تآكلت الأراضي الزراعية المحدودة في الوادي والدلتا على مدى عشرات السنين. وذلك بفعل النمو السكاني والزحف العمراني غير المخطط والخارج عن السيطرة. والذي زادت وتيرته خلال العشر سنوات الأخيرة.

وتعتبر الدلتا من أعلى مناطق الكثافة السكانية في مصر -86 مليون نسمة. وقد أدى سوء التخطيط العمراني وغياب التنمية السكانية بالريف والحضر خلال الـ50 سنة الأخيرة إلى تفاقم ظاهرة التعدي على الأراضي الزراعية. إذ فقدت مصر نحو 600 ألف فدان من أخصب الأراضي.

وزاد معدل التعدي منذ عام 2011 لتفقد مصر خلال 10 سنوات 90 ألف فدان بالمحافظات -وفق حصر مجلس الوزراء.

وسجلت محافظة البحيرة المرتبة الأولى كأكبر المحافظات في عدد حالات التعدي على الأراضي الزراعية خلال الفترة 2015-2019. وذلك بنسبة 11.5% من إجمالي عدد حالات التعدي.

لا شيء يمنع التعدي على الأراضي الزراعية

وتواجه الدولة على مدار السنوات الماضية هذه الظاهرة عبر إجراءات الحبس مدة لا تقل عن سنتين ولا تزيد على خمس سنوات. وبغرامة لا تقل عن 100 ألف جنيه ولا تزيد على مليون جنيه. إضافة إلى تحويل جرائم الأراضي الزراعية للنيابة العسكرية. لكن لم تفلح هذه الإجراءات في الحد من ظاهرة التعدي على الأراضي الزراعية.

وبداية من 10 فبراير الحالي جرى تطبيق وقف كل أشكال الدعم السلعي والتمويني والخبز والبنزين للأشخاص المعتدين على الأراضي الزراعية. أما الحالات السابقة على هذا القرار فينطبق عليها القوانين السارية. وهي إزالة التعديات وإحالتها للمحاكمة الجنائية.

تفاقم أزمة الأراضي الزراعية

وردّ عبد الحميد كمال -الباحث في شؤون المحليات بمعهد التخطيط- تفاقم الظاهرة لأسباب. أولها فساد الإدارات الهندسية بالأحياء والوحدات المحلية. التي سمحت بتمدد التعدي والتراخي في تنفيذ قرارات الإزالة. وكذا التهاون في اشتراطات البناء ومراجعة الارتفاعات والتراخيص.

وأضاف: “إرجاء وقف تنفيذ الإزالات على عمل الدراسات الأمنية بمديريات الأمن. والتي لا تولي اهتماما بتنفيذ هذه القرارات لاعتبارات أخرى”. وتابع: “تقييد صلاحيات المحافظين. فلا يستطيعون تنفيذ القرارات إلا بالرجوع إلى الجهة المختصة وموافقتها. ما أدى من وجهة نظر -كمال- إلى تراكم آلاف من قرارات الإزالة لم تتمكن المحليات من تنفيذها إلا مؤخرا بقرار رئيس الجمهورية بإسناد أمر التنفيذ للقوات المسلحة”.

الزيادة السكانية ونقص الأراضي الزراعية

إسلام رأفت -أستاذ التخطط العمراني- ربط بين النمو غير المخطط للقرى في الريف والزيادة السكانية. والتي كانت سبب تفاقم أزمة السكن العشوائي في ظل غياب وجود بديل. وقال: “عادات المصريين الاجتماعية ورغبتهم في العيش بجوار أبنائهم بعد زواجهم وتكوين أسر سبب أصيل لنمو الظاهرة في الريف سريعا”.

واستكمل أن نسبة الأراضي الخصبة القليلة جدا مقارنة بحجم الأراضي الصحراوية والتعدي عليها يدفعنا للبعد أكثر عن محيط الوادي والنهر والاستصلاح في أماكن أبعد. فيما تكون تكلفة وصول المياه إليها أعلى رغم أنها ليست في جودة الأراضي التي يتم البناء عليها. لذلك تحتاج إلى مجهود مزدوج في نقل المياه وتعلية وتحسين جودة الأرض.

