تمتلك مصر تاريخ زاخر بالعديد من الحرف والصناعات اليدوية التي توارثتها الأجيال. وتميزت بالدقة والإبداع للدرجة التي لفتت انتباه السلطان العثماني سليم الأول عام 1517م عند احتلاله مصر. فأخذ مئات الحرفيين المهرة وشيوخ الصناعات الحرفية الفنية المتوارثة وأرسلهم إلى إسطنبول ليؤسسوا هناك منشآت وصناعات حرفية تماثل ما تمتاز به مصر.

وقد أحصى المؤرخ الشهير ابن إياس عدد الحرف التي توقفت بعد نقل أربابها من ديارهم بخمسين حرفة. لكن مصر الولادة أنجبت أجيالاً جديدة من الحرفيين في كل المجالات. واستمرت بصماتهم باقية فوق الصروح المعمارية والحرف الغنية بالتصميمات الجمالية المنتشرة في محافظات مصر.

وبمرور الزمن تزيد وتيرة استخدام التكنولوجيا واعتماد الإنسان على الآلة، فتعاني هذه الحرف حاليا حالة تدهور. بداية من ندرة الفنيين والمتدربين الجدد وصعوبة التمويل والتسويق. وبالتالي قلة العائد المادي الذي يودي إلى عزوف الشباب عن احترافها. ما يشير إلى أن مثل هذه الحرف يستحق الدعم.

نظام الطوائف الحرفية

تروي فاطمة جلال -باحثة في التراث الحرفي المصري- أن الحرف اليدوية كانت انقسمت قديما لمجموعات من الطوائف الحرفية. وكان لكل طائفة شيخ أو نقيب. وكان الشيخ يتم اختياره من أبناء الطائفة نفسها.

تتركز معظم الحرف في القاهرة -في قطاع محدود من المدينة- فقد كانت للطوائف المهنية قاعدة جغرافية تستمد اسمها أحياناً من اسم تلك الطائفة. فتوجد طائفة “عمال حي باب الشعرية” وأخرى “تجار حي الغورية”. بالإضافة إلى طائفة “بياعي النحاس بالقاهرة”. إذ كان كل النحاسين متجمعين في سوق تحمل الاسم نفسه وفي ضواحيه القريبة.

تذهب “فاطمة” إلى غياب الترابط والتنظيم بين أرباب الحرف. ما أدى لاندثارها بفعل التطور الاجتماعي كمهنة (السقا والمشعلجي والشُبكشي). وأن العديد من الحرف النادرة التي تهتم بالفن القبطي والإسلامي تلفظ أنفاسها الأخيرة لهجرة أهلها لها. وذلك بسبب تدني العائد المادي وعزوف الشباب عن امتهان مثل هذه الحرف حاليا لضعف الدخل.

وأشارت إلى أن من بين الحرف المهددة بالاندثار مهنة “النجارة العربية” التي لم يعد يعمل بها سوى حرفي محترف واحد في مصر -“عم حسن”- في بيت الرزاز بالدرب الأحمر. والذي أكد أن الشباب يتعلمون المهنة هواية ولا يستكملون العمل بها.

من الحرف ما طعّم الخشب بالصدف

عملية تطعيم الخشب بالصدف يمكن فيها استخدام النحاس والحديد داخل الصدف لتطعيمه. كما يمكن إدخال خيوط الفضة في القطع الثمينة غالية الثمن.

وهي عملية شاقة تحتاج إلى مجهود لإخراج القطعة المزخرفة بالشكل المطلوب. تعاني هذه الصنعة وتواجه تحديات منها انخفاض الطلب عليها محليا وتعتمد على التسويق الخارجي. لذلك تحتاج إلى دعم رسمي لتنظيم التسويق الخارجي. حيث تحظى بطلب كبير خارج مصر. سواء في دول عربية أو أوروبية وفقا لماهر سيد -أحد العاملين بمهنة الصدف بشارع المعز.

يذكر “ماهر” أن صناعة الصدف تدخل في أشياء متعددة. منها الأنتريهات والمكاتب المطعمة. إضافة إلى العلب والصناديق وغيرها.

وقال إن الصناعة تمر بخمس مراحل. تبدأ بإنتاج العلب الخشبية ثم التطعيم بالصدف فالتلميع ثم كساء العلبة من الداخل بالقماش ثم التنعيم النهائي والدهان بالزيت المعدني قبل بيعها.

الخيامية ومواسمها

من أعرق الحرف المصرية. ويعتبر منطقة الدرب الأحمر بالغورية من أشهر مناطق الصناعة في هذه الحرفة وهي صناعة الرسم على القماش.

وترتبط صناعة الخيامية بشهر رمضان في مصر. لكن تجد لها مواسم أخرى خارج مصر طول العام. خاصة في دول الخليج. وهو ما يبينه إبراهيم عبد السلام -فني خيامية: “صناعة الخيامية تنتعش في مصر في رمضان وتضعف طول العام. لكن تجد رواجا لها بالأسواق العربية خاصة الشغل اليدوي منها. وذلك لجودته العالية. وتحتفظ بقيمتها التاريخية بعكس المنتجات المعتمدة على الآلات والتكنولوجيا الجديدة. خاصة إذا كانت القطعة قديمة وتعبر عن رمز تاريخي تكون قيمتها أكبر وسعرها أعلى. وأشار إلى أن حرفة الخيامية تواجه مشكلات كغيرها من الحرف اليدوية بسبب عدم إقبال الشباب عليها. إضافة لصعوبة تسويقها خارج مصر فرديا.

