بطل رواية “واحة الغروب” حضرة الصاغ “محمود عبد الظاهر”، الوطني الحر الذي صدق حلم الثورة على الظلم، وناضل من أجل استقلال الوطن وحرية إرادته، وحلم مع الحالمين بأن تصبح مصر للمصريين، ويصبح على أرضها ما يستحق الحياة لأبنائها. وهو الحلم الذي تجسد مع قيام الثورة العرابية.

في انكسار هذا الحلم، تكمن أزمة الصاغ، متمثلة في هزيمة الحق وانتصار الباطل، وفي معاقبة الأحرار والأبطال، وصعود نجم الخونة والعملاء، وكل مشاعر خيبة الأمل التي صاحبت ذلك. عاش بعدها العديد من محاولاته الفاشلة في الصلح، مع ما اعتبره خيانة لنفسه، قبل أن تكون خيانة للثورة ولقائدها “أحمد عرابي”، والذين كانوا معه. طُلب منه أن يتنكر للثورة، وينكر صلته بها، وأن يصف زعماءها والمشاركين فيها بأنهم “بغاة وعصاة”، مقابل أن ينجو بنفسه ويحتفظ بوظيفته، وحين فعل خسر نفسه، ولم يكسب حتى ثقة رؤسائه، الذين أرسلوه إلى “واحة سيوه”، في ترقية لا تعني غير الموت.

**

أما بطل هذا المقال فهو الصحفي والسياسي والأديب “أحمد بك رفعت” الذي شغل موقع سكرتير “المجلس العرفي” وحكم مصر خلال الفترة من ضرب الإسكندرية حتى سقوط مصر في يد الاحتلال الإنجليزي، وكان المسؤول عن المطبوعات، ولمع اسمه على صعيد الخارج، فقد كان هو المتحدث الرسمي للثورة العرابية باللغة الأجنبية، وكان كاتبًا أديبًا تنشر أشهر الجرائد الفرنسية تعليقاته وأحاديثه وتصريحاته، واعتبرته واحدة من أشهر الجرائد الفرنسية في ذلك الوقت مرجعها في الشؤون المصرية.

كان “أحمد بك رفعت” على رأس الذين ثبتوا على مواقفهم، وسجن وحوكم مع قيادات الثورة العرابية، وتشهد محاضر التحقيق بثباته وصلابته وتمسكه بالمبادئ والقيم التي آمن بها وعمل من أجلها، رفض مسايرة المحققين، رغم الإغراءات والتهديدات بالسجن والنفي، لكنه ظل ممسكًا بجمرة الثورة، مؤمنًا بجدارة المصريين في أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، وبحقهم في أن يتطلعوا إلى حكم عادل، وحياة كريمة بحق، وحُكم عليه في النهاية بالنفي خارج البلد التي أحبها وشارك في ثورتها الوطنية الكبرى.

**

حين اطلعت على محاضر التحقيق مع الصحفي “أحمد بك رفعت” قفزت إلى ذاكرتي شخصية بطل واحدة من أهم إبداعات الروائي الكبير الأستاذ “بهاء طاهر”، رواية “واحة الغروب”، وبطلها “الصاغ محمود عبد الظاهر”، كلاهما (البطل الحقيقي، وبطل الرواية) عاصرا أحداث الثورة العرابية، وكلاهما تابعا عن قرب وقائع خيانة الثورة العرابية، والتنكيل برموزها، وكانا شاهدين على أحداث بدء الاحتلال الإنجليزي لمصر بمعاونة الخديوي “محمد توفيق” الذي خان الأمانة التي بيده، وناهض تطلعات المصريين نحو الدستور والحياة البرلمانية، ووقف ضد حقهم في المشاركة في حكم بلدهم.

هما من أبناء نفس الفترة التاريخية، وكانت لهما مواقف مؤيدة ومناصرة ومشاركة في ثورة المصريين ضد استبداد الحكام، وتحكم الأجانب في القرار الوطني المصري، وكلاهما حلما بمصر جديدة يحكمها الدستور، ويشارك أبناؤها في صناعة المستقبل على أرضها، ولكن افترقت بهم الطرق لحظة إعلان فشل الثورة العرابية، ودخول الإنجليز إلى مصر.

**

يصور الأستاذ “بهاء طاهر” بطل روايته قد اعتاد أن يكون في المنتصف من كل شيء، بين النبل والخيانة، بين البطولة والانتهازية، بين الرغبة والرفض، الكره والحب، يشك رؤساؤه في ولائه، ويعتبرونه ضابطًا متمردًا، له مشاركات في الكفاح ضد احتلال الإنجليز لمصر، فيقررون ترقيته وإرساله إلى “واحة سيوه”، بعد أن تبرأ من ماضيه.