ووصف “إسلام” مخلفات البناء بأنها “خطر دائم يقلل من جودة الحياة”. وردّ جزءا كبيرا من الأمراض التي يصاب بها المصريون إلى العيش في مسكن غير صحي والبناء غير المخطط والعيش في بيت لا يدخله شمس ولا هواء. وهو ما أطلق عليها اسم “العيش في كبسولة تلوث”.

وذكر أن الدراسات تشير إلى العلاقة بين العيش في مسكن غير صحي وبعض الأمراض كالسرطان. إذ إن التركز في مناطق تجمعات كبيرة يزيد معدل الإصابة بها والتي هي مرتبطة بالتكدس وما ينتج عنه من تلوث بيئي وكهرومغناطيسي وضغط عال وانبعاثات أرضية. فالبيت مؤشر على صحة الإنسان في نظره.

تداخل الاختصاصات

أدى تداخل الاختصاصات بين الوزارات المعنية في تنفيذ قرارات الإزالة إلى التهاون في معالجة الأزمة واستفحالها لسنوات.

المهندس سعيد الأجهوري -رئيس الإدارة المركزية للمتابعة والتقييم الإقليمي بوزارة التنمية المحلية سابقا- يرى أن تفاقم مشكلة التعدي على الأراضي الزراعية إحدى نتائج تداخل عمل الوزارات, إذ نجد “التنمية المحلية” و”الداخلية” و”الزراعة” و”الري” و”الصناعة” والقوات المسلحة. فضلا عن المحافظين وهيئة المجتمعات العمرانية. حيث تتداخل اختصاصات التقسيم الإداري للأراضي بين هذه الجهات. الأمر الذي يصعب تنفيذ القرارات قبل الرجوع للجهة المختصة أو التي تقع الأراضي تحت سلطتها.

وأشار “الأجهوري” إلى أن مشروع القانون الحالي للإدارة المحلية الحالي يزيد الواقع الإداري سوءا مستقبلا. حيث يقلص صلاحيات المحليات.

وذكر وزير التنمية المحلية -بصفته الوزير المختص- أن القانون لا يعطي للمحليات سلطة التنفيذ. ويرى ضرورة تغيير هذه العبارات بالمسودة الحالية للقانون وأن ينص على كون وزير الإدارة المحلية ووزارة الإدارة المحلية لتحديد اختصاصات كليهما بذاته.

واعتبر هذه النصوص “ضربة لمشروع القانون” و”صياغة خطيرة تجعل وزارة التنمية المحلية وسيطة ليس لها دور على المحافظين عكس الوزارات الأخرى التي لا يستطيع المحافظ اتخاذ قرار دون الرجوع إليها. خاصة في ظل وجود 14 مديرية خدمية بكل محافظة تتبع كل مديرية وزارتها تنفذ الخطة المرسلة. ما يعطي سلطة لرئيس الوزارة على المحليات أكثر من الوزارة المختصة.

وقال الأجهوري إن وزارة الزراعة تتداخل مع التنمية المحلية في موضوع الأراضي الزراعية والقوات المسلحة في حدود واستصلاح الأراضي بالمحافظات. وزارة الصناعة في إقامة مجمعات صناعية وإقامة وتعديل الورش الصناعية. وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة والمدن الجديدة داخلة في التقسيم الإداري وليس للمحافظ ولاية عليها في إقامة المشروعات.

وذكر أن هيئة المجتمعات -وفقا للقانون الخاص بها- لديها مجلس أمناء يحدد اختصاصاتها ويمنع المحليات من أي تصرف في الأراضي والمرافق الداخلة في نطاق المحافظة. لافتا إلى أن مجالس المدن والمراكز تتعارض مع مجلس الأمناء بهيئة المجتمعات. خاصة في ظل غياب مجالس محلية منتخبة تعطيها شرعية. مطالبا أن يقتصر دور المجتمعات العمرانية شرفيا. وأن تتبع تلك الاختصاصات المحافظين لتمكينهم من تنفيذ الإزالات في وقتها.

أيضا طالب أن يكون التقسيم الإداري متناسقا ومتوافقا مع ما جاء بالدستور والذي لم يذكر هيئة المجتمعات العمرانية ضمن التقسيمات الإدارية للدولة.

