في ظل الوقت الذي يتنظر فيه العالم ضربة محتملة من روسيا ضد أوكرانيا، أبدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين -في لقاء جمعه بالمستشار الألماني أولاف شولتز- استعدادًا للدخول في مفاوضات مع الغرب. ذلك في أعقاب عودة بعض القوات الروسية المنتشرة قرب الحدود مع أوكرانيا إلى ثكناتها. ما اعتبره العديد من الخبراء بمثابة مناورة روسية لأجل إخضاع الأوروبيين والولايات المتحدة للدخول في حوار مباشر. على أن تكون ركيزته الأساسية تحقيق الشروط الروسية، تجنبًا لأي ضربات قادمة. وهو أمر يمنح روسيا القدرة على إعادة هندسة البيئة الأمنية العالمية.
روسيا ومسار التصعيد
يعيش العالم لحظة فارقة في تاريخه لم يشهدها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية باستثناء فترة أزمة الصواريخ الكوبية. وقد بدأت هذه اللحظة بطرد حلف شمال الأطلسي 8 أعضاء من البعثة الروسية، على خلفية اتهامات بالتجسس لصالح أجهزة الاستخبارات الروسية. ما سارعت موسكو بالرد عليه بتعليق عمل بعثتها الرسمية لدى الناتو في بروكسل في 18 أكتوبر.
كان ذلك نذيرًا بإغلاق قنوات الحوار واللجوء إلى وسائل أكثر صلابة.
ارتفعت حدة التوترات بين روسيا والغرب، مع رفع خطاب التصعيد وتبادل الاتهامات بين الجانبين. ثم اتجهت جميع الأطراف الفاعلة نحو حشد قواتها العسكرية. إذ بلغ عدد القوات العسكرية الروسية قبالة الحدود الأوكرانية نحو 130 ألف جندي. كذلك بدأت مناورات عسكرية مع بيلاروسيا. كما نشرت الأسلحة والمعدات على الخطوط الأمامية. فيما على الجانب الأخر نشر الناتو قواته في دول البلطيق وأوروبا الشرقية استعدادًا للمواجهات المحتملة.
وفي محاولة للوصول إلى تسوية ملائمة لجميع الأطراف، عقدت مفاوضات بين روسيا والولايات المتحدة. إذ قدمت موسكو مطالبها وشملت توفير الضمانات الأمنية الكافية من احتمالية شن أي هجوم على روسيا. وكذلك عدم قبول أوكرانيا كعضو داخل حلف الناتو. فضلًا عن وقف توسع الناتو شرقًا، والعودة بالأوضاع إلى ما كانت عليه في عام 1997. مع الالتزام بعدم نشر القوات النووية.
إلا أن هذه القائمة من الطلبات قوبلت برفض أمريكي، وتهديد بفرض عقوبات اقتصادية.
في تلك الأثناء، سلكت الدول الفاعلة في الحلف -لا سيما فرنسا باعتبارها رئيسة الاتحاد الأوروبي في الدورة الحالية- مسار المفاوضات أملًا في وقف التوتر وإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح. إذ عقد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مباحثات مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زلينسكي وبوتين. ولكنها أفضت بالفشل. وكذلك لم تفلح جهود الوساطة البريطانية.
مع فشل مساعي التفاوض المتلاحقة، اتجه قطاع كبير من المراقبين للأزمة الروسية الأوكرانية نحو ترجيح يوم 20 فبراير موعدًا للغزو الروسي. ذلك كونه يصادف الذكرى السنوية لضم موسكو شبه جزيرة القرم في عام 2014. وفي تلك الأثناء، أقدم البرلمان الروسي على التصويت لصالح مشروع قرار للاعتراف بجمهوريتي لوهانسك ودونيتسك. وهو أمر يقوض جهود السلام التي أقرتها اتفاقية مينسك.
أهم دلالات أزمة روسيا-أوكرانيا:
تخلي الولايات المتحدة عن حلفائها الأوروبيين
منذ قدوم الرئيس الأمريكي جو بايدن، وهو يتبع استراتيجية تتسم بالاستقلالية، والنأي بأمريكا عن الدخول في النزاعات القائمة سواء بالشرق الأوسط أو من أجل حماية الشركاء في أوروبا. وقد بعث رسالة مفادها، أن تعتمد كل دولة على إمكاناتها الذاتية في حماية أمنها واستقرارها. وأبرز دليل على ذلك، هو انسحابه من أفغانستان دون النظر إلى تبعات هذه الخروج.
