رغم أن عام 2021 شهد إطلاق مصر للاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وإعلان الحكومة المصرية نجاحها في تحقيق أهداف وإجراءات الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، إلا أن ترتيبها على مؤشري «الديمقراطية» و«مدركات الفساد» على مستوى العالم لذات العام جاء متدنيا كالعادة، وهو ما يثبت أن الحديث الرسمي عن تعزيز حقوق الإنسان والحريات العامة والنجاح في حصار الفساد وملاحقته، لا يعدو كونه «كلام ابن عمي حديت»، بحسب المثل المصري الدارج، ولا يمت للواقع والممارسة العملية بأي صلة.

وفقا لتقرير «وحدة الإيكونوميست للاستقصاء» الذي يقيم حالة الديمقراطية في دول العالم، والصادر قبل أيام احتلت مصر المرتبة الـ«132» عالميا من إجمالي 167 دولة شملها التقرير والـ «11» عربيا ضمن 20 دولة بالمنطقة، وتم تصنيفها على مؤشر الديمقراطية لعام 2021 ضمن فئة الدول ذات «الأنظمة الاستبدادية».

ويصنف مؤشر الديمقراطية الذي يصدر بشكل سنوي، دول العالم إلى أربع فئات وهي «الديمقراطية الكاملة»، «الديمقراطية المعيبة»، و«الديمقراطية الهجينة»، ثم «الأنظمة الاستبدادية»، ويظهر المؤشر الذي قيم دول العالم عن عام 2021، وجود معظم البلدان العربية ضمن فئة «الأنظمة الاستبدادية».

ويتم قياس الديمقراطية، وفقا للمؤشر التي تعده وحدة أبحاث «إيكونومست» ومقرها لندن، بناء على مدى التزام الدول بـ 5 معايير «العملية الانتخابية والتعددية الحزبية، أداء وطريقة عمل الحكومة، المشاركة السياسية، الثقافة السياسية، والحريات المدنية»، وبحسب تحقيق الدول لهذه المعايير من عدمه يتم منحها درجات من 1 – 10، ثم تصنف إلى أربع مجموعات:

1-    ديمقراطية كاملة: من 8 – 10 درجات

2-    ديمقراطية معيبة: من 6 – 8 درجات

3-    نظام ديمقراطي مختلط: 4 – 6 درجات

4-    نظام استبدادي: من 1 – 4 درجات

حصلت مصر في المقياس المشار إليه على 2.93 نقطة وصنفت على أنها ضمن دول الفئة الرابعة التي تحكمها «أنظمة استبدادية»، وهو ما يعني أنها لم تتقدم وظلت في حالة «ركود»، بحسب وصف التقرير الذي لفت النظر إلى أن وضع دول الربيع العربي ومنها مصر لم يتغير كثيرا عن عام 2010 الذي سبق الإطاحة بنظام حكم مبارك إثر ثورة شعبية، إن لم يكن أسوء .

وأثارت التقارير تراجع عملية الانتقال الديمقراطي في الدول العربية التي شهدت احتجاجات وثورات للمطالبة ببناء أنظمة ديمقراطية حديثة قبل 10 سنوات جدلا كبيرا، إذ شكك مراقبون وباحثون في قدرة العالم العربي على وضع قواعد حقيقية لبناء أنظمة تؤمن بالديمقراطية وتمارسها وتقبل بمبادئها، وأرجعوا هذا «الاستعصاء الديمقراطي» إلى أسباب تتلعق بالتراث السياسي للمنطقة والأفكار الاقتصادية والتاريخية والاجتماعية السائدة.