حين وجهوا إليه تهمة الخيانة، وفي محضر التحقيق معه سأله أعضاء “القومسيون”: (هل كنت تؤيد أحمد عرابي وزمرته؟)، وكانت إجابته التي جنبته دخول السجن، وحفظت له مهنته، ونغصت عليه حياته من بعد: (بل كنت من الساخطين على أفعال البغاة)، ورغم ذلك صدر قرار إرساله إلى “سيوه” الذي رآه قرارًا بموته، سواء في الطريق إلى الواحة، أم فيها، لو قدر له الوصول إليها، وكان يحدث نفسه دائمًا: “خوفي من وصول القافلة سالمة إلى مقصدها لا يقل عن خوفي من أن تضل الطريق، أعلم جيدًا أني ذاهب إلى المكان المنذور لقتلي”.

**

عاش “الصاغ محمود عبد الظاهر” أزمته يؤنب نفسه طول الوقت، لأنه لم يستطع أن يتمسك بمواقفه أمام التهديد، وظلت إجابته في تحقيق “القومسيون”: عارًا يحمله معه طول الوقت. لم يغفر لنفسه تفريطه في جاريته نعمة، وكذلك لم ينسها، ولم يغفر لنفسه خيانته لثورة عرابي، وبرغم ذلك لم يستطع أن يجني ثمرة خيانته، ولم يذق طعمها حلوًا أبدًا، كان دائم اللوم لنفسه، وظل يعاني من تأنيب الضمير الذي يقض مضاجعه.

تتفاقم أزمة “الصاغ محمود” مع نفسه على طول الرواية، التي تنتهي بإقباله على تدمير المعبد القديم، أراد أن يدمر الماضي بجميع أشكاله، ونتابعه وهو يقف أمام المعبد وهو يقول: “يجب ألا يبقى للمعبد أثر، يجب أن ننتهي من كل قصص الأجداد ليفيق الأحفاد من أوهام العظمة والعزاء الكاذب، سيشكرونني ذات يوم”، ثم يقوم بإشعال الفتيل أسفل أعمدة المعبد وتتساقط الحجارة عليه ويفشل حتى في إنقاذ نفسه، وتفيض روحه المتعبة بعذاب الضمير والمنهكة من انكسار الروح.

**

استهوتني فترة طويلة فكرة الحصول على نصوص محاضر جلسات التحقيق ومحاكمات الثورة العرابية، ليس بصفتي قارئًا وباحثًا مهتم بالتاريخ المصري الحديث، ولكن بالإضافة إلى ذلك صفتي كمحامٍ سابق، ومتهم أسبق بمثل هذه الاتهامات التي تدور حولها كل القضايا السياسية.

كان أول ما لفتني في محاضر التحقيقات حين حصلت عليها، وقائع التحقيق مع “أحمد بك رفعت”، الشاب المدني المثقف الذي انحاز إلى الثورة العرابية، وعمل في مستويات قيادية رفيعة في حكومة الثورة، وشغل موقع سكرتير مجلس الوزراء، وكان مسؤولًا عن المطبوعات من قبل “المجلس العرفي” الذي كانت مهمته تسيير الأمور المدنية في البلاد، وقد بدت صورته مهزوزة في التحقيقات الأولى، ثم تبدَّى ثابتًا ومدافعًا عن الثورة والثوار في التحقيقات التالية.

لاحظت أن هناك ثلاث جلسات تحقيق لم يكن معه دفاع، وهي الجلسات التي شابت أقواله الكثير من المخاوف، واعتراه التشتيت الذهني جراء المعاملة الرديئة التي عومل بها، والتي تحدث عنها في الجلسة الرابعة للتحقيق معه، وهي الجلسة التي حضرها لأول مرة المحامي “مسيو برودلي” الأفوكاتو الموكل عنه، واستعاد فيها أحمد رفعت رباطة جأشه.

**

لاحظت لدى المطالعة المدققة -كمحام سابق- لوقائع التحقيق مع “أحمد رفعت” أن هيئة التحقيق أجرت الجلسات الثلاثة الأولى خلال ثلاثة أيام، واحدة يوم السبت 7 أكتوبر، ثم أخرى يوم الإثنين 9 أكتوبر (وهو نفس اليوم الذي دارت فيه وقائع استجواب الشيخ الإمام محمد عبده أمام هيئة التحقيق نفسها)، وبعد ما صرفته إلى السجن عادت هيئة التحقيق استدعته في اليوم نفسه مجددًا، وراحت تمطره بوابل من الأسئلة، وتسأله تفصيلًا عن أقواله التي سبق أن أدلى بها في الجلستين السابقتين، وهذه الجلسات الثلاث لم يكن لديه محام يدافع عنه، وكانت حالته المعنوية خلالها في أسوأ أحوالها.

