الصفة الغالبة للمرحلة الانتقالية في السودان. بعد موجه جديدة من الاعتقالات طالت سياسيين وأعضاء لجان مقاومة وناشطين يدفعون باستمرار التظاهرات في الشارع المطالبة بمدنية الدولة.

منذ قرارات رئيس مجلس السيادة، الفريق عبد الفتاح البرهان، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بالانقلاب على المكون المدني. والإطاحة بقوى الحرية والتغيير التي كانت شريكة في إدارة المرحلة الانتقالية وفقاً للوثيقة الدستورية التي تمخضت عن الحراك الثورية بعد الاطاحة بنظام البشير. لم يهدأ الشارع السوداني رغم التصريحات المتكررة والوعود التي أطلقها القادة العسكريون في مقدمتهم الفريق البرهان. بالحرص على مدنية الدولة والتي لم تلقى صدى لدى المعارضة التي لا تزال تتشبث بالشارع كوسيلة ضغط من أجل العبور الآمن للمرحلة الانتقالية.

حملة الاعتقالات التي تمت على مدار الأسبوع الماضي، شملت عدداً من أبرز السياسيين والقياديين في مناصب حكومية. قبيل إجراءات الجيش في 25 أكتوبر/تشرين الأول، حيث شملت وجدي صالح مقرر لجنة تفكيك نظام الإخوان. واللواء الطيب الأمين العام للجنة، وخالد عمر وزير شؤون الرئاسة في حكومة عبد الله حمدوك المحلولة.

اعتقال سياسي أم توقيف جنائي

رغم جميع الشواهد التي تشير إلى القبض على الرموز المعارضة للسلطة الانتقالية. ومن يقفون وراء الحراك الثوري في الشارع السوداني ضد تصدر العسكريين للمشهد السياسي. إلا أن تصريحات لمستشار رئيس مجلس السيادة الانتقالي، العميد الطاهر أبو هاجة وصفت هذه الحملة بأنها لا تعد “اعتقال سياسي”. مؤكداً أن القبض على بعض قيادات لجنة إزالة التمكين المجمدة هو أمر قبض وفقًا لبلاغات. حيث إنه لم يصدر من الأجهزة الأمنية. لكنه صدر من الأجهزة العدلية سواء أن كانت النيابة أو القضاء، مستنكراً محاولة البعض إظهار الاعتقال بأنه سياسي. في الوقت الذي تسعى فيه السلطة الانتقالية تطبيق مبادئ ثورة ديسمبر/كانون الأول في المحافظة على الحريات السياسية والمدنية.

لم يكن اعتقال السياسين هو الأول إذ لا تزال قوات الأمن تمارس العنف بحق المتظاهرين الذين لا يزالوا يتمسكوا بحقهم في التظاهر السلمي. لحين تسليم السلطة لإدارة مدنية، ورصدت تقارير صحفية إطلاق الشرطة وقوات الأمن الغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية والمياه الملونة. لتفريق المتظاهرين وسط كر وفر بينهم في تظاهرات مختلفة في شوراع الخرطوم حتى الجمعة الماضية في محيط القصر الجمهوري. إضافة إلى اعتقال وتوقيف مراسلي الصحف والقنوات الدولية والإقليمية.

ويتخوف مراقبون للمشهد السوداني من استمرار عمليات القمع والعنف بحق المتظاهرين واحتجاز النشطاء المناهضين للحكم العسكري. والمطالبين بتسليم السلطة لحكومة مدنية، وهي الممارسات التي تهدد مسار الانتقال الديمقراطي بعيدا عن السلام والاستقرار وحقن الدماء.

مسؤولية من؟

ومنذ وقوع قتلى بأعداد تجاوزت 70 شخصا في تظاهرات حاشدة منتصف يناير/كانون الثاني الماضي. لا تزال تصريحات ممثلي السلطة في السودان تتنصل من مسؤولية العنف ضد المتظاهرين وهو ما فتح الباب أمام حملات تدعو للعصيان المدني في جميع أنحاء السودان احتجاجا على عمليات القتل والعنف.

في آخر تصريحات لرئيس مجلس السيادة للتليفزيون السوداني أمس السبت، برر الفريق عبد الفتاح ‏البرهان. وقوع قتلى ومُصابين في صفوف المتظاهرين بوجود شكوك لضلوع أطراف أخرى في قتل المتظاهرين واصفاً إياه بالأمر المؤسف.