وهي سردية تتوافق مع وجهات نظر السلطات الحاكمة في المنطقة العربية، والتي ترى أن الديمقراطية لا تصلح كنظام حكم لشعوب الدول الفقيرة ذات البناء القبلي والتي تحتاج أولا إلى تلبية احتياجاتها المعيشية وتحقيق درجة من النضج والوعي قبل أن تشرع في عملية تحول ديمقراطي حقيقية، وهي رؤية يتم ترويجها لتبرير الاستبداد والتسلط ومصادرة حريات الشعوب، حتى تستمر تلك الأنظمة في الحُكم إلى ما شاء الله دون قواعد أو ضوابط دستورية وقانونية وبلا حد أدنى من الرقابة الشعبية على أدائها وممارستها.

بالتبعية، فغياب الديمقراطية بما تعنيه من غياب للرقابة والمساءلة والمحاسبة يرتبط شرطيا بانتشار الفساد والمحسوبية، وهو ما كشفه تقرير منظمة الشفافية العالمية عن عام 2021 الذي صدر نهاية الشهر الماضي، واحتلت فيه مصر المرتبة 117 على مؤشر مدركات الفساد والذي يقيس الفساد في 180 دولة حول العالم.

رغم تأكيد مصر أنها نجحت في التقليل من ممارسات الفساد وإرساء قيم النزاهة والشفافية، بحسب ما أعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي خلال كلمته بمؤتمر الدول الأطراف لمكافحة الفساد بشرم الشيخ في أكتوبر الماضي، فإنها لم تحصل سوى على 33 نقطة من أصل 100 على مؤشر الفساد العالمي.

وتمثل المائة نقطة في هذا المؤشر أعلى درجات الشفافية وأقل مستويات الفساد، فى حين أن «الصفر» يشير إلى الفساد الكامل، وبذلك تكون مصر وقفت «محلك سر»، حيث لم يختلف ترتيبها عن مؤشر العام الماضي.

وتكمن خصوصية تقرير هذا العام في أنه يتتبع أوضاع الفساد في العالم خلال السنوات العشرة الماضية، وكذلك ربطه بين مؤشرات الفساد وبين ملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان.

واستشهد التقرير بفداحة وتأزم ظاهرة «المحسوبية» في العالم العربي بما جاء في مقياس الفساد العالمي 2019 الصادر عن منظمة الشفافية الذي كشف أن «واحداً من كل خمسة مواطنين في الدول العربية دفع رشوة وأكثر من واحد من كل ثلاثة استخدم العلاقات الشخصية لتلقي خدمات عامة أساسية مثل التعليم والرعاية الصحية».

وتقول كندة حتّر، المستشارة الإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط في منظمة الشفافية الدولية،  إنه رغم مرور عقد كامل على الربيع العربي، لم يحدث تغيير فعلي في مكافحة الفساد، حتى في الدول التي قدمت وعودا بالتغيير، «بالتالي لم يتحقق تقدم ملحوظ في المؤشر، حتى إذا حققت دولة تقدما في ناحية، يحدث تراجع أخرى».

وأضافت حتّر أن الفساد السياسي هو الأوسع في المنطقة، «الأمر لا يتعلق فقط بسجن الفاسدين، لكن هناك خوف من وجود كبش فداء في النهاية، بدلا من تغيير النظام الذي يسمح بوجود الفاسدين، والسلسلة التي تعيد إنتاج فاسدين جدد من الأساس».

وذكر التقرير أن «الفساد السياسي الممنهج يعيق التقدم في المنطقة، ويزيد من تفاقم انتهاكات حقوق الإنسان»، وأن الربيع العربي فشل في تحقيق أي من الوعود الطموحة بالتغيير، حتى في الدول التي نجحت في إقامة أنظمة جديدة، والتي يستمر تراجع الديمقراطية فيها كذلك.

وربط التقرير بين تراجع الحريات الشخصية والمدنية بشكل عام إلى انتشار الفساد في المنطقة، «مصر التي حصلت على 33 نقطة، لا يزال اعتقال الصحفيين والمعارضين السياسيين والنشطاء مستمر، ولا يزال منع أي تجمعات وحجب منصات التعبير الحر عن الرأي قائما».