في خان الخليلي: يا نحاس مين ينقشك!

وفي خان الخليلى تنتشر حرفة النقش على النحاس وهي مهنة ضاربة في التاريخ المصري منذ العهد  الفرعونى وامتدت للقبطى والإسلامي وتهتم بالنقش علي الكاسات والفوانيس والأواني المختلفة بالرسوم الفرعونية أو الإسلامية أو الطبيعية.

يبين فخري رمزي مراد أن النقش على النحاس يقبل عليه الأجانب أكثر من المصريين. وكانت مهنة مربحة قبل تدهور الوضع السياحي وأزمة كورونا. لكنها تعني غيرها من الحرف المرتبط بالنشاط السياحي. مبينا أنهم كانوا يشاركون في معارض بالخارج بدول عديدة.

ويحكي: عشقنا مهنة النقش على النحاس لذلك نقوم بتدريب العديد من طلاب كليات الفنون للحفاظ عليها، لكن أغلبهم لا يرغبون في مواصلة العمل بها لأن ماعندهمش صبر.

خزف تونس.. فخر الفخار

تعتبر قرية تونس أكبر تجمع لصناعة الحرف اليدوية بعد القاهرة. وتشتهر بصناعة الفخار والعديد من المدارس الحرفية التي أسستها السويسرية “إيفلين بوريه”.

تعتمد صناعة الخزف في القرية على الطين الخام الذي يتم جلبه من أسوان. ثم يتم تخميره ووضعه في مكان مظلم لبضع ساعات حتى يكون جاهزاً للاستخدام. وبعدها يجري تقطيعه إلى قطع تتناسب مع الأشكال التي يود الحرفي إنتاجها. وبعدها تترك تحت أشعة الشمس قبل أن توضع داخل فرن لحرقه.

كرم كُليب -حرفي فخار- يقول إن القرية تمتلئ بعشرات المدارس المتنوعة في إنتاج الخزف والفخار وغيرها من خريجي مدرسة إيفلين. واستطاعوا أن يؤسسوا ورشا بعد احترافهم حتى تحولت القرية إلى خلية نحل تخدم على نفسها في العمل وإنتاج الشغل اليدوي، واجتذبت السياح وازدهر النشاط وتحولت القرية إلى مزار سياحي للفنانين وعشاق الهدوء والطبيعة الخلابة والمقتنيات اليدوية.

أفراح يا تُللي

التللى هو إحدى الحرف التي تشتهر بها جزيرة شندويل بمحافظة سوهاج. وهو نوع من التطريز عبارة عن خيوط مطلية بنسبة 80% من الذهب أو الفضة. ويعود تسميتها بهذا الاسم إلى الملك أتالوس من آسيا الصغرى. وهى حرفة كانت منتشرة في مصر بالقرن التاسع عشر.

بهيجة طوبجي -خميس من العاملين بهذا المجال- تقول: نغزل الجلابيب والستائر وأوشحة وفساتين السهر والعباءات بتصميمات مختلفة وحديثة. مشيرة إلى أن هذه الصنعة تواجه أزمة بسبب ندرة الخيوط التي تعتمد على الاستيراد من الهند وألمانيا. وهي مهددة بالانقراض بسبب ندرة الخيوط. خاصة خيوط الفضة مطالبة بتوفير المواد الخام حفاظا على مهنة تراثية يعتمد عليها مئات الأسر.

عروس البحر.. زجاج

عرفت الإسكندرية صناعة الزجاج قبل مئات السنين وازدهر الحفر على الزجاج في العصر الإسلامي. وأخذ أشكالا مختلفة لكنه بدأ مرحلة التراجع مع ظهور المصانع فانحسر دور الورش الصغيرة.

انتصار صلاح -رئيس جمعية حرف أهل مصر للتنمية الاقتصادية- قالت إنها تحاول تطوير هذه الحرفة أو الصناعة عبر ورشتها وإدخال أنواع جديدة في مجال الزجاج المعشق يمكن استخدامها في أدوات المنزل لشكلها الجمالي كالصواني ومقتنيات التجميل وتزيين الأماكن.

وتشير إلى أن هناك نوعين من الزجاج المعشق. نوع بالجبس وآخر بالنحاس والرصاص. وهو أغلى سعرا. وتبين أن صناعة الزجاج المعشق المصري استطاعت أن تحقق مراكز متقدمة تنافس حاليا المنتج التركي ويمكن لمصر أن تستغل هذه الصناعة لغزو أسواق خارجية أخرى.

غزل العرجون

أسوان واحدة من محافظات مصر التي تشتهر بالحرف اليدوية التي تعتمد على مخلفات البيئة المحيطة وإعادة تدويرها.