ومع تعذر لجان التحقيق عن الكشف عن ملابسات عمليات القتل بحق المتظاهرين منذ اعتصام القيادة العام قبل الماضي. قال البرهان إن “جهات أخرى تمارس قتل المتظاهرين، وأنا شخصيا مستعد لتحمل هذه المسؤولية الكاملة. إذا أصدرت تعليمات بملاحقة المتظاهرين وقتلهم، أو إذا أعلم بأن هناك جهة تقتل المتظاهرين”. مؤكداً أن عدم التوصل لنتائح بسبب عدم التعاون من مختلف الأطراف بشأن كشف ملابسات القتل بالمظاهرات.

مع تعدد القوات الأمنية في السودان إلى جانب الجيش النظامي وقوات الشرطة وقوات الدعم السريع وجيوش الحركات الشعبية. التي لا يزال يصعب تهيئتها وتطويعها للانتماء للقوات النظامية بعد فشل إجراءات الترتيبات الأمنية التي جاءت في اتفاق السلام في جوبا 2020. يبقى من الصعوبة تحديد هوية المتصدين أو المتسببين في العنف ضد المتظاهرين خاصة مع تعدد واختلاف مصالح وأجندات من يحملون السلاح في السودان.

حلقة مفرغة من مبادرات التهدئة

تعددت الرؤى والمبادرات الإقليمية والدولية الموجهة للسودان من أجل الخروج من الأزمة الحالية وكسر الجمود السياسي. وانعدام الثقة بين طرفي الأزمة من المكون العسكري والمكون المدني، دون الوصول إلى رؤية أو نتيجة واضحة. مع استمرار الحملات الأمنية ضد المدنيين وهو ما يهدد مصير أي مبادرة تفرض من الخارج من أجل الحل.

مع الانتقادات الدولية والتلويح المتكرر بالعقوبات وممارسة الضغوط على مجلس السيادة من أجل الحفاظ على مدنية الدولة السودانية. في الوقت الذي يدير فيه البلاد وسط أزمات اقتصادية واجتماعية طاحنة. كانت الأمم المتحدة قد أطلقت عبر مبعوثها فولكر برتس مبادرة تتضمن إنهاء العنف، والدخول في عملية شاملة تشاورية لحل الأزمة. حيث تمت دعوة كل الأطراف السياسية الحكومية وغير الحكومية بما في ذلك الأحزاب السياسية ولجان المقاومة والمجتمع المدني للمشاركة في مشاورات أولية.

وتتضمنت المبادرة الأممية التي حظيت بالتأييد الدولي والإقليمي، تشكيل مجلس رئاسي من أربعة أعضاء. ومجلس للوزراء، ومجلس للأمن والدفاع يشرف عليه مجلس الوزراء، لكن لا تزال قوى مدنية على رأسها تجمع المهنيين السودانيين وهو الحاضنة الرئيسية للثورة السودانية. ترفض وساطة الأمم المتحدة وتتهم المبعوث الأممي بدعم الحكم القائم والانحياز لطرف على حساب الآخر. خاصة وأن البدء في مشاورات مع مجلس السيادة الانتقالي لن يكون إلا اعترافاً بقرارات 25 أكتوبر 2021 التي ترفضها القوى المدنية المختلفة.

ويبقى الرفض المستمر للقوى المدنية لأي حوار مع السلطة القائمة الممثلة في مجلس السيادة مهدداً لمصير أي مبادرة تطرح للحوار. سواء من داخل السودان أو من القوى والمنظمات الدولية، حيث تبدو تصريحات البرهان الأخيرة بترحيبه وقبوله للحوار. وكأنه مأزق أمام المدنيين وتصويرهم على أنهم الرافض أو المعطل لأي مبادرة تستهدف إنهاء الأزمة السياسية في البلاد وتحقيق العبور الأمن خلال الفترة الانتقالية.

ورغم الموقف المتشدد لبعض التيارات المدنية بعدم القبول بأي حوار مع المكون العسكري. تبدو مواقف بعض التيارات السياسية مختلفة إذ دعا رئيس حزب الأمة المكلف، اللواء فضل الله برمة ناصر. لتقديم تنازلات من كافة الأطراف السياسية، والاتفاق على الحد الأدنى الذي يوفر مناخ سياسي يوقف العنف والقتل والانهيار الاقتصادي. ويمهد لانتقال سلمي ديمقراطي عبر حوار سوداني سوداني دون تدخل خارجي.