ثم وبفارق ثمانية أيام عادت الهيئة نفسها من جديد للتحقيق معه على ثلاث جلسات أخرى، استغرقت خمسة أيام، وهي الجلسات التي حضرها محامي “عرابي والذين معه”. في تلك الجلسات التي توفر فيها واحد من أبسط حقوق المتهم في حضور محاميه، راح “أحمد رفعت” يجيب على أسئلة هيئة التحقيق بشجاعة، ودافع عن كل أفكاره وانحيازه السياسي إلى أهداف الثورة العرابية، بل وراح يناوش رئيس “القومسيون” الذي يحقق معه، وذكر له أنه هو نفسه كان معهم مؤيدًا للثورة، ومناصرًا لزعيمها “أحمد عرابي”، ما أزعج “إسماعيل أيوب باشا” أشد الازعاج، وانقلب الحال، وصار المحقق في موقع المتهم بنفس التهم الزائفة التي يلقيها في وجه المحقق معهم أمامه، واضطر أن يدافع عن نفسه أمام أقوال (اتهامات) “أحمد رفعت”.

**

كتب “أحمد رفعت” مقالًا سابقًا في جريدة “le temps” الفرنسية بناءً على أوامر “المجلس العرفي”، أكد فيه أن “المدافعين عن حقوق الأمة ليسوا فئة قليلة عاصية، ولكن المصريون جميعًا، أي الخمسة ملايين الذين يسكنون مصر، وأنهم جميعًا كانوا تحت السلاح دفاعًا عن حرية وطنهم، وأن المعارضين في الحرب هم زمرة خائنة قليلة العدد”.

سأله رئيسُ لجنة التحقيق عن برقية في تلك الصحيفة فيها دفاع عن عرابي إذا كان هو مرسلها؟ فقال رفعت بك: “نعم، وذلك بأمر مجلس الأمة الذي كنت أنت نفسك عضوًا فيه”، وقال الرئيس: “إني أنفي نفيًا قاطعًا أني كنت حاضرًا أثناء بحث هذه المسألة”، وأجابه “رفعت” بقوله: “لست أتذكر ما إذا كنت سعادتك قد وقعت على سجل الجلسات، ولكني أذكر أنك ذهبت معي يوم الجمعة 18 أغسطس في قطار خاص وكان بصحبتنا رؤوف باشا، وعثمان باشا فوزي وحسين باشا الدرمللي، إلى عرابي بكفر الدوار لتعبر له عما ترجوه له من نجاح”، وقال الرئيس محتدًّا: “إني أمنعك عن الكلام لولا أنك تتكلم عني”، وعاد “رفعت” يذكره أنهم جميعًا تناولوا الغداء مع “عرابي”، وأن “طلبة” طاف بهم على خطوط الدفاع وأنه -أي الرئيس- تمنى وهو الجندي القديم لو أتيح له الاشتراك في القتال، وفطن رئيس هيئة التحقيق إلى ما يرمي إليه رفعت في دهاء وكياسة، فقال: “إن كل إنسان يعلم أني ذهبت إلى هناك بما في ذلك الخديوي، وكان هذا بدافع حب الاستطلاع”.

وأحس رئيس المحققين أنه صار في مثل موقف المتهم فتدارك الأمر وسأل “رفعت” عما إذا كان ما جاء في البرقية من أفكاره، وأجاب “رفعت” بقوله: “نعم من أفكاري، كما أنها من أفكار كل امرئ سواي”، ويصف المحامي الإنجليزي “مستر برودلي” كيف سببت هذه الأقوال الفزع للمحققين فيقول: “لن أنسى أبدًا التماع الشر في عيني إسماعيل أيوب رئيس هيئة التحقيق حين تناول عددًا قديمًا من جريدة (le temps) كان يحتوي على مقارنة صريحة لا مجاملة فيها بقلم أحمد رفعت بين المدنية الفرنسية والرصاص الإنجليزي، وقال رئيس اللجنة يخاطبني: يا صديقي العزيز، أظن أنه يجب أن تتنحى عن الدفاع عن مثل هذا الرجل بعد هذا، وألقى إليَّ بالصحيفة، وقرأتُ المقال وكتبتُ على ورقة صغيرة: لو أنني كنت مكانه لفعلت مثل ما فعل”.