تقول بسمة فتحي -مسؤول التوثيق التراثي بالجمعية التعاونية للحرف اليدوية والتراثية بأسوان: نعمل في الأعمال اليدوية التي تعتمد على منتجات الخوص والعرجون وإعادة دمجهم مع الجلد الطبيعي إضافة لشغل الكروشيه والخرز.

وأضافت: نصل إلى الحرفيات في منازلهن وتدريبهن وتحسين جودة منتجاتهن ومشغولاتهن اليدوية. فضلا عن تمكين المحترفات منهن للوصول إلى أعلى جودة ودمجهن مع الجمعية وفتح خطوط إنتاج تسويق منتجاتهن. مشيرة إلى أن الغالبية من السيدات بالريف اللواتي لا يرغبن في العمل خارج المنزل نسعي لخلق فرص عمل لهن بمشاركة أزواجهن وأسرهن.

الحرف اليدوية -بحسب بسمة- تعاني بسبب غلاء أسعار المنتجات. لذلك يعتمد عائدها على النشاط السياحي. مطالبة أن يكون لهم معرض دائم في محافظة أسوان لتسويق شغل اليدوي. خاصة بعد عودة السياحة هذا العام بعد أزمة كورونا. وذكرت أن جودة منتجاتهم جعلتهم يشاركون في معارض في أمريكا وفيينا. لكنهم في حاجة إلى توفير المواد الخام من الجلد الطبيعي التي يقومون بشرائها من القاهرة بصعوبة. لكونهم جميعا نساء حيث تضم الجمعية 350 امرأة.

مشكلات وعقبات

وأكدت الباحثة فاطمة جلال أن أغلب أصحاب المهن ممن يمتلكون ورشا بوكالة الغوري والأزهر ترهقهم الديون والضرائب. مطالبة بتخفيف هذه الضرائب وتقديم الدعم المادي لهم بقروض ميسرة لمساعدتهم على مواصلة العمل والإنتاج.

وطالبت بتدخل الدولة لتنظيم معارض دائمة لهم وفي المناسبات الكبيرة كمعرض الكتاب لتسويق منتجاتهم وفتح أسواق خارجية. فضلا عن تنظيم ملتقى دولي للتراث والفلكلور لجذب السياح إليها واستغلال الأحداث الثقافية والمناسبات بعمل معارض دائمة لهم وأخرى بالمدارس لتعريف الأطفال بالحرف. كما طالبت بضرورة عمل حزمة محفزات لجذب الشباب لتعلم هذه الحرف اليدوية. منها عمل تأمين صحي واجتماعي لهم السماح بتأسيس نقابات تمثلهم وتدافع عن حقوقهم وتمثلهم. فضلا عن تسجيلها تراثيا للحفاظ عليها لأنها جزء من تراث الأمة المبعثر في أكثر من محافظة من سيناء إلى أسوان والفيوم.

دور الدولة في حماية الحرف

أنشأت الدولة مجمعا للحرف اليدوية ومركزا تعليميا بمدينة الفسطاط بمصر القديمة وثالث بمتحف الحضارة. وفي محاولة منها لإنقاذ الحرف التراثية تسعى  محافظة القاهرة بتفعيل اتفاقية التعاون مع اليونسكو المبرة منذ 2003 وإعادة إحياء بعض المدارس المهنية القديمة وتنظيم ورش تدريبية وندوات وتقديم الدعم لحماية هذه المهن من الاندثار. ومنها الأويما والخيامية والأرابيسك وصناعة السبح والزجاج والنحاس والخشب والحلي والذهب وتطعيم المعادن بالفضة.

تهدف المبادرة لتكوين جيل جديد من الحرفيين وتعليمه الحرف البالغ عددها 129 من كنوز وتراث مصر الشعبي للحفاظ عليها كجزء من التاريخ والهوية والثقافة المصرية. بالإضافة إلى تشكيل مجموعة من الشباب ليتولوا مهمة الاهتمام بالصناعات اليدوية والتراثية بمختلف المحافظات. وليكونوا نقطة اتصال بين الدولة والمصنعين بهدف إقامة المعارض وتسويق تلك المنتجات.

قصور الثقافة

أولت الهيئة العامة لقصور الثقافة بعد توجيه الرئيس عبد الفتاح السيسي فى يونيو 2017 الاهتمام بالحرف التراثية. وأنشأت في عدة قصور ثقافية متخصصة مراكز للحفاظ على الحرف البيئية والتقليدية من الاندثار عبر تدريب رواد هذه القصور على عمل هذه الحرف وإقامة المعارض لمنتجاتها.

توجد أربعة قصور ثقافة متخصصة في الحرف التقليدية واليدوية والفنية والتراثية. وهي (قصر كفر الشرفا للحرف الفنية-قصر الإبداع الفني 6 أكتوبر-قصر العمال بشبرا الخيمة-قصر أحمد بهاء الدين بأسيوط. وهو متخصص في ثقافة الطفل وبه ورش لتعليم حرفة التللي). وهي قصور تابعة إداريا للإدارة العامة للقصور المتخصصة التابعة للإدارة المركزية للدراسات والبحوث.