تجارب أخري

وأشاد الأجهوري بتجربة الدولة التونسية في الفصل بين الاختصاصات والحفاظ على الرقعة الزراعية الخضراء. حيث يجمع النظام الإداري هناك بين وزارة الداخلية والإدارة المحلية في وزارة واحدة لفك التداخل. وحتي تكون جهة إصدار القرار والتنفيذ جهة واحدة لضمان سرعة التطبيق.

وقال إن نصيب كل مواطن تونسي من المساحة الخضراء بالنسبة لعدد السكان تبلغ 14 مترا مربعا لكل فرد. بينما في مصر أقل من 1 متر مربع من المساحة الخضراء حتى بإجمالي الأراضي الزراعية المستصلحة الجديدة.

وذكر أن الهند من الدول المشابهة لنا في النمو السكاني وتعاني التمدد العشوائي على الأراضي الزراعية بسبب الزيادة السكانية. لكن الدولة الهندية لها تجربة رائدة في التصدي لهذه الظاهرة السلبية لأن الإدارة المحلية هناك قوية ولها صلاحيات مختصة.

استراتجية الدولة

وقبل المواجهة وفرض العقوبات يجب طرح بدائل لامتصاص الزيادة السكانية وتوفير سكن ملائم.

وتهدف الدولة لوضع استراتيجية شـاملة في إطار مشروع شامل لرسم خريطة جديدة لمصر بإيجاد مناطق تركيز سكاني ونشاطات اقتصادية جديدة للحد من التمدد على الأراضي الزراعية. لتكون لها قوة الجذب الحضرى وتعتمد هذه الاستراتجية في التخطيط العمراني والتنمية على محورين. الأول: فتح محاور جديدة للتنمية غير مأهولة بالسكان تتمتع بمقومات طبيعية يمكن استغلالها لتعمير هذه المناطق واجتذاب السكان. أما المحور الثاني: فإنشاء مجموعة من االقرى والمدن الجديدة حول الوادي والدلتا في أجيال متتالية تكون مركزا للتنمية تحقق الاستقرار والاتزان الاجتماعي وتكون مركز جذب لتخفيف الكثافة السكانية بالمناطق القديمة والحد من البناء على الأراضي الزراعية.

ووفقا للهيئة العامة للتخطيط العمراني فإن الاستراتجية تهدف لتحسين مستويات الأداء والإنماء والإسهام في مجال إعداد البرامج. خاصة المتعلقة بتنسيق تنفيذ الإجراءات للحد من ظاهرة الإقصاء والبعد والضعف في المنطقة الريفية والعشوائية.

ووفقا للمهندس ياسر حلمي -ممثل الهيئة العامة للتخطيط العمراني بالبرلمان- فإن عملية تحديث الأحوزة العمرانية لكافة القرى قد تستغرق نحو 5 سنوات. وذلك بسبب الحاجة إلى وجود خرائط حديثة للقرى. ما يتطلب وقتا كبيرا.

وذكر خلال مناقشة الأزمة بالبرلمان أن هناك أكثر من 37 ألف كيان عمراني في المحليات. منها 5 آلاف قرية. والقرية الواحدة تتكلف مبدئيا من 150 إلى 200 ألف جنيه للتحديث.

ظهير زراعي بالمدن الجديدة

ويرى “سعيد” أن محافظات الصعيد يمكن عمل أحوزة عمرانية لها. وذلك لوجود ظهير صحرراوي في البرين الغربي والشرقي. بينما تظهر المشكلة وتتركز في محافظات الوجه البحري. خاصة في الدلتا التي تتركز بها الزراعة لأن الغالبية ليس بها ظهير صحراوي مثل محافظة الغربية.

وأشار إلى ضرورة عمل ظهير زراعي بالمدن الجديدة ناحية الشرق بالعاصمة الإدارية الجديدة وبدر والشروق ودمياط وبور سعيد والإسماعيلية. واستغلال الأراضي الفضاء بأحوزة عمرانية بالمحافظات التي تسمح حدودها بذلك ليمكن التمدد فيها وإدراجها في خطة 2030. على أن يتم عمل تعديلات تشريعية واسعة  في القوانين المنظمة لاختصاصات الجهات التي تتداخل مهامها مع الإدارة المحلية.