وبالنظر إلى تسلسل الأحداث في أزمة أوكرانيا، فهي نتيجة تراجع أمريكا عن دعم حلفائها الأوروبيين ومحاولة روسيا كشف تلك الحقيقة والاستثمار بها لتحقيق مزيد من النفوذ. وعلى الرغم من تأكيد مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان بأن الغزو الروسي الكامل لأوكرانيا قد يحل قبل نهاية أولمبياد بكين، أي خلال أيام، إلا أن القيادة الأمريكية لم تتبع أي استراتيجية وقائية. بل اقتصر الرد على التلويح بفرض مزيد من العقوبات. ذلك على الرغم من أنها أثبتت عدم جدواها.
ولعل أبرز سمات التخلي الأمريكي تصريح جو بايدن بأن هناك فارق بين التوغل والغزو. وأضاف أن التوغل البسيط لا يستدعي فرض عقوبات. وذلك يمكن تفسيره بمثابة إعطاء الضوء الأخضر لبوتين.
اقرأ أيضًا: فيضان المعلومات الاستخباراتية يغرق كييف.. كيف تردع واشنطن موسكو دون استفزازها؟
أوكرانيا ساحة لتحقيق طموحات روسيا
على الرغم من أن روسيا تحاول تصدير أزمتها مع أوكرانيا لشرعنة استعدادها العسكري وحشد قواتها. إلا أن الصراع في مضمونه هو مواجهة بين الاستراتيجية الروسية والقوات الغربية الداعمة لأوكرانيا. حيث يحاول بوتين إعادة تعريف البنية الأمنية لأوروبا. بالإضافة إلى دفع الغرب للدخول في عملية تفاوض حقيقية.
وقد شكلت أوكرانيا المجاورة فرصة ثمينة للمناورة، كما أقر بذلك الرئيس ماكرون عقب محادثاته الأخيرة مع بوتين: “الهدف الجيوسياسي لروسيا اليوم ليس أوكرانيا بوضوح، ولكن توضيح قواعد التعايش مع الناتو والاتحاد الأوروبي”.
التحالف الروسي الصيني
في مقال بعنوان “تدفع الأزمة الأوكرانية روسيا والصين إلى مزيد من التقارب”، أكدت صحيفة “الفاينانشال تايمز” البريطانية توطد العلاقات الصينية الروسية بفعل الأزمة الأوكرانية. فكلا الدولتين بمثابة أعداء للسياسة الأمريكية. ما آل بهما إلى التحالف في مواجهة الضغوط الغربية. وهو أمر يسرّع عملية إعادة ترتيب كبيرة في الجغرافيا السياسية. خاصة وأن روسيا تدعم الصين في مسألة تايوان. كما أكدت الصين على حق روسيا في تأمين نفسها إزاء مخاوف أمنية مشروعة.
وفي خضم التوترات، اتفق الطرفان على إنشاء بنية مالية مستقلة تقوم على استخدام العملات الوطنية في الحسابات المالية المتبادلة. فضلًا عن تنسيق الجهود لمواجهة العقوبات المحتملة.
تراجع قيمة الشرق الأوسط سياسيًا:
رغم تعدد جبهات النزاع في الشرق الأوسط وطول مدة الصراع. إلا أن روسيا والولايات المتحدة وأوروبا لم تستطع حسم النزاع في أي دولة. لا سيما في ليبيا وسوريا. ذلك لأن الإدارة الأمريكية الجديدة لا تولي الشرق الأوسط أهمية. وبالتالي يتراجع قيمته كساحة للتفاوض أو إملاء الشروط. وقد تحينت روسيا الفرصة في أوكرانيا كساحة للمناورة واستنزاف الأوروبيين. ذلك حتى يظهروا كافة وسائل المقاومة. وبالتالي إخضاعهم لقائمة شروط موسكو.
فشل جهود الوساطة:
مر التوتر بين روسيا والغرب بمراحل عديدة. ولم تتمكن مختلف الجهود الأوروبية من وقف النزاع. ما يعكس أن الأوروبيين لم يدركوا الهدف الحقيقي من التحركات الروسية. وقد فشلت 3 جولات من المحادثات الدبلوماسية بين روسيا والغرب. إذ بدأ البيت الأبيض بتكثيف جهوده الدبلوماسية مع روسيا في ديسمبر. ولكن رفضت أمريكا قائمة الضمانات الأمنية الروسية الملزمة قانونًا. ثم تباحث ماكرون في 8 فبراير مع زلينسكي وبوتين. وعقدت وزيرة الخارجية البريطانية ليز تروس -في 10 فبراير- محادثات مع وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف. وهي المحادثات التي وصفها الأخير بأنها كانت “مفاوضات الخرس والطرشان”.
