جاء ارتفاع أسعار النفط عالميا ليمثل ضربة لنمو الاقتصاد العالمي وجهود البنوك المركزية لمواجهة الأرقام القياسية للتضخم. وذلك عبر سلاح أسعار الفائدة. فالأسعار مرشحة للتفاقم مع ارتفاع الطاقة وتكاليف الشحن لمستويات غير مسبوقة.
يقول مارك زاندي -كبير الاقتصاديين في “موديز” للتحليلات التابعة لوكالة موديز للتصنيف الائتماني- إن كل زيادة 10 دولارات أمريكية لكل برميل نفط تخفض معها النمو الاقتصادي في العام التالي بنسبة 0.1 نقطة مئوية. ما يعني أن الارتفاع الحالي لأسعار النفط يخفض النمو العالمي بنحو 0.4%.
ويتوقع بنك الاستثمار الأمريكي جيه بي مورجان تشيس أن يسجل سعر خام نفط برنت 125 دولارًا للبرميل خلال العام المقبل و150 دولارا في العام التالي. بينما رفع “بنك أوف أمريكا” كثيرًا توقعاته لأسعار النفط منتصف العام المقبل إلى 120 دولارًا للبرميل في ظل أزمة الطاقة العالمية الراهنة.
ويتوقع محللون استمرار ارتفاع العقود الآجلة للنفط على المدى القريب “3 أشهر”. مع انخفاض المعروض على أن تقل الاختناقات في الربع المقبل. كما يرى بيتر ناجلي وكالترينا تيماج الخبيران بالبنك الدولي أنه من المتوقع أن يتجاوز الطلب على النفط مستوى ما قبل جائحة كورونا عام 2022. مع زيادة إحلال النفط محل الغاز الطبيعي لأغراض التدفئة وتوليد الكهرباء الذي يزيد الطلب بأكثر من 0.5 مليون برميل يوميًا.
النفط.. وركود تضخمي على الأبواب
لا ينبع التشاؤم من ارتفاع أسعار النفط من فراغ. فسبق جميع فترات الركود الاقتصادي الخمسة الأخيرة ارتفاع حاد في أسعار النفط الخام. وبحسب زاندي فإن الارتفاع السريع في أسعار النفط يشكل عاملاً مساهماً في كل ركود حدث منذ الحرب العالمية الثانية.
وارن بافيت -الملياردير الأمريكي وأحد أباطرة الاستثمار- قال في يوليو 2008 إن التضخم أكبر خطر على الاقتصاد. وذلك تعليقًا على ارتفاع سعر الغاز فوق 4 دولارات إبان الأزمة العالمية حينها. والعقود الآجلة لأسعار الغاز الطبيعي تسليم مارس سجلت 4.11 دولار للمليون وحدة حرارية. وذلك قبل أن تضرب روسيا طلقة واحدة بأوكرانيا.
بريانكا كيشور الخبيرة بمؤسسة أكسفورد إيكونوميكس العالمية للاستشارات والبحوث الاقتصادية تقول إن الارتفاع السريع المستمر لأسعار النفط يؤدي لظروف شبيهة بالركود ببعض البلدان. خاصة إذا كانت السياسة المالية متشددة. وسيكون تباطؤ النمو العالمي القشة التي قصمت ظهر البعير.
يرتبط تشديد السياسة النقدية برفع البنوك المركزية الفائدة لتحقيق مهمتها في خفض التضخم عبر تقليل الطلب مقابل العرض لوقف ارتفاع الأسعار. لكنه يؤدي إلى رفع كلفة الاقتراض البنكي. وبالتالي تحجيم قدرة الشركات على الاقتراض والتوسع في النشاط الاقتصادي وتشغيل مزيد من العملة.
ظل العالم طوال عامي 2020 و2021 يخشى الركود التضخمي. وهو مزيج بين الركود والتضخم مع نمو اقتصادي ضعيف وبطالة عالية. بينما ظهر لأول مرة في الستينيات والسبعينيات ببريطانيا.
النفط وصدمة العرض
ينتج الركود التضخمي عندما يواجه الاقتصاد صدمة عرض. مثل الزيادة السريعة في ثمن النفط التي ترفع تكاليف الإنتاج وزيادة أسعار بيع المنتج النهائي فيتعرض النمو الاقتصادي للبطء. ومن ثم يصبح الإنتاج أكثر تكلفة وأقل ربحية.