وللخروج من الأزمة يري عبد الحميد كمال سرعة الخروج بقانون الإدارة المحلية وإصداره. وعمل انتخابات لتفعيل دور الرقابة الشعبية لإسراع تنفيذ القرارات وإعطائها شرعية شعبية وقانونية.

سوء التخطيط

ويذهب “رأفت” إلى أن علينا التوسع خارج القرى لأن التوسع العشوائي في القرى القديمة يسبب التعدي المنظم على الأراضي الزراعية. ما يدفعنا إلى الرجوع كل فترة لعمل مراجعة واستثناءات وتقنين. وهي عملية تجعل جودة الحياة أقل. لأن الشوارع غير قانونية والارتفاعات ودخول المرافق صعب خاصة في الصرف والمياه.

وقال: “لا بد من العمل على تغيير سيكولوجية وثقافة الناس تجاه زيادة الإنجاب مع تبني سياسة نمو عمراني مخطط وسليم في المستقبل. وذلك لمنع متخللات المباني في القرى القديمة وإعادة تخطيطها حتى لا نصل إلى مرحلة العشوائية”.

وأضاف: يجب الارتقاء بمستوى الريف حتى لا يتحول لمناطق طاردة للسكان. واحتواء الناس في بيئة لائقة”. وذكر أن النمو العمراني في القرى القديمة كان مرتبطا بالعمل في الزراعة والنمو السكاني هناك لم يعد مرتبطا بها لأن الزراعة أصبحت تعتمد على الآلة أكثر. فالبقاء في القرى ليس هدف أغلب السكان خاصة من جيل المتعلمين. وبالتالي يمكن بسهولة نقلهم لمدن مخططة بالمحافظات والمدن القريبة مع تحسين شبكة الطرق والمواصلات بعواصم المدن والمحافظات وربطها بالقرى للتواصل مع المناطق العمرانية الجديدة والملكيات الزراعية بالقرى والريف للمنتقلين لهذه المدن. ما قد يسهم في حفظ ما تبقى من رقعة زراعية.

خسائر التعدي على الأراضي الزراعية

وصف للدكتور محمد القرشي -متحدث وزارة الزراعة- جريمة التعدي علي الأراضي الزراعية بأنها مشكلة اجتماعية لها أثر سلبي على التنمية. وقال إن الدولة تولي اهتماما كبيرا بهذا الملف الحيوي لخطورته على الأمن الغذائي المصري والحفاظ على البيئة. ولفت إلى أن الدولة تتكلف مليارات الجنيهات على استصلاح أراض بديلة وإعادة هذه الأراضي للزراعة مرة أخرى بقيمة 130 مليار جنيه.

وطبقا للقرشي فإن الفدان الواحد يتكلف حتى تتم إعادته للزراعة بين 250 ألفًا و300 ألف جنيه. وأكد أن الوزارة قامت بتشكيل لجان بالمحافظات لمصادرة أي مخالفة في بدايتها بالتعاون مع وزارتي التنمية المحلية والداخلية. وتابع: “الحكومة تسعى إلى وجود تشريع لتحويل التعدي على الأرض الزراعية إلى جريمة مخلة بالشرف ومصادرة المبنى ليصبح بيد الحكومة وتوقيع غرامات كبيرة على المقاول”.

وقال الدكتور أنور عيسي -رئيس حماية الأراضي بوزارة الزراعة- إن القانون رقم 7 لسنة 2018 يجرم التعدي على الأراضي الزراعية. ويعاقب بالغرامة المالية من 5 آلاف جنيه حتى 5 ملايين جنيه على حسب حجم التعدي والمخالفة. إضافة لعقوبة الحبس التي تصل إلى 5 سنوات. وأشار إلى أن قانون التصالح الصادر رقم 17 لسنة 2019 استثنى حالة واحدة فقط للتصالح معها في البناء على أراض زراعية. وهي حالة المباني المأهولة بالسكان ولديها مرافق قبل التصوير الجوي للرقعة الزراعية على أرض الواقع في 2017.