روسيا تستهدف تقسيم أوروبا:
لا يبدو أن الدول الأوروبية على نفس الموقف في طريقة التعاطي مع الأزمة مع روسيا. إذ أرسلت بعض الدول قواتها العسكرية لحماية أوكرانيا. بينما بعض الدول لا تزال تؤمن بالحل الدبلوماسي، ولا ترى أن التصعيد العسكري في مصلحة الأوروبيين. الأمر الذي ظهر جليًا في زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون الأخيرة إلى روسيا ولقائه بوتين.
وكذلك، حاولت ألمانيا التي تقع تحت وطأة احتياجات الطاقة التي تمثل خطرًا على الأمن القومي إذا تم المساس بها. ويشكل خط غاز “نورد ستريم 2” أحد المصالح المشتركة بين ألمانيا وروسيا. وهو يؤمن احتياجات ألمانيا من الطاقة بينما يمنح روسيا القدرة على تعطيل مسيرة الحياة في ألمانيا.
وتحاول روسيا توظيف ارتباك الموقف الأوروبي في زيادة رصيدها من الاستحواذ حتى يمكنها تحقيق شروطها. وكان لافروف تطرق إلى ذلك في أكثر من مناسبة في الوقت الذي حمل فيه الغرب مسؤولية انتهاج معايير مزدوجة إزاء روسيا على خلفية التصعيد الحالي حول أوكرانيا.
سلاح الطاقة
أصبحت الطاقة من العقوبات الاستراتيجية في ساحة الصراع. وروسيا أكبر مزود للطاقة إلى الاتحاد الأوروبي. ذلك بإجمالي 40% من الاحتياجات الأوروبية. كما أنها تتصدر باحتياطي يبلغ 47.8 تريليون متر مكعب على المستوى العالمي. ما يُمكّنها من إدارة أزمة الغاز في أوروبا، وفقًا لتصريحات المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية فاتح بيرول.
أكد بيرول على القدرة الفعلية لبوتين على قطع الإمدادات لمعاقبة الدول الأوروبية في حال وقعت حرب بين روسيا ودول أوروبا. وهو ما يشكل هاجسًا أمنيًا بالنسبة للدول الأوروبية، وفقًا لوكالة الإحصاء التابعة للاتحاد الأوروبي “يوروستات”.
تعتمد ألمانيا وحدها على الغاز الروسي في تغطية 50% من احتياجاتها من الطاقة.
وفي نفس الوقت تهدد أمريكا وبريطانيا بتعطيل خط أنابيب “السيل الشمالي-2” في حال وقع هجوم روسي على أوكرانيا. وهو أمر يهدد بخسائر اقتصادية كبيرة بالنسبة لروسيا.
الولايات المتحدة تفضل عقاب روسيا اقتصاديًا
في ظل اتجاه تغليب المصالح الاقتصادية الذي أرسته إدارة بايدن، يبدو أن القيادة الأمريكية تراهن على العقوبات الاقتصادية كوسيلة للردع. وقد أشار وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن إلى خطة أمريكا بقطع طرق التجارة الروسية حول العالم وعرقلة استيراد المواد الخام من روسيا. بالإضافة إلى تقليص حاد في عدد موظفي السفارات الروسية في أوروبا في حال وجهت روسيا أي هجمة عسكرية.
عسكرة دول أوروبا الشرقية والبلطيق
نشرت الولايات المتحدة 3 آلاف جندي إلى جانب قوات الناتو على طول الحدود مع روسيا في لاتفيا ولتوانيا واستوانيا ورومانيا وبولندا والمجر. كما أكد البنتاجون أن الولايات المتحدة سلمت ما يقرب من 450 مليون دولار من المساعدات الأمنية لأوكرانيا في عام 2021 في ديسمبر. وهو ما يرفع قيمة التسلح وكفاءة الاستعداد العسكري للتعاطي مع الأزمات الراهنة.
وفي الأخير، لن تتمكن روسيا بمفردها من مواجهة الغرب. وإنما ستحاول إظهار نفسها كقوة عظمى من خلال وضع العالم بأكمله في حالة التأهب العسكري. بينما سيمنحها التفاوض فرصًا أكبر من أي هجوم عسكري على أوكرانيا. إذ أن روسيا لن تستطيع التكيف مع كافة صور العقوبات المحتملة. وعلى النقيض، من المحتمل أن يؤدي قيامها بغزو أوكرانيا إلى توحيد الجبهة الأوروبية كقوة مضادة أمام النفوذ الروسي.