يعتبر إصلاح المؤسسات الدينية هدفًا رئيسيًا لكل تجارب التحديث والتقدم في العالم كله. كما أن الإصلاح الحقيقي الذي شهدته هذه المؤسسات جرى عقب إصلاح المنظومة السياسية المحيطة بها. فأوروبا العصور الوسطي شهدت إصلاحًا دينيًا داخل الكنيسة الكاثوليكية وتمردًا عليها. بينما خرجت أفكارًا دينية إصلاحية بروتستانتية على يد مارتن لوثر، واجهت السلطة البابوية، التي قررت في 1517 منع مواطني الكنيسة الرومانية من الدفاع عن أفكاره ونشرها. كما عرفت أوروبا الحروب الدينية التي سقط فيها مئات الآلاف من الضحايا بصورة ربما فاقت ضحايا الحروب بين أبناء الديانات الأخرى.

والحقيقة، أن الكنيسة الكاثوليكية لم تنسحب من المجال السياسي ولم تفقد حظوتها على السلطة السياسية القائمة ولم تنته الحروب الدينية، إلا بعد أن عرفت أوروبا إصلاحات سياسية وبنت دولة مدنية حديثة فصلت فيها الديني عن الزمني، وجعلت الإيمان الديني قضية شخصية بين الإنسان وربه، والكنيسة مكانًا آمنًا للعبادة لها أدوار ثقافية ورمزية. فيما اختفت هيمنتها السياسية على النظم القائمة عقب استقرار الدولة المدنية الحديثة.

هل كان يمكن أن يتراجع دور الكنيسة المهيمن على عقول الناس ويتوقف عن إعطاء الشرعية لنظم استبدادية قائمة إلا بعد أن تأسست دولة قانون وقضاء عادل ومستقل يلجأ إليه الناس للحكم فيما يجري بينهم من منازعات وليس إلى رجال دين يحكمون وفق أفكار دينية لا علاقة لها بالواقع ولا حتى جوهر النصوص الدينية؟ وهل كان يمكن أن يتراجع الدور السياسي للكنيسة إلا في ظل نظم ديمقراطية حديثة قوضت من السطات المطلقة سواء كانت زمنية أو دينية؟

الواقع، أن شعور المواطن في النظم الحديثة أن دولته ومؤسساتها المدنية هي التي تحقق له العدل على الأرض، وهي التي تقدم له نخب سياسية يكون قادرًا على نقدها وتغييرها، وفن ملهم وموسيقي راقية وحفلات أوبرا مجانية، وفيها حرية رأي وإبداع، ولم تشغل بالها بالمنع أو التحريم حتى لو كانت هناك فنون هابطة أو شبابية غير متوافق عليها. لقد تركت للمواطن حرية الاختيار وأهلت له الظروف لكي يشغل عقله وينمي قدراته الإنسانية عبر مؤسسات سياسية وتعليمية وثقافية تقوم بدورها، فاختار أن تكون علاقته بكنيسته هي علاقة روحية فقط، يستمع فيها لكلام الله ولقيم ومبادئ الدين المسيحي السامية دون تدخل في السياسة والاقتصاد.

أما في بلادنا فيبدو الأمر غريبًا أن يتصور البعض أن الإصلاح الديني سيبدأ وسينتهي من المؤسسات الدينية، وأن قضية تجديد الخطاب الديني تختزل في أن يطرح الأزهر أفكارًا مستنيرة، ويجدد خطابه الديني، ويطور مناهجه، حتى لو بقت المؤسسات المدنية على حالها.

واللافت أن الأزهر قام بالفعل بكثير من هذه المهام. ومع ذلك لا يزال المجتمع يعاني من أفكار متشددة ومن أفكار ظلامية وطائفية. بما يعني أن هناك أدوار إصلاحية لمؤسسات أخري سياسية وقانونية وثقافية وإعلامية وتعليمية لا تزال غائبة. وبسبب هذا القصور في أدائها لا يزال المجتمع يعاني من هذه السلبيات.

وقد يرى كثيرون أن الإصلاحات التي جرت في الأزهر غير كافية، وهم محقين، لكنها حدثت في وقت لم تشهد فيه كثير من مؤسسات الدولة أي إصلاحات. وقد يرى البعض الآخر أن تجديد الخطاب الديني أولوية لأن الإرهاب بجري باسم الإسلام، والعالم يحتاج لمؤسسة عملاقة بوزن الأزهر لدحض هذه الأفكار (وهو يحدث)، بالإضافة إلى ضرورة تقديم صورة مختلفة أكثر عصرية وإنسانية للإسلام (لا يزال فيها قصور).