ووفقًا لبلومبرج إيكونوميكس فإن ارتفاع سعر النفط الخام إلى 100 دولار من 70 دولارًا نهاية عام 2021 من شأنه رفع التضخم بنحو نصف نقطة مئوية في الولايات المتحدة وأوروبا خلال النصف الثاني من العام.
يحذر بنك جيه بي مورجان تشيس من أن ارتفاع النفط لمستوى 150 دولارًا للبرميل سيوقف تقريبًا التوسع العالمي ويرسل التضخم إلى أكثر من 7٪. أي أكثر من ثلاثة أضعاف المعدل المستهدف من قبل معظم صانعي السياسة النقدية.
يقول بيتر هوبر -رئيس الأبحاث الاقتصادية العالمية في دويتشة بنك- إن الصدمة النفطية تغذي مشكلة التضخم بشكل أوسع وتخلق مناخا خصبا لحدوث تباطؤ كبير في النمو العالمي. فالنفط حالًيا أعلى بنحو 50٪ مما كان عليه في 2021.
يشكل النفط جزءًا من موجة صعود أوسع في أسعار السلع الأساسية. تلك التي اجتاحت الغاز الطبيعي أيضًا مع عودة الطلب العالمي بعد الإغلاق والتوترات بين روسيا وأوروبا وأمريكا بشأن أوكرانيا وتعقد سلاسل التوريد.
اختناقات الشحن العالمية تفاقم أزمات الاقتصاد الدولي
فيفيان لاو التي تدير شركة باسيفيك آير هولدنجز تقول إن أسعار النفط تأتي في وقت أصبحت فيه أسعار الشحن الجوي مرتفعة للغاية. بينما يرى بنك جولدمان ساكس أن أي زيادة بنسبة 50٪ لأسعار النفط ترفع التضخم الرئيسي بمتوسط 60 نقطة أساس. مع تضرر الاقتصادات الناشئة بشكل أكبر.
بنك “إتش إس بي سي” يرى أنه مع ارتفاع التضخم حاليًا لأعلى مستوياته منذ عقود. فضلا عن عدم اليقين المحيط بتوقعات التضخم غير المسبوقة بالفعل فإن آخر شيء يحتاج إليه الاقتصاد العالمي المتعافي هو ارتفاع آخر في أسعار الطاقة.
وقد حصل ذلك بالفعل. فمن المتوقع أن تظل أسعار الشحن عالية جدًا حتى عام 2022. وتجاوز السعر الفوري لحاوية 40 قدمًا إلى الولايات المتحدة من آسيا 20000 دولار العام الماضي. بما في ذلك الرسوم الإضافية والأقساط ارتفاعًا من أقل من 2000 دولار قبل بضع سنوات. وكان مؤخرًا يحوم بالقرب من 14000 دولار.
وتعني سعة الحاويات الضيقة وازدحام المواني أن المعدلات طويلة الأجل المحددة بالعقود بين شركات النقل والشاحنين تعمل بما يقدر بنحو 200٪. أي أعلى مما كانت عليه قبل عام. ما يشير إلى ارتفاع الأسعار في المستقبل المنظور.
أظهر مقياس التضخم الرئيسي الذي صدر الخميس الماضي في الولايات المتحدة أن الأسعار ترتفع بأسرع وتيرة منذ 40 عامًا وتتوسع لتلمس كل ركن من أركان الاقتصاد الأمريكي تقريبًا. فيما يزيد خطر استمرار ارتفاعها لفترة أطول وأن صانعي السياسة النقدية قد يضطرون للرد بقوة أكبر عبر السلاح الذي يملكونه وهو سعر الفائدة.
يتوقع خبراء بورصة وول ستريت أن يرفع البنك المركزي أسعار الفائدة لأكثر من 1.75% بحلول نهاية العام مقابل صفر حالًيا. بعدما أصبح التضخم المرتفع والمتوسع عبئًا سياسيًا على الرئيس جو بايدن. حيث إن ارتفاع الأسعار يقضي على رواتب الأسر وينتقص من سوق العمل القوي ونمو الأجور. كما عطل خطط بايدن لتمرير قانون شامل للمناخ والسياسة الاجتماعية نظرًا لمخاوف المشرعين بشأن ارتفاع الأسعار.