وسلط التقرير الضوء على العوامل التي تؤدي إلى تراجع الدول العربية في مواجهة الفساد، «غياب الفصل بين السلطات بشكل يضمن المحاسبة والشفافية»، هي أبرز تلك العوامل، يضاف إلى ذلك أن «السلطة التنفيذية تسيطر على التشريعية وتضغط وتتدخل في القضائية، وهو ما يؤدي إلى غياب واضح للمساءلة ومكافحة الفساد، فالسلطة التشريعية غير قادرة على محاسبة السلطة التنفيذية، والسلطة القضائية غير مستقلة بشكل كافٍ لتحاسب الفاسدين» وفقا لحتّر.

هذه الهيمنة الحكومية وغياب الشفافية كانت عائقا أمام مواجهة الفساد في بعض الملفات، لعل من بينها ملف الأموال المنهوبة في الخارج بعد الربيع العربي، «حتى إذا ردت الأموال، هناك أسئلة حول أين ستذهب؟ هل يعاد نهبها؟ في غياب المراقبة والشفافية.. الشعب لا يستطيع المسائلة عن الصرف والموازنة العاملة في ظل تقييد الحصول على المعلومات.. هناك الكثير من القوانين الرائعة الخاصة بالحصول على المعلومات، لكن كلها مقيدة ببند أسرار الدولة والأمن العالم».

وأشارت منظمة الشفافية الدولية إلى أن تحسين جهود مكافحة الفساد في المنطقة العربية يتطلب الفصل الحقيقي بين السلطات في النظم السياسية في المنطقة بشكل يضمن المحاسبة والشفافية، ووجود مؤسسات مستقلة لمكافحة الفساد، إداريا وماليا وسياسيا، بحيث تقوم بالدور الرقابي الفعلي لمحاسبة الأشخاص دون التعدي على صلاحياتها.

كما يجب إرساء احترام سيادة القانون، وبالتالي احترام الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها الدول العربية ومنها الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد، وتتضمن حماية المبلغين وإرساء النزاهة والشفافية وحرية الإعلام والمجتمع المدني، وضمان استقلال القضاء كالجهة الفاصلة في قضايا الفساد.

إذن لا يمكن الحديث عن استئصال الفساد والنجاح في ملاحقته وتحقيق استقرار وتنمية وتقدم، دون الشروع في عملية تحول ديمقراطي تترجم إلى ممارسات حقيقية، تبدأ بإطلاق سراح المحبوسين على ذمة قضايا رأي من سياسيين وصحفيين ومدونيين ممن لم يشاركوا في العنف أو يخططوا له، ورفع قبضة الدولة عن الأحزاب والإعلام ومؤسسات العمل المدني، بما يسمح بظهور بدائل سياسية تطرح على الرأي العام برامج وروئ وسياسات تطور أو تخالف ما تطرحه السلطة، وهو ما يمكن هذه الدائل من خوض الاستحقاقات الانتخابية التي تنتظر مصر بعد نحو عامين من الآن.

اعتمدنا منذ عقود عديدة طريق «الاستبداد والتسلط» كسبيل لبناء الدولة، وروجت الأنظمة المتعاقبة لنظرية «تحقيق الاستقرار وتلبية الحقوق الأساسية أولا»، وثبت من خلال الممارسة فشل تلك النظرية فلم يتوفر للشعب الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية ولا تحققت له الديمقراطية، لتستمر معاناة البلاد من ثنائية الفقر والاستبداد، وما يرتبط بها من فساد وتخلف وانتهاك لحقوق الإنسان. فلماذا ونحن نروج لـ «الجمهورية الجديدة» لا نجرب طريق آخر بأفكار وآليات مختلفة، فما تحقق لدول الغرب من تنمية ووفرة وتقدم لم يأت سوى بإيمان حكامها ونخبها بأن الديمقراطية هي الطريق الوحيد والأمثل للخلاص من دائرة الفقر والتخلف.