إن تحميل الأزهر وحدة مسؤولية مقاومة التطرف والإرهاب أمر فيه قصور شديد، لأن دوافع الإرهاب ليست فقط دينية أو ترجع لتفسيرات منحرفة لبعض النصوص، إنما أيضًا سياسية واجتماعية، فكثير ممن تورطوا في عمليات إرهاب عبر العالم وتمسحوا في الإسلام لم يدخلوا مساجد ولم يقرؤوا كتب الفقه المستنيرة كما المتشددة، إنما كان دافعهم ثأر وانتقام سياسي أو عوز اقتصادي ومادي، وجاء المظهر الديني مبررًا للفعل الإرهابي الأخير. فكيف نحمل المؤسسات الدينية فقط مسؤولية عنف وإرهاب دوافعه مركبة، ونطالبها دون غيرها بالتجديد ونترك الجمود يلف باقي المجالات والمؤسسات.

لقد شهد الأزهر في عهد شيخه الطيب إصلاحات عميقة في خطابه الديني والإعلامي وفي مناهجه التعليمية، وتبني مفاهيم المواطنة وحقوق المرأة وكرامة الإنسان دون أي دعاية، وتأسس في عهده مرصدًا حديثًا يضم كفاءات شابة قادر على مخاطبة العالم ومواجه الفكر المتطرف باللغات الأجنبية. صحيح، يحتاج الأزهر إلى مزيد من الإصلاحات، وإلى إصلاح إداري وليس فقط فكري، وإلى مزيد من التجديد في لغة أئمته ومشايخه.

لا يمكن لأي مؤسسة دينية أن تشهد إصلاحًا كاملًا دون إصلاح السياق السياسي والمجتمعي الذي تعيش فيه، وأن الكنيسة الكاثوليكية لم تصلح خطابها ورسالتها إلا بعد أن تأسست دولة القانون المدنية وتغير المجتمع وأصبح يطالبها بالإصلاح، وأخشى أن استهداف الأزهر سيجعلنا ننسى مسؤولية الدولة تجاه المجتمع، الذي أثبتت كثير من مواقف الأزهر إنه أكثر تقدمًا من جانب كبير منه.

وقد يكون موقف الأزهر من التحرش مقارنة بموقف قطاع واسع من المجتمع لافتًا في هذا الإطار، فقد رفض المقولة المجتمعية التي تقول إن سبب التحرش هو زي الفتاة القصير، أو البنطلون الضيق، أو أنها غير محجبة، واعتبر شيخ الأزهر التحرش جريمة مكتملة الأركان “لا يجب الصمت أو غض الطرف عنها”، وأن “ملابس المرأة أيًا كانت ليست مبررًا للاعتداء على خصوصيتها وحريتها وكرامتها، وإن التحرش إشارة أو لفظًا أو فعلًا جريمة قانونية وإثم شرعي وانحراف سلوكي، وتجريم الفعل والفاعل يجب أن يكون مطلقًا ومجردًا من أي شرط أو سياق”. وهو موقف ديني وإنساني يستحق التقدير.

يقينًا، السياق الذي حكم الإصلاح الديني في الغرب يختلف عن السياق العربي الإسلامي، والحديث الدائم عن غياب الكهنوت في الإسلام لم يحل دون وجوده كسلطة معنوية تؤثر في قناعات الأفراد، كما أن حضور الشخصيات المؤثرة في طريقة تفكير الناس من شيوخ قبائل وعائلات، ومن رموز إعلامية وفنيه لا يزال واضحًا، واختلاف السياق بين المجتمعات العربية والإسلامية واختلاف رسالة المؤسسات المسيحية الغربية عن نظيرتها الإسلامية في العالم العربي، لم يحل دون وجود مشترك إنساني يتعلق بهدف الإصلاح والحفاظ على الكرامة الإنسانية والعدل.

إن قضية الإصلاح في أي مجتمع لا تخص فقط أو أساسًا المؤسسات الدينية إنما تخص أساسًا النظام السياسي ومؤسساته المدنية، والأزهر بما قطعه من أشواط في اتجاه الإصلاح سيكون داعمًا للمسار الإصلاحي المدني المسؤول عن إتمام عملية الإصلاح الشامل في المجتمع وليس الأزهر.