تباعد الرؤى ونوايا غير معلنة للعسكريين

“الوفاق السياسي الأسهل والأقرب لحل الأزمة في السودان، ويجب الاستفادة من المرحلة الانتقالية في إعادة صياغة الحياة السياسية السودانية. لأن السياسيين أضاعوا فرصة كبيرة جدًا كان من الممكن أن تخرج السودان مما مر به”. هكذا حمل البرهان في تصريحاته أمس القوى المدنية مسؤولية إفشال الحوار ومبادرات الحل للخروج من الأزمة السياسة. مؤكداَ أن الاستقرار السياسي في السودان لن يتم إلا عن طريق الحوار والتوافق وعبور المرحلة الانتقالية.

ورغم تصريح البرهان وتأكيده المتكرر في أغلب المناسبات التي تحدث فيها للعامة بأنه لا يريد حكم السودان ولا يريد أن تحكمه المؤسسة العسكرية. إلا أن شروق التوافق الوطني بين القوى المدنية تبقى المبرر الأقوى لممثلي السلطة العسكرية في الاستمرار بقوة في المشهد السياسي في السودان. وهو ما يظهر واضحاً في حديث البرهان للتليفزيون السوداني أمس. الذي قال فيه :”السودان منذ الاستقلال مستمر في دوامة متكررة من حكومات منتخبة وانقلابات. وحتى الآن لا نستطيع أن نضع حدا فاصلا لتكرار هذا الدوامة”، في إشارة غير معلنة أن الجو لم يعد مهيئاً لخروج العسكر من المشهد السياسي.

من تصريحات البرهان نستخلص أن شرط التوافق الوطني وحدوث انتخابات هو الضامن الوحيد لخروج الجيش من الساحة السياسية. إلا أن التنافر والانقسام بين القوى المدنية والذي زاد وظهر جلياً منذ إجراءات أكتوبر ضد قوى الحرية والتغيير بشكل خاص لا يظهر أي امكانية لتحقيق هذا الشرط على المدى الزمني القريب على الأقل. إذ لا تزال القوى المدنية رغم قدرتها على الحشد الشعبي الذي يظهر في استمرار التظاهرات في الميادين والشوارع الرئيسية غير قادرة لاختبار الانتخابات بعد. وهو ما كان سبب الانقسامات في البداية مع رغبة البعض تمديد المرحلة الانتقالية.

البرهان والفترة الانتقالية

كان البرهان قد أعلن عن عدم رغبته بإجراء أي تمديد للفترة الانتقالية، فضلاً عن تأييده للأطروحات المتعلقة بنظام الحكم وفق النظام الرئاسي. استعجالا لحل الأزمة السياسية واختصارا لطريق التحول. حيث إنه من المنتظر قيام الانتخابات في منتصف العام 2023، وعلى الأحزاب تهيئة نفسها لخوضها.

وتتمسك قوى الحرية والتغيير، الحاضنة السياسية للحكومة المدنية السودانية التي أطاحت بها إجراءات الخامس والعشرين من أكتوبر. برؤية من أجل الخروج من الأزمة الراهنة عبر تمديد الفترة الانتقالية لعامين وفقا لترتيبات دستورية جديدة. تبعد الجيش عن الحياة السياسية، وهو ما يرفضه الجانب العسكري بقوة متمسكا بإجراء الانتخابات. والتي قد لا تأتي في صالح العديد من رموز الحرية والتغيير أو الأحزاب السياسة ويضعهم في اختبار قوى مع الشارع السوداني. بما قد يهدد مستقبلهم السياسي إذا ما انخفضت نسب التصويت لصالحهم.

ومع تصريحات البرهان وممثلو المكون العسكري التي قد يمكن قرائتها في إطار الدبلوماسية الناعمة ومحاولة استرضاء الشارع السوداني المحتقن. بتمرير مسكنات وتطمينات بخروجهم من المشهد السياسي فور اجراء الانتخابات، تبقى الممارسات الفعلية باحكام القبضة العسكرية على الحكم. واللجوء للعنف ضد المتظاهرين واعتقال رموز السياسين والرافضين لاستمرار العسكر في السلطة. مهدداً للإنتقال الديمقراطي الأمن بخاصة مع استمرار الخلاف وعدم التوافق الشامل بين المكونات المدنية المتعددة. والمتمثلة في عشرات الأحزاب والحركات والتيارات السياسية.