**

دافع “أحمد رفعت” في محضر التحقيق معه عن الجرائد التي كانت صوت الثورة ومنها ما نشر في اللطائف وفي المفيد من قدح وذم في حق “الحضرة الخديوية”، وقد نشرت الطائف ملحقًا بعنوان “فعل الخديوي” واعتبر أحمد رفعت كل هذا أمرًا طبيعيًا لأنه حسب نص قوله: “كان نتيجة هيجان الأفكار ضد (الحضرة الخديوية) وتأييد هذا الهيجان بالمجلس العمومي المنعقد في الداخلية وتقرر فيه توقيف أوامر سموه، وهذه الأفكار كانت حاصلة عند جميع الأهالي حتى الأطفال في الطرق، وليست خاصة بجريدة أو جريدتين”.

وسأله الرئيس: كيف سمح وقد كان مديرًا للمطبوعات أن تنشر جريدة “الطائف” مقالات فيها طعن على الخديوي، فكان مما أجاب به رفعت: “إن ما قالته جريدة الطائف وما قالته غيرها من الصحف كان نتيجة لقلق الرأي العام من مسلك الخديوي بعد انعقاد المجلس العام مرتين بوزارة الداخلية، وإن جريدة الطائف عبَّرت عما اعتاد أن يقوله حتى الصبية في الشارع”، وسأله الرئيس: هل معنى ذلك أنه يقر ما جاء بتلك الجريدة؟ فأجاب رفعت في شجاعة: “لقد تقرر في المجلس العام الذي انعقد بوزارة الداخلية والذي شهده العلماء والقواد والأعيان أن الخديوي خرج على الشرع المقدس، وحيث إني مصري فلم يكن في وسعي أن أخرج على ما أجمع عليه الناس فأعاقب جريدة (الطائف) مخالفًا بذلك ما في نفسي”.

**

كتب المحامي الإنجليزي “مستر برودلي” بعد زيارته “أحمد بك رفعت” في محبسه للمرة الأولى، يقول: “قد ازددت أملًا وثقة، وذلك لما ظهر له من شجاعته ودفاعه عن زعيمه، وتصويره إياه أنه كان زعيم شعب بكل ما تحمله الزعامة من معنى وأنه ظفر بمحبة الناس وعطفهم عليه وأن حركة مصر القومية من أقوى الحركات وأنبلها، وأن الحق سوف يظهر وسيُعرف عرابي على حقيقته وتتبين قضيته الوطنية للعالم”.

وحين حُكم عليه بالنفي خارج مصر سلم “أحمد بك رفعت” محاميه الإنجليزي “مستر برودلي” (الذي تولى الدفاع عن عرابي وعدد من القادة العرابيين)، رسالة مؤثرة صادقة العواطف كأنها كلمته الأخيرة إلى مصر والمصريين.

قال “أحمد رفعت”: “إن أمانينا القومية قد تحطمت في هذه اللحظة، ولكني لا أعتقد أنها ماتت أو دفنت، وإن أعداءنا في هذه اللحظة يتيهون زهوًا بالنصر، وتحمل أصواتهم المجلجلة كل خيلاء النجاح، ولكن لن يهنئوا طويلًا”.

**

انخرط المثقف والصاغ في الثورة، وحلما بنفس الحلم، ولكن اختلفت نهاية كلٍ منهما، ورغم أن نهايتهما لم تكن كما تمنيا، ولكن ظل يجمع بينمها حلم الثورة المغدورة، وقسوة الخيانات، خاصة تلك التي جاءت من رفاق اشتركوا في مساحة الحلم، كانت خيانة الصديق الذي وشى بالصاغ محمود عبد الظاهر قاسية، وهما رفاق سلاح، والأقسى أنه سيتبين قرب نهاية الرواية أن طلعت (الخائن) أصبح وكيلًا لحكمدار الإسكندرية، بينما نفي الصاغ محمود عبد الظاهر منبوذًا في واحة سيوة فيما يشبه العقاب أو العزل، وهي الأزمة التي جعلته في النهاية رجلًا مثقلًا بهموم الهزيمة والفشل في الحياة العاطفية والمهنية والسياسية، وانكسار الروح.

شخصيتان واحدة من التاريخ والثانية استلهامًا من الروائي للتاريخ ولكنهما تبقيان حيتين كأننا عرفناهما بالماضي القريب، رجل قتلته هزيمته النفسية، ورجل خلده وعيه بالقضية التي دافع عنها وتقبل أن يدفع ثمن تمسكه بمبادئه.